Reader Mode

إن الانسجام بين الأشـياء والحوادث جبري واضطراري، والنظام بين البشر إرادي، ومصدره الأعظم هو مخافة الله ومهابته. والنظام اسم جامع للأمان والاطمئنان والانسجام الاجتماعي ورجاء المستقبل الزاهر. فلا يُنتظر الأمان والانسجام من الفوضى، ولا المستقبل والعطاء من اختلاط الحابل بالنابل.

وقد يبدو لأول وهلة أن النظام أثر من آثار الإرادة البديهة والعقل المجرد. لكن عقلاً لم يَدْخُل في طاعة الروح، ولم يجتث جذورَ الالتفات إلى الشر، ولم يُعْلِ ميول الخير فيه إلى عنان السماء، كثيراً ما ينحرف إلى الفوضى.

النظام يسـود دائماً ومنذ خلق العالم فيما عـدا الإنسان من الكائنات. الانسجام في حركة الذرات، والرونق في وجوه الزهور، والتآلف والتوازن بين الموجودات الحية وغير الحية، وغمزات النجوم في صفحة السماء الفائضة في قلوبنا شـعراً وعواطف، والمعاني المنسوجة خمائل على الأغصان والأوراق والأزهار، وأنفاس الروح في الحياة… نظام فتان يتحكم في كل مكان وكل شيء.

نعم، إن تأمّلَ الوجدانُ لحظةً واحدة في كتاب الوجود فأبْصَر، لشهد في كل مكانٍ النظامَ والانسجام فوّاحاً، وغنىً في الجمال والمعاني مدهشاً. ولا تمس الحاجة إلى تحسس شديد الرهافة، فالقلب المشحون بشيء من المشاعر يحس كل لون وصورة وصوت ونَفَس شعراً ونغماً متلوناً بألوان اللانهاية، في الرعد المهيب كما في تغريد الطيور وزقزقة العصافير، وفي وجوه الأزهار الفاتنة كما في أضواء صفحة السماء الساحرة. ومن يدري ما يشهده الذين يتقدمون خطوة إلى الأمام في فيزياء الوجود وكيميائه وحياتياته وفضائياته.

فكل شيء يقول: النظام… الانسجام… وكل شيء ينادي بالمعاني الرحيبة في روح الوجود. كل الأشياء: من همهمات البحر إلى خوف ضربات القفار الموحشة على أوتار أحاسيسنا، ومن السكون الوقور للتلال إلى شواهق ذرى الجبال، ومن دوي البحار الدائم إلى نعومة خمائل اللانهاية المرفرفة في أعماق السماء.

فكيف طرأ اللانظام -الذي نسميه الفوضى- على الأرض، والنظام ينبجس في كل مكان وفي كل شيء؟ لقد عرفت الأرض الفوضى، ومن خلفها اللاأخلاقية، مع بني البشر الذيـن لم يسلموا طوع عقولهم لله، ولم يكبحوا جماح إراداتهم نحو الشر، ولم يغنوا فيض مشاعرهم نحو الخير. الإنسان مخلوقٌ، أنواعُ رغباتهِ مفتوحة، وثغراتُه واسعة لا تقارن بما في حي آخر. فمن المعلوم أن في كل ثغرة من ثغراته، كالحرص والحقد والكره والغضب والعنف والشهوة، بُعدٌ موجي مختلف القوة من نـزعات التخريب وميول العبث ودوامات الفوضى. ولا مفر من سـقوطه في براثن نتائج غير مرضية ما لم يضبط ويُقيّد رغباتـه السـيئة هذه بتربية حسنة، فيسمو بأحاسـيسه الإنسانية، ويستجيب للعقد الاجتماعي الضمني المكنون في وجدانه بخواطر الرغبة والطلب، والفرح والحـزن، والحـق والحرية، مع احتساب وجود الآخرين.

ولا بد أن تكون التربية التي تسمو به من درجة إنسان “بالقوة”( ) إلى إنسان “بالفعل”، ذات أفقٍ لاهوتي ومحورٍ وهبي. فينبغي أن تغذى ثقافتنا الذاتية بورود حدائقنا وعصارات جذور معانينا وأرواحنا، لكيلا ترفض من قِبَل الوجدان الاجتماعي العام والشعور التاريخي… وينبغي أن يتحقق العقد الاجتماعي في أرفع درجة حسب ظروف العصر في إطار ملاحظات الحقوق والحريات، لكيلا تفقد قوتها وشدتها، وتوقيرها وقيمتها، في شِباك التعارض والتساقط الذي تعيشه مختلف القطاعات الاجتماعية، أو في الدائرة الفاسدة للتحييد الناجم من التناقض. وليس المقصود من العقد هنا سنداً إجتماعيا مختوماً بتواقيع الرضاء المتقابل في أسفله. بل المقصود تعاقد الوجدان المتيقظ إزاء القيم الإنسانية على عقد مرتبط ومحدّد باحترام مفاهيم الحق والحرية وحب الحقيقة.

