إنسان الفكر والحركية هو رجل الانطلاقة والحملة الحركي المخطط الذي يقوم ويقعد على خفقان شد العالم بالنظام مجدداً، ويمثل حركة إقامة صرح الروح والمعنى من جديد بعدما آل إلى السقوط ومنذ عصور، ويُفسر قيمنا التاريخية كرة أخرى، ويستخدم بمهارة مكوك الإرادة والمنطق في الفكر والحركة، وينقش على قماش روحنا ومعنانا زخارف مستظرفة وجديرة تناسبنا.
فهو في خط الحياة الممتد على مدى فصولها من الحس إلى الفكر، ثم إلى الحياة العملية، يتنفس النظام دوماً، وينشغل بحس البناء والإنشاء أبداً. إنه وليّ الحق اللدني الذي يُعِدّ “قادة أركان” الروح ومهندسي العقل وعمال الفكر، بدلاً عن استخدام القوة المادية لفتح البلاد ودحر الجيوش، وينفخ بلا كلل نَفَس البناء والإعمار فيمن حوله، ويرشد أعوانه إلى سبل عمران الخرائب. وليٌّ للحق جياش بالشوق والشكر، استطاع أن يوحد إرادته مع المشيئة المطلقة، وأن يحول فقره إلى الغنى، وعجزه إلى القدرة عينها. إنه لا يقهر أبداً ما دام يستخدم مصادر قوته هذه كما ينبغي وبحس الإخلاص والوفاء لصاحبها. وحتى حين الظن بأنه قد هُزم، فستجده على رأس فوج آخر للنصر والظفر.
وقد تجد إنسان الفكر والحركية ابناً باراً للوطن، أو إنساناً حركيا ذا بُعد فكري، أو رجلاً متفانيا في العلم، أو فناناً مبدعاً داهية، أو رجل دولة، أو رجلاً يجمع كل هؤلاء فيه. وفي العصر الأخير ظهر كثير من رجال الفكر والحركية يمثلون قسماً من هذه الصفات. فمنهم من سبق فكره عمله الحركي، ومنهم من تبارى فكره مع عمله الحركي، ومنهم رجال حركة فكرهم مكنون ومخزون.
رجال في استقامة مديدة يشعون ضياء، منهم أحمد حلمي فيليبه لي، ومصطفى صبري، وفريد قام، ومحمد حمدي يازر، وبديع الزمان سعيد النورسي، وسليمان أفندي، ومحمد عاكف، ونجيب فاضل. ولا يسع المقام هنا حتى لذكر تواريخ الولادة والوفاة لهذه الكثرة من الأسماء المباركة. لذلك نمر سراعاً بعناوين نفرٍ من أبطال الحقيقة أولئك، حتى لا نتجاوز أغراض المقال:
أحمد حلمي فيليبه لي: ولد في مدينة فيليبة ببلغاريا. كان أبوه سفيراً. بدأ التعرف على المعارف وعلى العصر بالدراسة في “سلطانية غلاطة سراي”. ثم أقام في إزمير وتوظف في بيروت. وهنـا اتصل بعناصر “تركيا الفتاة” فتبعه النفي والإبعاد إلى “فيـزان”. ثم دعي إلى إسـتانبول بعد “المشروطية” (الدستور). فرفع راية فكر “الاتحاد الإسلامي”، وإصدر مجلة بهذا الاسم لنشر أفكار هذه الجمعية… وبعد ذلك جريدة “الحكمة” اليومية والتصدي لجمعية “الاتحاد والترقي”، ثم مجلات وجرائد أخرى… والقيام مدة بوظيفة أستاذ الفلسفة في دار الفنون (الجامعة). ثم قتل بالسم في عمر يحسب على الشباب من قبل أعدائه الألداء الماسونيين بالظن الغالب.
إن الآثار والكتابات التي تركها رجل الفكر والحركة الذي ألقينا على حياته نظرة سريعة، لا زالت تنتظر دراساتٍ أكاديمية.
