سؤال: ما تفسير هذه الآية: “وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهاَ”؟
الجواب: وردت مسألة تعليم الأسماء لآدم عليه السلام في سياق الحديث عن خلافة آدم في الأرض واستفسارِ الملائكة ببصيرتهم النافذة قائلين: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ (سُورَةُ البَقَرَةِ: 2/30)، أي إن في الإنسان عناصر جِبليّة من أصل جوهره تشير إلى أنه سيُفسد في الأرض ويسفك الدماء، وكأنهم قالوا: يا ربنا إذا ما نظرنا إلى معدن هذا الإنسان يتبدى لنا أن فيه قابلية لأن يكون سفاكًا للدماء مُستنقعًا للنفاق.
والملائكة مَثَلهم كمثل الذين يستدلون بسِمات الوجه على روح الإنسان ومعدنه، فرأوا ما ذُكِر في المحيّا المعنوي لسيدنا آدم عليه السلام؛ إذ كان ذلك كلّه محرّرًا على وجه بشرٍ خُلِق من طين الأرض، وكانت فيه خصائص أخرى من أثر النفخة الإلهية، إلا أن الملائكة لحظت الشِّقَّ الأول.
أجل، في الإنسان جانبان: التراب، والنفخة الإلهية؛ ففي التراب الشهوات والأهواء والأطماع والغل والحقد؛ وبالنفخة الإلهية خُلِقَ في أحسن تقويم ومُنح قابلية ليرقى إلى أعلى عليين، وليتبوأ مكانة بين ساكني الملأ الأعلى.
لحظت الملائكة الجانبَ الجسماني في آدم عليه السلام، فاستفسروا: ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ (سُورَةُ البَقَرَةِ: 2/30)، وعلَّم اللهُ آدمَ الأسماءَ كلها من حجر وشجر ومدر ليمتحن الملائكة، ولما كان تعليم الأسماء وحدها لا يعني شيئًا علَّمه الله مُسمَّيات هذه الأسماء إجمالًا.
لكل اسم مُسَمًّى، وكل ما في الوجود عبارة عن واحد يتشكل من اسم ومسمّاه، فتعليم الأسماء لآدم عليه السلام معناه أنّ الله تعالى علّمه مدلول تلك الأسماء أيضًا، أمَّا سيدنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم فعلَّمه الله تفصيل ذلك المجمل؛ أجل، علّم الله آدم عليه السلام فهرس كتاب الأشياء، وفصّله لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأشار الحقّ جل وعلا بمسألة “تعليم الأسماء” إلى أن آدم هو خليفة الله في الأرض؛ خلقه من عناصر من أديم الأرض، فسُمي آدم، فهو خليفة الله جلّ جلالُه في الأرض وصاحب مقام الجمع -كما قال محيي الدين بن عربي-؛ ورؤيةُ الأشياء بعدسة آدم تُجلِّي وحدة الوجود في رأي ابن عربي، والإنسان هو محلُّ نظر الله في الأرض وجامع أسمائه، فهو صاحب مقام الجمع لا مقام الفرق، وإلى هذه المنزلة الخاصَّة التي تبوّأها آدم عليه السلام أشارت مسألة “تعليم الأسماء”.
ومعنى هذا أنَّ الله تعالى ألهمَ آدم عليه السلام خلاصة العلوم كلّها، فتعلم آدم بالوحي زبدة الحقائق الدينية ومجمل العلوم الطبيعية من كيمياء وفيزياء وفلك وطب وغيرها، أي مبادئ هذه العلوم وأسسها وقواعدها الأساسية، لا تفصيلها بكل دقائقها.
أجل، ربّما كان تعليمُ هذه الأشياءِ المجملة شيئًا من الرموز، لكن هذا القدر منها عظيم جدًّا بلا ريب حتى إنّها عُرضت على الملائكة فلم تعرف عنها شيئًا.
ويمكن تفسير عدم علم الملائكة بها هكذا:
عالَم الأجسام مغاير لعالم الأرواح تمامًا، والبشر كائن من عالم الأجسام من ناحية، وكلّ جزء من كتاب الطبيعة الذي نشاهده هو من هذا العالم؛ ولا يتأتّى معرفة المشاهد الجسمانية معرفة تامة لغير الجسمانيين ولو من وجه، فمثلًا: هناك أبعاد للرؤية والسماع في العالم الجسماني، وهذه الحواسّ خاصّة بالعالم الجسماني؛ أما الملائكة الكرام فأبعاد الرؤية والسماع عندها مختلفة جذريًّا لأنها موجودات روحانية؛ فبعض الأجسام اللطيفة حتى الجنّ تتمثل في صورةِ كائنٍ جسمانيّ، وتتخذ جسده عدسة لترى منها عالم الشهادة، ولتشاهد بعينه العالم الجسماني؛ فماهية هذا العالم في نظرك غيرها في نظر الملائكة والروحانيين؛ ترى الملائكةُ الكرام الربيعَ والصّيف والزهور والحشرات والهوامّ بخلاف ما تراها أنت، فنظرُ الملائكة له أبعاد أخرى؛ لذا تشاهد الأشياءَ على خلاف ما تراها به وتشعر وتتمتع به أنت.
