Reader Mode

سؤال: ما معنى الآية الكريمة: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ (سُورَةُ الأَعْرَافِ: 7/172).

الجواب: في هذه المسألة سؤالان:

1- مَن المسؤول، وكيف طُرح عليه السؤال؟

2- متى طُرِح هذا السؤال؟

ثمة آراء يمكن عرضها بين يدي السؤال الأول:

1- إن هذا يعني تَلقِّي الإنسانِ أمرَ الله “كُنْ” ولم يكُ شيئًا، وامتثاله لهذا الأمر. فمن هذه الزاوية يُعَدّ هذا الميثاق ميثاقًا تكوينيًّا لأنَّ فيه طلبًا واستجابة.

2- لما كان الإنسان محض جُزَيْئات في عالم الذرّ وما وراءه ألقى ربّ العالمين -الذي ربّى كل شيء وساقه نحو الكمال- الرغبةَ في هذه الجزيئات أن تكون بشرًا، وأخذ عليها العهد والميثاق بأن تتجشم ما لا تطيقه أية ذرّة منها من حمل أعباء أثقل من جبل قاف، وذلك باستجابتها لطلب الله في الوجود.

يبدو أن ما جرى على هاتين الصورتين من “سؤال وجواب” أو “طلب واستجابة” لم يكن قولًا أو صراحةً، فبعض المفسرين يرى أن هذا الميثاق جرى على سبيل الاستعارة التمثيلية؛ إذ يبدو أن العرض والقبول أو الطلب والاستجابة في هاتين الصورتين لم يكن قولًا أو صراحةً، ومعنى هذا: كأنّه قيل كذا، وأجيب بكذا، فعُدَّ هذا عقدًا تتوافر فيه القيمة القانونية، وإلا فهو ليس بالعقد الذي يتم بالإقرار والمكاتبة.

الحق أن لله تعالى آلافًا من أنواع الخطاب والجواب، وتفسير المسألة دون اعتبار لهذه الأنواع لا يخلو من التكلف، وسنَعرِض لهذا الأمر في مكانه.

3- هذا العقد بما فيه من إشهاد وشهادة ما أبرم إلا ليعرف الإنسان نفسه، بل ليدرك أنه هو وليس شيئًا سواه، إنه يعني معرفته لنفسه، وتمثّله حقيقة “من عرف نفسه فقد عرف ربه”[1]، ومشاهدتَه مرآةَ ماهيته، وشهادتَه على الحقائق المتنوعة التي تنعكس على شعوره بهذه الطريقة، ثم إعلانَه كل ما شاهده.

ولكن هذا الإيجاب والقبول أو الطلب والاستجابة أو السماع والإعلام ليس صريحًا ولا مما يتأتى إدراكه بالحس على الفور، ولعلّه مما لا يُدرك إلا بالتنبيه المستمرّ، ومن هذه النقطة تمخضت أهمية تكرار الإرشاد أيضًا.

وإنّما جُعِلَت النفس أو الأنانية المودعة في الإنسان ليعرف بها خالقه جل وعلا ويقرّ بوجوده تعالى. حقًّا الغاية من خلق الإنسان ليست شيئًا سوى هذه المعرفة وهذا الإقرار، فوجود الإنسان فيه دلالة على وجود الله، وفي صفاته دلالة على صفات الله، كما يدلّ قصور الإنسان ونقصه على كمال الله، وافتقاره على غنى الله، وعجزه وفقره على قدرة الله وإحسانه سبحانه؛ وتلك هي أولى هبة وإحسان من الله تعالى للإنسان، أما ما تقتضيه هذه الهبة والإحسان فهو معرفته تعالى وإدراكه، وهما يعنيان الإعلان عن الإقرار بالخالق العظيم الذي يشهد الإنسان وجودَه في كل موجود ونُورَه في كل ضياء، وهذا معنى سؤال “ألستُ بربكم” وجواب “بلى”، وكأن هذا العهد إيجاب وقبول تجلَّى في إدراك معنى ما سطرته القدرة والإرادة في ذاك الكتاب العظيم، ودرْكِ ما بين سطور الحوادث من أسرار.

4- لا ينبغي أن نفكر ولا نحكم على هذا العهد وما فيه من سؤال وجواب بمقاييسنا المادية، فالحق جلّ جلاله يُلقي أوامره على مخلوقاته كافّة، كلّ حسب ماهيته، ويسمع ويجيب ما ينبعث منها من أصوات وأصداء، ويؤتيها سُؤْلها.