فريد قام: السيرة الوجيزة لرجل الفكر والذوق والبيان الفريد النـادر الذي فتح عينه على الحياة العرفانية لاستانبول، كما يأتي:
أستاذ الفرنسية، والاستطلاع الفلسفي الذي أوقعه في قلق لمدة قصيرة، ثم اللجوء إلى التصوف في أحضان العناية الإلهية، فالاستقامة في الحس والفكر مجدداً. وبعد ذلك نشر أحاسيسه في مجلتي “الصراط المستقيم” و”سـبيل الرشـاد”… والقيام مدة بوظيفة مدرس في “دار الفنون” و “مدرسـة السليمانية”… والانتساب إلى “دار الحكمة الإسلامية” (هيئة من كبار علماء الإسـلام)… والتعرض مرات إلى العزل من الوظائف والإعادة إليها، وإلى البأساء والضراء والمضايقات، والدوام في مسيرة الحياة بزهاء ألوانها ذات البُعد العقبوي حتى لقاء ربه وكما يليق برجل فكر وعمل حركي. إن هذه الحياة المبجلة لن يسعها مجلد واحد فينبغي أن ينهض من يُعّرف الجيل الجديد بهذه الشخصية المثقفة في هذا العصر من جهة امتداده العميق في “الواردات”، وذلك اعتماداً على ما كتب وما نُقل عنه.
مصطفى صبري بك: إنه ابن الأناضول الطاهر هذا، هو “إنسان الكفاح” بكل معاني هذه الكلمة. فنجد “شيخ الإسلام” مصطفى صبري رجل الكفاح والحركية مدرساً وأمينا لمكتبة السراي ومبعوثا (نائباً في البرلمان) ورئيساً للتحرير في مجلة “بيان الحق”… وعضواً في فرقة (حزب) الحرية والائتلاف، إلى ساعة تركه الوطن بعد “مداهمة الباب العالي” المعروفة. لقد عمل رجل الحركة هذا في خدمة الإسلام في بلاد المسلمين الأخرى متى ما اشتدت العواصف، وعاد إلى وطنه لمواصلة الكفاح هنا متى ما سنحت الظروف… فيفتح صدره لخدمة بلده كلما سنحت له فرصة، فيتقلد عضوية “دار الحكمة الإسلامية” و “المشيخة الإسلامية”. ثم يغادر تركيا سنة 1922 لآخر مرة إلى رومانيا وإسكجه، ثم مصر… حتى انقضاء عمره سنة 1954… حياة أمضاها في كفاح مرير ومكافحة شديدة… حياة مباركة لأبن بار للوطن مشحونة بعذاب ثقيل ومتقلبة بين الصعود والنـزول، تصلح موضوعا للعديد من رسالات الدكتوراه.
أحمد نَعيم بَابَان زَادَه: ولد في بغداد. أبوه باشا عثماني. نهل من معارف إستانبول مثل أقرانه. من مراحل سيرة هذا الإنسان الأفق، الغني والواسع في عالمه الحسي والفكري: مدرسة “سلطانية” غلاطة سراي، مدرسـة المُلْكِية (الإدارة والسياسة)، فالتعيين في قلم الترجمة في وزارة الخارجية ومدير التدريسات في وزارة المعارف وعضوية دائرة الترجمة وتدريس الأدب في دار الفنون وعمادة كلية لمدة وجيزة…
إن أحمد نعيم نبع مهم ارتشف منه المجتمع التركي فكراً وروحاً… وترك من خلفه ميراثاً غزيراً من العلم والعرفان للأجيال القادمة.
محمد عاكف: الابن البار والمخلص لهذا الوطن غني عن أي تعريف. كُتِبَت عنه المجلدات من الأبحاث وتحدث عنه الخطباء. وسيكتب ويقال بلا انقطاع عن إيمانه وعشقه وفوران مشاعره وعمله الحركي وقضيته وفكره. هو من نوادر المثقفين الترك الذي ساحوا في الأناضول وروم ايلي (الممالك العثمانية في أوروبا) وبلاد العرب. وكان حيث ما حل صوتا لشعب مجيد، لكن منتكس المآل، مليء بالحسرة والهجران، ونَفَساً ينفث الأنين، وتوجساً مبثوثا فيما حولـه. من قلائل الناس الذين حافظوا على خط توجهم بهذا الالتزام العظيم. كان مخلصاً ووفياً في مراحل حياته كلها: بيطاراً ومفتشاً ومدرساً للآداب في دار الفنون وباذلاً جهده في فريق “الصراط المستقيم” ثم “دار الحكمة الإسلامية”، ثم خطاباته في سنوات حرب الاستقلال.
عاش ابن الوطن ذو الصوت القوي، زاهداً كزهد صحابي جليل، ورحل إلى العقبى فقيراً. وهو ينتظر أيـامـا عابقة بالوفاء من الأكاديميين بالبحث والتمحيص عن جوانب فكره وعمله الحركي وفنه، مع حفظ الشكر للجهود المبذولة في هذا الشأن حتى الآن.