وقد تكون الأسماء التي علّمها ربنا جل وعلا لآدم عليه السلام حقائق مجملة عن الآيات الكونية والشريعة الفطرية والقوانين السارية في الكون، ولما كانت الملائكة ذات أجسام لطيفة لا يمكنها معرفة هذه الأشياء التي هي من خصائص الأجسام الكثيفة، قالت: ﴿سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ (سُورَةُ البَقَرَةِ: 2/32).
وعند الجمع بين هاتين المسألتين يتبين أنّ الحقّ تبارك وتعالى علّم آدم عليه السلام الحقائقَ المجملة في الكون، ثم نضج هذا العلمُ شيئًا فشيئًا حتى بلغ الكمال فانتهى إلى سيّدنا محمد صلى الله عليه وسلم صاحب الكمال والمقام المحمود، فكان محمدًا وأحمد ومحمودًا وحامدًا؛ فهو مظهر لكلّ شيء يُعلَّم، أي أصبح بكل ما أوتيه هاديًا وسراجًا منيرًا لسبلٍ تبلغ بسالكها الحمدَ والثناء، ولم يُؤْتَ أحد حتى الآن مثل ما أوتي صلى الله عليه وسلم؛ وهو مثل القرآن الكريم جاء ليكون مظهرًا للأسماء الإلهية كلها، وهو بين الأنبياء كالفاتحة بين سوَر القرآن.
وكان آدم عليه السلام أول مظهر للآيات السبع في سورة الفاتحة، ومدارُ الآيات السبع على سبع صفات قدسيّة، وتلمح الآيات السبع الصفاتِ السبعَ من مشكاة اللدنّية، وتكشف عن حقائق سبع. وهذا الأمر يمثله الإنسان تمثيلًا كاملًا في الصلاة، فيسجد على سبعة أعضاء، أما النبي صلى الله عليه وسلم فهو مظهر للفاتحة التي فُصلت آياتها في القرآن الكريم بأكمله، وهذا يعني أن الفاتحة فُصلت بالنبي الأكرم صلى الله عليه وسلم؛ فسُمي النبي صلى الله عليه وسلم “أحمد”، وأمته “الحمّادين”، ولواؤه الذي سيجتمع الناس يوم القيامة تحته ليستظلوا بظله “لواء الحمد”.
أجل، ألهم الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم وعلّمه الأسماء تفصيلًا، فما أسعده وأسعدنا!
وفي مسألة تعليم الأسماء إشارة أيضًا إلى العلوم الطبيعية؛ فهذه الآية كما يقول الأستاذ النورسي رحمه الله تعبّر -من حيث جامعية ما أودع الله في الإنسان من استعدادات- عن كل ما ناله من الكمال العلمي والتقدم الفني، ووصوله إلى خوراق الصناعات والاكتشافات، وهذا التعبير ينطوي على رمز رفيع دقيق، وهو: أنّ لكل كمالٍ ولكل علمٍ ولكل تقدمٍ ولكل فنٍّ -أيًّا كان- حقيقةً سامية عالية، وتلك الحقيقة تستند إلى اسم من أسماء الله الحسنى، وإلا فهي ظل ناقص مبتور باهت مشوش.
فالهندسة -مثلًا- علم من العلوم، وحقيقتُها وغاية منتهاها هي الوصول إلى اسم “العدل والمقدِّر” من الأسماء الحسنى، وبلوغ مشاهدة التجليات الحكيمة لذينك الاسمين بكل عظمتهما وهيبتهما في مرآة علم الهندسة.
والطب أيضًا علم وفن، ولا يتأتى إدراك حقيقته وكماله إلا بالاعتماد على اسم الله “الشافي”، وبمشاهدة تجليات رحمته في صيدليته العظيمة على سطح الأرض، وبمعرفة أن الشافي الحقيقي هو الله عز وجل.
وهكذا سائر العلوم والفنون، يُعرف مداها بقدر إسنادها إلى اسم من الأسماء النورانية لله تعالى، وبالأحرى استشعار استنادها إلى أسماء الله؛ وإلا فلا يصل الإنسان في ظلمات النظريات والفرضيات إلا إلى الأوهام.
والله أعلم بالصواب.