يعيش قسم من البشر من غير ممارسة للفكر. وقسم آخر منهم يفكر، ولكن لا يعكس فكره على واقع الحياة قط. أما ما ينبغي فهو أن يعيش الإنسان وهو يفكر، وأن يبتكر أنماطاً فكرية جديدة إذ يعيش، فيتفتح على آفاق مُركّبات فكرية مختلفة. والذين يعيشون من غير فكر هُم دُمى تُمثّل فلسفة حياة للآخرين. هؤلاء يلهثون للتغير من شكل إلى شكل، ولا يملّون تبديل قوالبهم، ويضطربون ما عاشوا في الانحراف بين الشعور والفكر، والانـزلاق في الشخصية، والتمسّح بين الصورة والسيرة. وقد يتقاسمون حيناً حظوظاً حصل عليها المجتمع، ويستفيدون حيناً من توافق مجرى الأمور -وكأنها تترتب حسب تفكيرهم وحسهم وإرادتهم- لكنهم لن يريحوا أرواحهم البتة بالمحاسن والفضائل الإرادية، ولن يَشبّوا بها إلى العلى، ولن يوجهوها إلى اللانهاية. هؤلاء يشبهون برك الماء العقيمة والمحرومة من البَرَكة والخامدة والمعرضة إلى الأُسون. فلا يبعد أن يتحولوا بمرور الزمان إلى مجمع للفيروسات ومأوى للمكروبات، بَلْه أن يفيدوا بشيء باسم الحيوية.
وهم ضحالٌ فكراً وسطحيون رأياً إلى درجة كأنهم أطفال يقلدون كل ما يرون ويسمعون، وينجرون وراء الطغام هنا وهناك، ولا يجدون سانحة للإحساس بأنفسهم والإنصات إلى دواخلهم وتمحيص قيمهم الذاتية… بل لا يشعرون البتة بوجود قيم تخصهم بأنفسهم. فيحيون كعبيد لأحاسيسهم الجسمانية والبدنية عبودية لا انعتاق منها. ويُسَخِّرون كل شيء حصلوا عليه، ويحصلون، لخدمة الجسمانية في إطارها الضيق، ويغيّرون أعظم الألطاف التي وهبها الله للإنسان، كالقلب والإرادة والحس والشعور، إلى وسائل رخيصة لملذاتهم البدنية، ويقضون أعمارهم في بوهيمية. المقام والمنصب والشهرة والمنفعة والحرص على الحياة، من أهم العوامل التي تُعيّن حركة هؤلاء وفعالياتهم. وسواء أعرفوا أم لم يعرفوا، فهم يقعون كل يوم في واحد أو أكثر من هذه الفخاخ القاتلة، ويذبحون أرواحهم مرات بسكين أرذل أنواع الموت.
وليس لأمثال هؤلاء ماضٍ ولا مستقبل، ما داموا يرددون قول عمر الخيام: ” لا تَشغل البَال بماضي الزمان/ولا بآتي العيش قبلَ الأوان/واغنم مِن الحاضرِ لذّاتهِ/فليسَ في طبعِ اللَّيالي الأمان”، ويتبعون غرائزهم الحيوانية، ويرون الدنيا عشبا ومرعى، ويحيون راغمين أنف مشاعرهم ومَلَكاتهم الإنسانية. فلا ينفكون من التقلب المضطرب في المستنقع و”اللوثيات”.
أما الذين يعيشون حياتهم مفكرين، ويجعلون -حسب درجاتهم- كل يوم، أو كل ساعة، من حياتهم ميناءً أو مرسى أو طريقاً للأفكار المبتكرة، فهؤلاء يمضون أعمارهم في خوارق العيش ما فوق الزمان، ومفاجآته وسحره، فيتجرعون الماضي كماء نبع مبارك، ويتنفسونه نفحةَ رائحةٍ في رئاتهم، ويطالعونه ككتاب، ويسيرون إلى المستقبل بهذه العُدة… ويحضنون الزمن الآتي بحرارة قلوبهم، ويلونونه بآمالهم، ويصورونه بعزمهم وإرادتهم… ويحتسبون الزمن الحاضر مركزاً استراتيجياً لتنفيذ أفكارهم المثالية، ومصنعاً لإنتاج التقنيات الضرورية في هذا السبيل، وجسراً للعبور من النظري إلى العملي… وَيَجدّون دوما كي يكونوا فوق الزمان وفوق المكان.