محمد حمدي يازِر: قامة مرفوعة معلومة للعالم. بعدما حصل على العلوم الابتدائية في “ألمالي”، من نواحي الأناضول الصغيرة، توجه إلى العاصمة إستانبول “لإكمال النُسَخ” حسب المصطلحات في درجات العلم. تتلمذ على يد مشايخ بصورة خاصة، ثم “امتحان الرؤوس”، ثم “مدرسة النواب”، ثم مدرساً في “مدرسة الواعظين”… ومرتقياً إلى “الدرس العام”. ثم مبعوثاً (نائباً في البرلمان) على اثـر المشروطية… والتوقيع على فتوى يجيز خلع السـلطان عبـد الحميد في خطأ اجتهادي… وعضويـة دار الحكمة الإسلامية… ووزيراً للأوقاف… والوقوع تحت طغيان محاكم الاستقلال في العهد الجمهوري، والانـزواء الطويـل بعد النجاة من غضب هذه المحنة بفلتة أدق من الشعرة، ثم تصنيف ذاك التفسير الأشم. هذه خطوط عريضة منتقاة من سيرته.
إن العلامة حمدي يـازر من الشخصيات البارزة التي ينبغي أن نتوقف عندها مليا باسم حياتنا الفكرية وعملنا الحركي.
نَجيب فاضِِل: جذور عائلته في “مرعش” من حواضر الأناضول. لكنه وجيه مشبع بتربية إستانبول وآدابها، ولد فيها وعاش فيها حتى وفاته. الكلية الأمريكية والمدرسة البحرية كانتا ملء سندانتين من التراب ذي قوة إنباتية يحتضن هذه القابلية الفذة وكومتين صغيرتين للوثبة الذاتية. ومن المنازل التي نـزلها ثم رحل عنها سريعاً: قسم الفلسفة في دار الفنون. وسوربون باريس منفذ صغير للاطلاع على الغرب. ولم يستسغ وظيفة مفتش في البنك فكأنه فيها بائع متجول، فغادرها. أول دارٍ نَفَخ فيها روح الفن في كل صدرٍ موهوب أو غير موهوب هي كونسرفاتوار الدولة (معهد موسيقى الدولة) وأكاديمية الفنون الجميلة. إنه صاحب المدرسـة الفكرية: “الشرق الكبير”، المسماة باسم الدورية التي أصدرها مرات، كلما منعت من الصدور أعاد إصدارها، وكلما صدرت أغلقت بالمنع عن النشر، بإرادة قوية تدفعه إلى المثابرة في التخطيط للصدور أثنـاء المنع. فهو بانيها ومهندسها وصاحبها المثقل بالعذاب والبأساء والضراء… وهو أحد أفذاذ أساتذة الشعر والنثر ومهندسي الفكر المستقبلي في العصر الأخير. وإن غوصه في الفكر الصوفي، وعمقه في الميتافيزيقا، وتوقيره المتين في عمره كله للحقيقة المطلقة، واحترامه الفائق وتوقيره المكين إزاء سيد الأنام r، هي قطرات صغيرة من بحره الممتد إلى الآفاق. وإن تعريف جيل الشباب التركي والعالم كله بهذا الإنسان العملاق وبتوجهاته كلها، والتي ألمحنا إلى بضع قطرات منها هنا، إنما هو مقياس قدراتنا على استشعار العظمة عند الآخرين. بل آمل من أهل التوقير أن يؤسسوا معهداً لدراسة نجيب فاضل.
سليمان أفندي: سليل عائلة أصيلة في سلسترة. شيخ وابن شيخ. عاد إلى بلدته التي ولد فيها “مدرساً” بسائق الوفاء الخالص بعدما أنضج غناه الروحي في آفاق عرفان استانبول. وتتوسم عائلته التي تعلق عليه آمالاً عظيمة خيراً في طلابه المتحلقين حوله، وفي إخلاص ووفاء أخلائه وإخوانه، فترى فيهم رسالته ومستقبله، وتبتسم لمن يلحق بهم من بعدهم.