وإذا ذهبنا مذهب علماء الكلام فلنا أن نقول: كما يسمع الله قول الناس، الذين يعبّرون عن مراميهم بألسنة شتى ولهجات متعددة؛ كذلك يُنزِل عليهم أوامره بألسنة ولهجات متباينة، ويبيّن لهم الحقائق ويعرّفهم بماهية الإنسان والكون، ويأخذ عليهم العهد والميثاق بما يدخل من القول والبيان في جملة “الكلام اللفظي”؛ ولله عز وجل كلام آخر سوى ذلك، وهو يعدّ مظهرًا وتجلّيًا آخر لكلامه النفسي، يبدأ بما يُلهمه الله للحيوانات وينتهي بخطابه للملائكة.

ودائرة متعلَّقات هذا النوع من الكلام واسعة، مبدؤها ما يرِد على قلوب البشر من إلهامات، ومنتهاها عالم الملائكة؛ ولا يمكن لدائرةٍ سماعُ وإدراكُ أيِّ كلامٍ أو تبيانٍ أو رسالةٍ تتعلق بدائرة أخرى؛ فكل دائرة تختلف في ماهية “الاستقبال والإرسال” عن غيرها.

ومن الخطأ الجسيم أن ندّعي أن بإمكاننا سماع كل شيء، واليوم أدركْنا أننا لا نستطيع سماع سوى 1/1.000.000 من الأصوات مما يمكن سماعه، كما لا نستطيع أن نرى إلا هذا القدر مما يمكن رؤيته، فلا قدْر ألبتة لِما نسمعه ونراه إزاء ما لا نسمعه ولا نراه؛ فيتعذر علينا إذًا أن نتبين بطاقاتنا المحدودة خطابَ الله للذرات وأوامرَه للأنظمة وتركيباتها وتحليلاتها، لأن هذه كلها تجري في أبعاد أخرى سامية.

إن الله يأخذ في عالم الذر وفي بطون الأمهات وفي مرحلة الطفولة ميثاقه على الذرات والجزيئات والخلايا، لكنا لا نقدر أن نتبين هذا واضحًا بطاقاتنا المحدودة ألبتة، لا سيما إن كان هذا الميثاق بين الله وبين روح الإنسان أو الوجدان الذي هو آلية في الروح.

إن روح الإنسان كائن مستقل، ووضوح هذه المسألة مما لا مراء فيه اليوم، فعِلمُ النفس الغيبي (Parapsychology) الذي يحيط بفروعه المتنوعة دنيا العلم كلَّها لفَتَ أنظار الناس إلى الروح بموجوديتها ووظائفها وأحلامها وأمانيّها وآمالها، فما من محفل علمي أو كواليس فكرية إلا وهذه المسألة مثار حديثهم، ولما كنّا قد بحثنا مسألة الروح في موضع آخر مستقلًّا، فسنعرض الآن لما يتعلق بموضوعنا:

إن وجود الروح قبل جسم الإنسان، وماهيتُها غير مقيدة -من ناحية- بحدود الزمن؛ فإن وقع الإيجاب والقبول في الميثاق معها، فلا طاقة لنا باستيعاب هذا الأمر ألبتة، ففهمُنا قاصر وكذا البيان؛ فأسلوب الروح وهي تتحدث ربما يشبه ما يجري في أحلام الإنسان من الخطاب، بل إنّ الروح كما في التخاطر تتواصل وتتفاهم دون حاجة إلى ذبذبات الصوت.

وإنّ مسألة كهذه في وزنها تحظى باهتمام كبير حتى في مجتمع ماديّ كالاتحاد السوفيتي، وهذا أمرٌ ذو مغزى عميق، فمعناه أنه اعتُرِف بأن للروح لغةً خاصّة في الكلام؛ وسيُسجَّل هذا الكلام ويُحفظ في شرائط غير التي نعرفها، فإذا ما آن الأوان ظهر ذلك بأسلوب خطابٍ خاص ولغة خاصة به، وتجلى بتداعيات خاصة به.