فهُم من وجهة يطالعون الوجود والزمان في هذا المستوى، ومن وجهة أخرى ينسلخون من ضيق الحياة الجسمانية وينفسحون في رحاب عالم الفكر ويسيحون -وهم في هذه الحياة الفانية الموقوتة- على سفوح ممتدة إلى اللانهاية في عالم آخر ذي بُعْدٍ أبدي… يسيحون ويدفعون عربون اللانهاية بأفكارهم وأحاسيسهم وآمالهم، ويتعايشون مع مشاعر اللانهاية، ويتطلعون إلى ثراء الكينونة الإنسانية في أغوار الرحاب اللَدُنّية التي حفروها في مغاوص قلوبهم، ويجدّون في اصطياد أنواع الفجاءات بالشِباك التي نشروها في قلوبهم مما لا تبصره الأعين ولا تستمع إليه الآذان ولا يتصوره خيال الإنسان. فترشدهم علومهم ومعارفهم ومكتسباتهم العالية فوق المستويات، إلى ما هو أعلى، بل أعلى المعالي، ويؤمّل كلّ منهم أن يكون عُقاباً سماوياً. فهؤلاء الذين يحيون حياة كهذه، ويجعلون أعمارهم مزارع لأشجار الفكر، سَمّوهم إن شئتم أهل الحكمة، أو أبطال الفلسفة ذوي الهدى، وعرّفوهم كما تشاءون، لكن اعلموا بأن رجال النور الذين يحيكون التاريخ برقة وظرافة نسيج الحرير، قد ظهروا دائماً من بين هذه الأرواح العالية، على مر الزمان الممتد من العوالم القديمة إلى عصرنا الحاضر. وحتى أنظمة البراهمية والبوذية والكونفوشية والطاوية والزرادشتية، التي تشبه النظم الفلسفية وليس الأديان، هي هدايا أبطال الروح إلى الإنسانية.
فإن ألحان صروح الفكر هؤلاء، تسمع دوماً في خرير تيار الفكر المديد إلى الماضي. إن الرؤى المختلفة إلى الحياة وأنماط الحياة المتنوعة وأحواض الحضارات العالمية والثراء الثقافي في الجهات الأربع من العالم القديم والجديد، كانت دائماً من نتاج بيادر الفكر لهؤلاء الأبطال. فمع كل هذا التبديل والتحريف والإبعاد عن الأصل الذي أصابه، يمكننا أن نقول باطمئنان تام إن القسم الأعظم من البشر في الأرض لا زالوا يتبعون آثار ذلك المحتوى والمعنى والروح القديم -مهما تعسر التأليف بين الحياة المعاصرة وبين هذا القول- وأظن أن الضرورة قائمة لكي نتقبل استمرارية الأخطاء -كحالة طبيعية- بحسن الظن وحسن التأويل، وذلك إلى أن يجد “الممثلون” الأبطال الأمورَ التي لم تتعرض إلى التحريف والتبديل من تلك المرجعيات.
وبناءً على ذلك، ما يجب علينا اليوم -ونحن نستعد للتجديد مرتبطين بأوثق الروابط بجذور معانينا الذاتية- هو أن نجهّز الأبطال الذين يجيدون تلقيح أنفسهم بأمصال الوقاية المستخرجة من ذات أرواحهم… الأبطال المُنْشِدون القادرون اليوم على أداء الكلمات لأناشيد ماضينا من غير تعثر بشيء أو بعائق، وعلى استشعار توقد الحماس في قلوبنا المتجددة كل مرة بتلون آخر.