سليمان أفندي رجل كفاح قل مثيله، ممن لا يعرف الكلل في عمله الحركي. فكان في عمره كله منافحاً صادقاً وثابتاً عن فكر أهل السنة والجماعة. فهو داعية الكفاح الشامل وليس الكفاح في خط الدفاع، في عصر تعرض الحس والفكر الديني إلى هزات متكررة… فنقش الشيخ الفكرَ الديني مع الحس التاريخي في نسيج أرواحنا نقوشاً بديعة… واجتهد في إشباع قلوبنا من أصول وجودنا بالدورات التعليمية ومساكن الطلبة وبيوت الإقامة في كل أنحاء البلاد، فلم ينِ ولم يفتر عن غايته هذه ورسالته حتى رحيله إلى حيث يطير الأرواح والروحانيون.
ولست أزعم أن أسطراً أو صفحات قادرة على تعريف رجل الحركة العظيم هذا… بل ولا المجلدات من الكتب تستطيع الإيفاء بحق إنسان الروح والمعنى، هذا الذي زان أرجاء البلاد من “أدرنة” إلى “أردهان” بالعلم والعرفان، وفي مدة قصيرة، وراغماً أنف العوائق. فنفتح هنا وليجة ضيقة، ونأمل أن يتوسع الباحثون والأكاديميون المنشرحون بالمعاني، فيفتحوا الأبواب على مصاريعها في تدقيق رسالة هذه الشخصية الفذة وعمله الحركي وفكره وفلسفة خدمته.
وعندما نفكر في مُنَوّري النصف الثاني من القرن العشرين، هل يمكن أن لا نتذكر نورالدين طوبجي، ابن الأناضول ذا العقل الولود وإنسان العشق والحماس مـع التحفظ عن بعض مطالعاته التي لا تنسجم مع معاييرنا الأساسية… ولا نلتفت جيداً إلى سـزائي قاره قوج، العقل المميَّز والفكر العميق، المنتظر لإفراخ البيوض بصبر حواضن القُنّ، الهادئ هدوء المرجان على آلام جراحه الدامية في سيره المتواصل، شاعر العصر وناثره العظيم الذي سيقرؤه أبناء الأجيال الآتية في شغف… أو لا نتوجه بالشكر والامتنان إلى أسعد أفندي… أو لا نستشعر الوقار أمام سـامي أفندي، أو لا نتحسس العشق والحماس والحركية في معالي مسلك الخدمة لحضرة الأرواسي، وعلي حيدر أفندي، ومحمد زاهد قوطقو، وإمام “ألوار”، وشيخ سَيْدا “سردهل”، ومحمد راشد أفندي من “منـزل”… ثم هل يعقل أن لا نذكر بديع الزمان النورسي خاصة، وهو الذي قلب مخططات دنيا الكفر والإلحاد رأساً على عقب بإيمانه وفكره وعمله الحركي المدهش؟
لقد كتب وقيل عنه الكثير الكثير. العالم كله يتحدث عنه. وهـو من الأوائل الذيـن يحوزون على أكثر عدد من القراء في العالم وبلغات عديدة. لذلك، لا نجد ضرورة ملحة للتعريف به، فنكتفي بإدراج مطالعة وردت في تقديم كتابٍ له:( )
بديـع الزمان سعيد النورسي: عَلَمٌ ينبغي التفكير فيه باعتناء وتعريفه للإنسانية بأبحاث مستفيضة، فهو رجل العصر الأول الذي أبرز إيمان العالم الإسلامي ومعنوياته وعمقه الوجداني الفسيح، وبصورة صافية ومؤثرة. ولا نحسب أن مقتربات الملاحظات العاطفية لفهم شخصيته وأفكاره مقتربات سليمة لمعرفته ومعرفة تراثه وآثاره. فالعواطف لا تتآلف مع جدية المسائل العالية الزخم التي أظهرها وأبانها بشجاعة عظيمة في كل زمان وآن. فقد عاش حياته كلها إنسان محاكمة منطقية وعقلية، في ظل الكتاب والسنة، وبموازين التجربة والمنطق، في حال العشق والحماس العميق.
لقد دبجت الأقلام كتباً، وأطلقت الألسن خطاباتٍ كثيرة عن حقيقة الفكر العالي لبديع الزمان النورسي، وسعته الإنسانية، ووفائه، وإخلاصه لأخلائه، واستعفافه، وتواضعه، ومحويته، واستغنائه. والحقيقة أن كل خصلة من هذه الخصال التي يتصف بها ويتطرق إليها في رسائله مراراً وتكراراً، تستحق كتاباً مستقلاً بذاتها. ويشهد على أحواله هذه عدد كبير من أصدق الشهود الذين سعدوا بالعيش قريباً منه، ولا زالوا أحياء بين ظهرانينا كأنهم كتب شاخصة متجولة.