وإن البناء القلبي والرحابة الروحية للفرد، وتحول إيمانه ومعتقداته إلى جزء من طبيعته، يُعيّن حدود هذا العقد وإطاره. وبهذا الوجـه يكون العقد الوجداني معادلاً لمستواه الإنساني. والمجتمع الذي أفراده قد تجاوزوا حدود جسمانيتهم وعاشوا حياتهم القلبية والروحية، هو مجتمع أنموذج للنظام. هذا النظام في عالم الإنسان يتصف بالديمومة والأمل في المستقبل، لأنه بُعدٌ من الانسجام الكوني المحيط بالوجود كله.

الدولة في عالمنا كربّان سفينة مهيمن على القيادة في أهم المراكز الحيوية للكل المتكون من أجزاء توحي بهذه الأخلاق والفضائل. وواجب قبطان كهذا هو أن يستفيد ويقيّم العناصر التي تحت تصرفه بأحسن وجه، وأن يوصلهم إلى الهدف من غير اصطدام بدواليب الحوادث، وذلك بالتأليف بينهم وبين نظام الكائنات. ولا يتصور مجتمع سليم ودولة راقية من أفراد حُرموا الفضيلة وجموع تحت إغواء اللاأخلاقية. وكذلك، الأمل في المستقبل من ركام الفوضويين المعتلين بأمراض عديدة من كل جانب ليس إلا انخداعاً. ومهما كانت الأسماء والأشكال، فإن الأمل في الحصول على شيء باسم الإدارة والأمن في خضم هذا الركام البشري المعزول عن السلاح أمام حظه الأسود، لا يزيد على أن يكون محض خيال. وأما انتظار الدولة والسلطة منه فهو سلوان كاذب لا يقوم على سند. فلا يمكن أن تتحقق الدولة والسلطة إلا بالقصد إلى فكر سامٍ يمنحهما الحياة في المجتمع، ويغذيهما، وببرمجة كل شيء بموجبه والالتفاف كخيوط المغزل حوله. وتلخيصاً، احتساب “الواحد الأحد” في كل حملة، وفي كل جهد.

نعم، ينبغي أن يجهز ويبرمج كل فرد وكل وحدة حياتية حسب مقصود رفع الأمة إلى الذرى… حتى لا تفسد الحسابات والمنافع الضئيلة المنعقدة على الأشخاص وئامَ الانسجام العام، وحتى لا تتموج الجموع البشرية المتنوعة رغماً عن ذاتها كأمواج البحر فترتطم ببعضها وتتبعثر. ولقد تحددت هذه الغاية المأمولة بصورة رائعة في زمن سابق بفضل هيمنة روح الإسلام على الحياة. فتَحقَّقَ المسيرُ إلى الذرى وكأنه فعل طبيعي في الحياة، وذلك بجعل الأفراد والوحدات المكونة للمجتمع أركاناً ومستنداتٍ للنظام.

إن إعادة النظر في تصوراتنا عن النظام، وتجديد الإيمان بأن إرادتنا هي التي ستحمل الانسجام الإلهي في الوجود إلى عالم الإنسانية، وسحب التوازن الدولي إلى هذا الفَلَك، هو أَجَلّ هدية تقدمها الأجيال المعاصرة إلى عوالم المستقبل الآتي. وأظن أن لدينا ما يكفينا لهذه الرسالة المهمة، إذا ما محّصنا إرادتنا كرّة أخرى، وفحصنا مقامنا عند الله، وعيَّنّا غاياتنا “الملّيّة”، ورصَّنّا استراتيجيات وسياسات مكينة، وشغَّلْنا حركيات موفورة في أيدينا.

فهرس الكتاب

 

About The Author

عالِم ومفكِّر تركي ولد سنة 1938، ومَارَسَ الخطابة والتأليف والوعظ طِيلة مراحل حياته، له أَزْيَدُ من 70 كتابا تُرْجِمَتْ إلى 40 لغة من لغات العالم. وقد تَمَيَّزَ منذ شبابه المبكر بقدرته الفائقة على التأثير في مستمعيه، فدعاهم إلى تعليم الأجيال الجديدة من الناشئين والشباب، وَبَذْلِ كلِّ ما يستطيعون في سبيل ذلك.

Related Posts