والواقع أننا سوف يطالنا خراب عظيم على أيدي صناعٍ أجانب أغرارٍ، لحين إعدادنا وتجهيزنا لهؤلاء الأبطال. وإبّان ذلك، ستشتغل الإنسانية جمعاء أيضاً بصب أساطيرها القديمة لملء فراغ القيم الأزلية الكونية التي تبحث عنها بوجدانها فلا تعثر عليها بعقلها… فتتقلب من فقدان الطمأنينة إلى دوار الأزمة، ومن دوار الأزمة إلى تخريبات جديدة.
لقد غابت عن واقعنا منذ قرون منظومة فكرية ذاتية، وفلسفة حياة ذاتية، تعتمد على الحركيات الإسلامية التي تشكل جذور المعنى لثقافتنا “الملّيّة”، فتشتتنا شذر مذر، نحن وعالم كبير مرتبط بنا. ومن الضروري أن نميز بين النسق الفلسفي والفكري لمترجمي نظام الفلسفة اليونانية المتجمعة في الحوض الفكري لأرسطو، من أمثال الكندي والفارابي وابن رشد، وإلى حد معين ابن سينا، وبين نسقنا الفكري وفلسفتنا في الحياة، الموصولة الجذور بالسموات، القديمة كالأزل، لكن الجديدة، بل الأكثر جدة من الجدة ذاتها، إلى درجة القدرة على استيعاب كل العصور، والمنضودة من الحكمة والحِكَم. فموضوع نسقنا الفكري قائم على تفسير ذي تنـزل من اللاهوت والجبروت والملكوت والناسوت، ومعلوم المنشأ ومنوّرٍ، ومعتمدٍ على حقيقة الخلق. فإذا استطعنا أن نتفهم هذا التفسير والتأويل بنكاته الذاتية، نكون قادرين على إبراز نظامنا الفكري. وهذا يعني في الوقت نفسه افتتاح طرق واسعة تؤدي إلى تجديد جاد على مستوى العالم كله.
لقد بذلت الجهود في سبيل نظام فكري كهذا مرات كثيرة منذ عهد محمد الفاتح -جعل الله مثواه الجنة- لكنها لم تبلغ الغايات المرجوة منها. هذه الملاحظة يمكن أن تتعرض إلى المناقشة من بعض جوانبها، لكن الحال هو هذا عموماً. لقد جَدّ الكثيرون في أن يستجيبوا لمثل هذا البحث والترقب في الوجدان الاجتماعي العام، كأمثال خوجه زاده والملا زيرك، أو مصطفى رشيد باشا ومهندسي “المشروطية” (الحكم الدستوري)، ومنهم إلى كثيرين من عمال الفكر في المرحلة الحديثة، الخالصة نياتهم وغير الخالصة. لكن بعضهم تعثر وتوقف عند “تهافت” ابن رشد والإمام الغزالي، وبعضهم غرق في دوامات الثورة الفرنسية واوغوست كومت، وبعضهم تلهى وانشغل بهذيان دركهايم… ولم تكلّ الحركة أبداً، لكن لم يحسبوا حساب العصر حيناً، أو تراكضوا وراء الأحلام وحدها، أو اتخذت الأهواء والرغبات آلهة من دون الله فتبدد في الحيرة والضياع ميراث ألف سنة من القيم “الملّيّة”. ويا ليتنا استطعنا الآن أن نتجاوز هذه السلبيات… هيهات هيهات! فلسنا ندعي أننا ننظر بعين الرضا إلى هذا الجانب من واقعنا. فكم أتمنى أن نتجاوز السلبيات كلها، وأن نطور نظاماً فكرياً وفلسفة “مِلّية” تتغذى من مصادرنا الذاتية!