يبدو بديع الزمان إنساناً بسيطاً وعادياً من الناس في مظهره الخارجي لأول وهلة. لكنه يختزن شخصية راسخة قلّما تتوافر في غيره أو في كل زمن من جهة حياته الفكرية وعمله الحركي. فقد كانت تصرفات عادية بالنسبة إليه أن يحتضن الإنسانية جمعاء في المسائل الحيوية للإنسانية، ويمتلئ بغضاً وتقززا ونفوراً على الكفر والظلم والضلالة، ويحارب الاستبداد أنّى كان، إلى درجة الاستخفاف بالحياة لهذه الغاية بوفائه ومروءته وترحيبه مستبشراً بالموت. عاش إنسان حسٍ رحيب، ملتزماً في رسالته ودعوته بِفَلَك الكتاب والسنة لا يغادره، متلونا بألوان المحاكمة العقلية والمنطق. لقد اتصف في كل وقتٍ بصفتين ظاهرتين، الأولى: صفة كونه رجـل وجدان رحيب، ومثال عشق وحماس أصيل، وإنسان شهامة ومروءة عظيمة. والثانية: صفة كونه مفكراً متوازنا غاية التوازن، يتقدم على معاصريه أشواطاً في الرأي والبصيرة، وصاحب عقل سليم ينتج خططاً وبرامج شاملة. فالاقتراب إلى بديع الزمان ودعوته من هذه الجهة، مقترب مهم لفهم ما يعنيه لنا في عصرنا الذي نحن فيه باعتباره امتداداً لسلسلة عظماء الإسلام.
ومهما تغاضى بعضهم أو تناسى، فقد لقي بديع الزمان قبولاً بأنه مفكر وكاتب بزّ أقرانه المعاصرين له، وصار رائداً وترجمانا لجمهور الناس، لكنه لم يصب بالعُجُب قطعاً، ولم يمل إلى الظهور والرياء، ولم يقرب منه الكِبْر. فمن بياناته الذهبية قوله: “الشهرة عين الرياء وعسل مسموم يميت القلب”. لقد دخل التاريخ واحداً من المعالم في العالم الإسلامي، والعالم كله في الوقت الحاضر، الذين يرتقون الدرجات العليا في سلم الكُتّاب المشهورين والمقروءة كتبهم بشغف في كل وسط وزمان، والذين لم يذبل غصن جدتهم.
إن مصنفات بديع الزمان كلها ثمرة جهد جادٍ ودؤوب من أجل توضيح مسائل ومشكلات معروضة على الرأي والنظر في العصر الذي صنفت فيه -إذا أطللنا عليها من هذه الجهة-. فمن بين سـطورها ينبعث صوت الأناضول، ثم العالم الإسـلامي، حيناً نشيجاً ونحيباً، وحينا أملاً وشوقاً وطربا. ولئن كان النورسي قد ولد في قرية قصية من أصقاع شرقي البلاد، فإنه أحس في نفسه بمشاعر ابن الأناضول أبداً، وتنفس مشاعرنا وأحاسيسنا كسيد من أبناء استانبول، واحتضن الوطن جمعاً وكلاً في كل وقت وزمان، بشفقة رحيبة وخلوص شاخص وطري.
لقد أرشد بديع الزمان إنساننا المترنح برجّةٍ تصيبه بعد رجّة، إلى السبل الموفية إلى نبـع “الخضر”، ونفخ في جموع البشر هـواء “الانبعاث بعد الموت”أينما رحل وحطّ، في زمان شؤم أوقع الفكر المادي فيه حياتنا الفكرية في تشتت الهرج والمرج، وجن فيه جنون الشيوعية، وسقط العالم في أسوأ أيام الضياع والظلمات والمحن. وذلك بمصنفاته التي تفوح منها نفحات الإيمان والأمل. لقد استشعر وشخص الداء الأعظم قبلنا وقبل الناس جميعاً، ألا وهو الفوضى الناشـئة من الكفر والإلحاد، فتصدى لها. لقد نفث في إنساننا طوال حياته ضرورة التغلب على وباء العصر هذا… وكافح في سبيل ذلك كفاحاً فوق طاقة البشر. كان بديع الزمان في أوعى حالات الإدراك لواجباته الملقاة على عاتقه، عندما جابهه عالم ينشج في حمى ثقيلة الوطأة. فلما حمل حملاً أثقل من جبل “قاف”، أحنى ظهره في غاية حال من التواضع والمحوية، وفي استحياء. ولكن في غاية الثقة بالقدرة المطلقة للحق تعالى وغناه اللانهائي.