هكذا استُدعيت الأرواح في مقام “ألستُ” ليَعهد إليها الرب الجليل سبحانه وتعالى، فرأوا كل شيء عِيانًا بَيانًا، لأنه لم يكن حينذاك حائل الجسمانية، رأوا وأبرموا العقد بقولهم “بلى”؛ لكن الذين أغفلوا مبحث الضمير في كتاب الروح -وهم اليوم كثير- لم يقفوا على مثل هذا العقد والميثاق، ولا سبيل لهم للوقوف عليه، إذ إنهم لم يدققوا النظر في هذا العالم ولم يبحثوا فيه؛ والحقّ أن هذا هو الكتاب الصامت الذي أصغى إليه “بيرغسون (Bergson)” مُعرضًا عن الكون بأسره، واستمع إليه “كانط” وقد اتخذ ما كُتب عن الخالق جل وعلا وراءه ظهريًّا، فعلى الإنسان أن يستمع للروح ويُصغي إلى إلهاماتها، وينشئ مختبرات لفهم لغة الوجدان؛ ويتحرّى ملامح الحقيقة في فهرست ينعكس في الشعور، هذا الكتاب هو الشاهد على الحقيقة العظمى، وهو أسلم الشواهد من الخطأ، وهو الذي وقّع العقد؛ أمّا مَن حيل بينهم وبين السعي وراء معرفة مثل هذه اللغة فليس يسيرًا شرح هذا لهم.

ولو أن العقول برئت من أحكامها الراسبة لَسمع الإنسان وجدانَه يقول للميثاق الأول “بلى”. نعم، إن المقصد الرئيس من البحث والتفكر في الآفاق والأنفس هو: إنقاذ الذهن من هواجسه، وتحرير الفكر، والاجتهاد في قراءة كتابات الوجدان الدقيقة بعدسة الفكر الحر؛ نعم فهناك من عوّدوا أنفسهم على النظر في أعماق القلب بهذا الشكل، وليس ثمة كتاب يمكنهم أن يُلْفُوا فيه ما اكتسبوه بمشاهداتهم القلبية ولطائفهم المعنوية، بل إن إشارات الكتب الإلهية وإيماءاتها لا تنكشف بألوانها الخاصة إلا بهذه العدسة؛ أما من عجزوا عن أن يروا هذا الأفق أو أن يجتازوا حدود نفوسهم فلا قبل لهم بفهم أي شيء منها ألبتة.

والسؤال الثاني في هذه المسألة: متى أُخِذ عليهم ذلك العهد؟

بداية من العسير الاستدلال على هذا بحديث أو آية، ولبعض المفسرين في هذا أقوال يمكن عرض شيء منها:

قيل: وقع هذا والمني يُمنَى في الرحم، وقيل: عند تخلق الجنين بشرًا سويًّا، وقيل: عند بلوغ الطفل سن الرشد والتكليف… ولكل منهم وجهة نظر، ولكن يصعب ترجيح قولٍ على آخر.

وكما يحتمل أن يكون العهد أُخِذ عليهم في عالم الأرواح يحتمل أيضًا أنه كان في عالم آخر اجتمعت فيه الروح بالذرات، وكما يمكن أن يكون في إحدى مراحل الجنين يمكن أيضًا أن يكون في فترة ما إلى أن يبلغ الرشد… كل هذا محتمل، فإن الله سبحانه يخاطب الماضي مع الحاضر ويسمع ما في الماضي مع ما في الحاضر بلا زمن، ونحن ما زلنا نسمع هذا النداء الذي ينبعث من أعماق ضمائرنا، ونستشعر شهادة قلوبنا على هذا العهد.

نعم، إن للمعدة لسانًا خاصًّا تعبّر به عن الجوع، وللجسم عبارات خاصة يترجم بها عن آلامه ومعاناته، وكذلك للضمير لغته الخاصة، فهو يذكّر بالعهود ملتزمًا بمصطلحاته، ويئنّ لما ينزل به من غموم وهموم، ويجتهد ليفي بوعدٍ قطعه على نفسه، ويمضي في انفعالاته بجيشان لا يفتر؛ ويرى أنَّه سعيد محظوظ عندما تجلب أنّاتُه الأنظارَ إليه كما الطفل يفعل، ويتلوى في انكسار على الدوام إذا لم يستطع أن يعبر عن حاله ولم يجد سلوى لآلامه.

إن القلب هو مرآة صقيل تتجلى فيها الحقيقة العظمى، فما أثراه من مكتبة! وما أعظمه من سجلّ! وما أسماه من حافظة! لكن لمن يفهم لغته فحسب…

[1] انظر: العجلوني: كشف الخفاء، 2/312.

فهرس الكتاب

 

About The Author

عالِم ومفكِّر تركي ولد سنة 1938، ومَارَسَ الخطابة والتأليف والوعظ طِيلة مراحل حياته، له أَزْيَدُ من 70 كتابا تُرْجِمَتْ إلى 40 لغة من لغات العالم. وقد تَمَيَّزَ منذ شبابه المبكر بقدرته الفائقة على التأثير في مستمعيه، فدعاهم إلى تعليم الأجيال الجديدة من الناشئين والشباب، وَبَذْلِ كلِّ ما يستطيعون في سبيل ذلك.

Related Posts