وأشير هنا إلى أن آراءنا ستتناقض مع بعضها باستمرار وسينهش بعضنا بعضاً في فخ “التعارض والتساقط”، بسبب الاختلاف في زوايا الشعور والإحساس بالكائنات وتفسيرها، ما لم نُقِم ما نبنيه على قاعدة فكرية راسخة كهذه، وما لم نمتلك نظاما فلسفياً كهذا. فيجب تحقيق عائدية مستقبلنا إلينا، مثلما حاضرنا، بهذه الأصول، وبهذا النظام، وبفيض أسلوب تتقاسمه الأجيال جميعاً. فإذا لم تتحقق الوحدة في مشاعرنا وفكرنا ونمط حياتنا، فستظل الوحدة “الملّيّة” والتضامن “المِلّي” أُمنية حماسية. فالمنطلق “الملي” والفكر “الملي”، والمحاكمة “الملّيّة”، وواردات الروح، أمور بالغة الأهمية في أي نظام من الأنظمة. فإن أي نظام فكري يستطيع أن يحقق وحدة الحس، ووحدة المنطق، ووحدة المحاكمة، وسهولة التعايش معاً لشعب من الشعوب، بالمقياس والقدر الذي يستمد من عقل الشعب ووجدانه وعالم أحاسيسه… وعلى الضد إذا تصادمت المشـاعر والأفكار والتفاسـير والأساليب، وتناقضت المحاكمات، فإن تزاحم الحركة في هذه الأحوال، لا يعني كثرة البركة البتة. ودع عنك البركة، فكثيراً ما يؤول المصير إلى الاضمحلال في هذه الأوضاع. إن كل حملة وجهد في المجتمع الذي يعاني من فوضى في الفهم والتفسير يشبه أمواج البحر المرتطمة ببعضها، إذ تتكاسر دوماً وتنصبّ إلى حوض عطالتها وتلف وتدور في فراغ الدور والتسلسل الفاسد. ولعلنا نجد بالتمحيص حكمةً في تكاسر أمواج البحر بالارتطام مع بعضها، لكن أمثال هذه المصادمات في المجتمع لا يخلف إلا التعفن والانحلال وإهدار النفس. ففي مثل هذا المجتمع، يكون كل فرد ذئباً يفترس الآخر، وكل فكر برنامجاً للموت. ومع أن السماء تمطر رحمة على مثل هذا العالم، لكن الهيئة الاجتماعية تبقى تحت تهديد عُثّتها. وكذلك تبقى القيم التاريخية فيها معرضة إلى الانخراق والتمزق، وتبقى المقدسات مهددة بالتبدد. ولا محل للوفاء عند الكهول في الركام البشري لهذا المجتمع، ولا مكان للفتوة عند شبابهم. فالقوى الفتية والحركية المأمول منها أن تسمو بالمستقبل كسارية العلم على هاماتها، هي التي تحتقر الراية وتشتم الماضي من جهة، وتحسب المستقبل ساحة جنون لإجراء رذائلها من جهة أخرى… أما الكهول والمثقفون الذين سلموا أنفسهم للامبالاة المفزعة، فيتصرفون كمشجعين لفكر “اللوثيات”… فتراهم يثيرون البوهيمية في الأرواح ويصبّون ماء النار على البصائر، بأقوالهم وكتاباتهم ورسومهم وبرامجهم في وسائل الإعلام.
وفي مثل هذه المرحلة، لا تحفز مآوي العلم عشق العلم وفكر العلم في الأرواح… ويلعب أصحاب أيديولوجيات معينة بالذين يمثلون القوة وكأنهم دمى، يفترس بعضهم بعضاً… ويضطر المنطق والمحاكمة والإلهام على المسير في الممرات الضيقة للرموز والإشارات… وبدهي أن الحياة بذاتها تكون تعذيباً للحياة في مجتمع كهذا، عامرٍ بالنقائض والمخالفات، مقدّمٍ للرغبات والأهواء على الفكر.