فإن بديع الزمان -وبأدائه كالطبيب الحاذق- ذكّرنا جميعاً بالزنـزانات التي في دواخلنا وأنواع المحكوميات في أرواحنا، وجرائمنا الذاتية وتقييد ذواتنا بأنفسنا، ونفخ في قلوبنا المشتاقة إلى العلويات أنفاساً متوالية بتحريك جوانبنا الإنسانية الخامدة من عالمنا الروحي وحياتنا الوجدانية، ونشر أمام الأنظار علاقاتنا الوطيدة المغزى بالأخرويات، وصب فوق رؤوسنا جميع واردات التكايا والزوايا والمدارس… في أيام نحسٍ سود سيق البشر فيها إلى الإلحاد بالاستغلال السيء للفنون والفلسفة، وتعرضوا إلى “غسيل الدماغ”! بالشيوعية، وأُبعد المتصدون لهذه السلبيات في البلاد نفياً وتغريباً، وأشيع في أرجاء البلاد أشد الخيارات المخجلة، والباعث للحيرة أن كل ذلك جرى باسم التحضر “والعصرنة”، حتى غدت “العبثية” (Nihilism) سحر العصر الساري كالنار في الهشيم.
نعم، قد صـار النورسـي طبيباً حكيماً، مفكراً، وباحثا عن الحلول، وفاحصاً ومشخصاً، ثم واصفاً دواء هذه الأمراض، لزمن الفتن والهرج، كان الشعب فيه يعيش حمى الضعف الفكري والهموم الاجتماعية، ويُسَلَّط عليه مئـات الحوادث المرعبة في أنحاء الوطن كافة، ويئن تحت ركـام القيم الإسلامية والملّيّة التي تهدمت فوق رأسه. فهو رجل عاش منذ البداية مشدوداً دائماً، مفكراً، مقدماً الحلول البديلة للدولة والمجتمع، ساعياً في تلقين هذا الشعب المجيد لكن الفقير حظاً، وهـذه الدولة الشامخة لكن الآفلة طالعاً، دروس ماضيه الرحيب والغني، إذ يرى حيرة الأجيال المسكينة المضطربة قلقاً تحت المصائب والنكبات المهولة التي أعدتها السنون السود الطويلة وجهزتها لها، فتتخبط في وديـان العجز والضلالة والشك، وكلما أرادت الخلاص دفنت نفسها في أوحال أزمات أعمق… يرى حيرتها، ويستشعرها، ويصغي إلى صوت ما يراه وما يستشعره.
ساح بديع الزمان في أرجاء كثيرة من البلاد منذ عهد الدولـة العلية العثمانية، بمدنها الكبيرة أو قراها القاصية، وبنواحيها التي تعج بالبشر أو مناطقها القليلة أنفساً، فرأى حيثما حل سريان الجهل في الناس وتضورهم في الفقر وحد الضرورة، ونهشهم وإفناءهم لبعضهم بعضاً بأنواع التفرق، فخاف وذعر. فأراد أن يشحن تلك الجموع التعيسة بروح العلم، باعتباره مفكراً واعياً بأحوال العصر. والتفت إلى معضلة الفقر والحاجة والاقتصاد. وبحث عن حلول التفرق وصـار داعية يتنفس وحدتنا في كل زمان وبلا توان… ولم يترك شعبنا وحيداً لحظة واحدة في تلك الأيام العصيبة الكأداء. كان ينادي بأعلى صوته حيثما حل: “سوف تؤول أمراضنا إلى أسقام مزمنة، وجراحنا إلى عطب لا يبرأ، إن لم نبـادر منذ الآن إلى معالجة عللنا، وضماد جراحنا على أيدي حكماء حاذقين. فلا بد من تشخيص عللنا العلمية والاجتماعية والإدارية، وحل عقد مشكلاتنا المادية والمعنوية كلها، حتى لا نقع في مضايقات تسحبنا كل يوم إلى المهاوي الشنيعة التي تمضغ وجودنا وتهز كياننا من الأساس”.
فالنورسي يـرى مصدر المفاسد كلها -بالأمس كما اليوم- في الجهل والفقر والتفرق. الجهل هو أول الأسباب لمآسينا الاجتماعية ومقدمة الدواعي إلى بؤسنا السائد فلا شبهة في أن أعظم مصائبنا -أمس واليوم- هو الجهل بالله وتناسينا للنبي r وترك روابطنا بالدين والتعامي عن محركات تأريخنا المادية والمعنوية. ولقد جعل بديع الزمان حياته وقفاً على محاربة هذه الجراثيم القاتلة. فلا جدوى -عنده- في انتظار خلاص الشعب ما لم تُنوَّر جموع الناس بالعلم والعرفان، وما لم يتعود المجتمع على التفكير المنظم، وما لم توصد الأبواب بوجه تيارات الأفكار الخاطئة والمنحرفة. أليس الجهل هو الذي فك روابـط الكائنات بالقرآن، وروابط القرآن بالكائنات؟ وبفك روابطهما جعل أحدهما يتيماً في زنـزانات خيال النفوس المتعصبة، الجاهلة لأسرار الوجود والمنحبسة في الأشياء والحوادث، وجعل ثانيهما عبثاً وفوضى في أيدي الجاهلين جهلاً مكعبا، الباحثين عن كل شيء في المادة، والعمين تماما عن المعنويات. ثم أليس الجهل هو الذي أبكى هذه الأرض المباركة نحيباً في قبضة الفقر والبؤس وجعلها متسولا يستجدي خدام الأبواب القدامى، وهذه سهولها المنبتة وسهوبها الفياضة وأنهارها الكوثرية؟
ثم، أَلسنا بسبب الجهل والفقر نعيش بؤساء ومشردين، وفي شَدَهِ الديون الرهيب، محنية ظهورنا وطاوين على بطوننا، وتلك معادننا التي لا تقدر بثمن نائمة في سكينة تحت التراب، ومصادر ثرواتنا التي لا تعد ولا تحصى، تصب في خزائن غيرنا؟
هذا البلاء يعذب شعبنا منذ سنين طويلة… فالعامل والفلاح يكد بلا كلل وينسحق رهقاً، ثم لا يجني ثمار كده وكدحه. وإن جنى شيئاً فلا يجد فيه بركة، ولا يسعد به، ويتوارى شيئاً فشيئاً قهراً وشقاء.
وبسبب الجهل والتفرق المنبعث من الجهل، يعيش العالم الذي يرتبط بنا وحيثما كان، حيـاة من القهر والأسـر والتحكم والذل وأنواع البلاء والأمراض، ويغرق في بحار الدم، وتنتهك فيه الأعراض ويداس على الشرف، ويعجز عن كبح جماح الفرقة وإعطاب عجلة الفواجع والفضائح في تقلبه ذات اليمين وذات الشمال في هذا العالم المترنح في شِباك فقدان الموازنات والمعايير… بل لا نجد وسيلة لخلاص العالم الإسلامي من التدحرج يوما بعد يوم إلى مهاوٍ مهولة وبئيسة، ولا نتحفز بروح الوحدة، ولا نصفي حسابنا مع العصر.
إبّان تجرعنا الآلام في فخ الأوجاع القاهرة المتسلطة على شعبنا، تداعى قومٌ خَلَبَ أبصارهم بريق رقي الغرب الصوري والمادي، فتكدرت بصائرهم ودارت رؤوسهم، فجردوا جموع البشر من السجايا “الملّيّة” وحرموهم من حس التاريخ وسلبوهم الأخلاق والفضيلة، لهثاً وراء تقليد أعمى وشعارات خداعة، بتصرفات لا جذور لها ولا روح فيها البتة، بدلاً عن إمداد أدمغتهم بالعلوم التجريبية، وقلوبِهم بالحقائق الدينية، بلوغاً إلى الغنى المادي والمعنوي. وعندي أن سيرهم في الطريق الأول الذي انحرفوا إليه باسم إنقاذ الشعب، أوقع الضرر الأعظم وفتح في روح المجتمع جرحاً لا يندمل.
ففي الحال الثاني المذكور آنفاً قد يطول المكث الأليم في كابوس خانق سنين وسنين. ولكن باختيار الحال الأول هوى وانهار صرح فضيلتنا “الملّيّة”، ونجابتنا الروحية، وعملنا الحركي ذي الاحتواء العالمي.