والحال أن نظام الفكر وفلسفة الحياة عندنا رحيبة، تتناول عوالم الوجود، وما عدا الوجود، وما قبل الوجود، فتقيّم الأشياء وما عدا الأشياء في كلية، وتعيّن معالم نمط الحياة في تكامل وإحاطة. فهو نظام يحقق العدالة الكونية المرتقبة في الأرض كلها بتحويل السلوك الأخلاقي إلى حال السيولة في المجتمع وأجزائه الأفراد، ويستجيب للمتطلبات الإنسانية، فيصل المجتمع في ظل ذلك إلى القدرة على تجديد نفسه ذاتيا بالتربية على الروح والأخلاق والفضيلة والتفكر. ثم يكون فكرنا الحضاري وغنانا الثقافي كسلعة رائجة في كل أقطار الأرض، فنغدو اليد المعطاء التي تقدم في ارتياح هبات فكرنا الإنساني وفلسفتنا الأخلاقية وفهمنا للفضيلة ومتلقياتنا للعدالة. وبفضل هذا الوضع والمستوى أيضاً، تنبجس الحركيات الإدارية والأصول الاجتماعية والاقتصادية في الدولة، كما في مصادرها الأخرى، من الروح الذاتية للأمة، فتتحرر من أنواع “المقيِّدات” كلها. إن “التقيّدات” الضمنية المضروبة على رقابنا حتى الآن كالنير، بسبب نقاط ضعف فينا أو مديونيات علينا، ومهما كانت خفية غير جلية، عَرّض نظامنا الإداري، وأنظمتنا الاقتصادية والسياسية والعدلية إلى العطل والفشل، وأصابها بالشلل. إن أبناء أرومتنا الذهبية الذين جعلوا الأناضول أرقى بلاد الأرض عمرانا قد نسجوا أو أنشأوا أنظمتهم الإدارية والسياسية وتشكيلاتهم العدلية، بمستلزمات الروح الذاتية. فلم يسمحوا لفكر أو لمؤسسة أو لَتَلقٍّ أن يجتاز من أبواب هذه المؤسسات التي تُعَدّ “بيوت الحرم” للأمة، ما لم يُقَيّم بالمقوِّمات والمعايير الذاتية. ودع عنك أن يأذنوا بذلك، فهم لم ييأسوا حتى حين انسحابهم جانباً وقد أثخنتهم الجراح مغلوبين إلى مدة، بعد حرب ضروس مع العالم كله، ولكن مع بريق الأمل، مهزومين ولكن مع الإيمان. فلم يتوانوا عن إلقاء أيديهم إلى التهلكة لحماية أصل حياتهم الذاتية، وتراكموا حول الشعور التاريخي، وعضوا عليه بالنواجذ -حسب إفادة الحديث النبوي- على الحركيات التي يدينون بوجودهم لها… فكانت نواصيهم عالية، وتَلَقّياتهم عن الدنيا والعقبى موزونة، وأنفاسهم حرى، ماضين نحو “إحياء” جديد…
وقد نستطيع أن نكون مثلهم، وقد نتقدم عليهم، ونحن نترقب فجراً يتبع فجراً في هذا الزمن، إذا قيّمنا الدنيا التي نعيش فيها تقييماً صحيحاً من وجهة أفق الحكمة الذاتية، ففسرنا الأشياء والحوادث تفسيراً صحيحاً، وشخّصنا المتطلبات الأساسية لبناء إنساننا الداخلي، وانشددنا بفكرة التواجد والحضور إلى الأبد. وما الذي يعيق الأجيال البصيرة عن تقدم الصفوف، ما دامت قادرة على تقييم الماضي والحاضر والمستقبل على صعيد واحد، وحامية لأعراف المجتمع وتقاليده وحركيات تاريخه، وماهرة في تفسير تكرر التاريخ باتجاه تجديد الذات؟
ومن المفيد أن نذكر مرة أخرى بأن مسؤوليتنا الأساسية اليوم هي إشعار وجدان الأجيال بمؤثرات الكدح المبذول منذ عصور مديدة، والعقائد الإيمانية المتشربة في النفوس، والثقافات المتأصلة الجذور، على قدر أعماقها في ذاتها، وذلك بتطوير حس التاريخ في الأمة. فإذا نجحنا في هذا، فلن يخطر على بال أحد بعد جيلين أو ثلاثة أجيال أن يعيش فوق تراب هذه البلاد، ثم يستعير لمؤسسات الشعب المتنوعة مصادر أجنبية عن حركيات روحنا ومعنانا.
نعم، نحن نجلب عناصر حياة الغد من ماضينا. فإن استطعنا أن نعجنها في معاجن ثقافتنا الذاتية بنور الدين وضوء العلم، نكون قد جهزنا خميرة أبديتنا.