لقد واجه بديع الزمان المعالجات في كلا الحالين وتصدى للتعقيدات الاجتماعية التي خلفتها أخطاء هذه المعالجات، وشق بمبضعه أورام قرن من الزمان، وشَرّح وشخص الفواجع الناجمة من احتقان قيحها. فأعاد ابن الوطن البار هذا، وكرر بلا فتور قولاً وكلاماً ثابتاً، وحمل على أدوائنا بلا كلل حملة دائمة لا تضعف، ووصف لها أدوية ناجعة، من أجل إنقاذ الوطن وخلاص إنساننا من السقوط والضياع. فلم يتوان عن ذلك طوال حياته من بدايتها إلى وقت لقاء مولاه الجليل في “أورفة”، بصدق وإخلاص قلبي، وبصوت جهوري وقول متين. إن غرس أفكار جديدة في عقل المجتمع عمل شـاق وعسير بقدر انتزاع العادات والتقاليد الموروثة من الماضي بنفعها وضرها والمفاهيم والمتلقيات الراسخة. وفي جموع البشر ميل دائم في الماضي والحاضر إلى الوقوع في مؤثرات أمثال هذه التركات -سواء النافعة منها أو الضارة- فتصطبغ الحياة الفردية والاجتماعية بصبغة هذه المؤثرات، وتشمئز مما لا ينسجم مع المعتاد ولا يداعب الحس العام، فينفرون مما يخدش حسهم ويبتعدون عنه. وقد يخطئ هذا الحس أو الشعور أو القبول أحياناً. فإن كانت مثل هذه الأفكار والقناعات غير الصحيحة قد وجدت رضا وقبولاً عند الجمهور والجموع البشرية، وتمثلها المجتمع بطول المعايشة، ومدت جذورها وتنامت أغصاناً وفروعاً في منابت الحياة واستقوت، فاللازم لتقدم الشـعب نحو المستقبل أن تُهدم هذه القناعات الخاطئة، وأن تُـزال هذه الانحرافات الاجتماعية، وأن تُنظّف القناعات المتعفنة بتمرير الأفكار العامة ووجدان البشر من مرشحات التخلية والتحلية، من الحَسَن إلى الأحسن، بمعنى التصفية من كل فاسد والتزود من كل صالح.
وهكذا كان بديع الزمان النورسي منذ أيام الشباب في مشاعره وأفكاره. فعَدّ إخفاء أدنى حقيقة في هذا الباب غدراً بحق وطنه وإنسانه، وفتح ذراعيه بطولهما حاجزا أمام الأفكار والقرارات الخاطئة المودية بالشعب إلى مهاوي النكبات، ونادى بأعلى صوته صارخاً: قفوا… هذا الطريق مقطوع! كانت فطرته متحيزة انحيازاً كاملاً ضد كل خطأ أو كل ما يناقض القيم الدينية. وكان صاحب أفق مديد وذا همة من أهل العزائم. فغضُّ الطرفِ عن فناء أمة عظيمة واضمحلالها، واللامبالاة بذلك، يناقض ويضاد طبائع هذا الإنسان الطاوي صدره على قلب أسد. فأرشد الأمة إلى محاسبة نفسها بعد تسليط الضوء على أدق وأخفى نقاط قصورنا ومعايبنا وأسباب مصائبنا ونكباتنا. فذكرها من غير ملل بأسباب انقراضها ووصف لها سبل الخلاص، وأبان جهاراً أشد الحقائق إيلاماً من غير تلكؤ… وحَمَل بِخَيْله على القناعات الخاطئة والأفكار المتعفنة والكفر والإلحاد… وكافح بلا هوادة وطوال حياته مقاوماً عوائق انتشار أنوار الحقيقة جميعاً.
لقد انبرى النورسي في أحلك العصور، إذ أحجم الناس عن ذكر الحقائق الدينية توجساً وخيفة، فشحن جموع البشر باليقظة لما أرادوا لهم الغفلة، وأعلن الحرب على الجهل والفقر والتفرق، وزعزع أركان أنواع الأوهام التي جثمت على صدر المجتمع، ومارس كفاحا على طول البلاد وعرضها وليس في خط الدفاع فقط ضد الإلحاد وإنكار الألوهية، وكذلك، خنق الباطل والخرافات في إشكالاتها المنغلقة. وأبدى دوماً جرأة مدنية سلبت الألباب إعجاباً في إشهار همومنا المزمنة وسبل معالجتها. لقد اُشْتُهر أن “آخر الدواء الكي”. فكأنه في مجالدته للرياء وحب الظهور والكبر المستفحل منذ قرن أو قرنين وسَمَهَا وكواها بالساقور، فخاطب بقول ثرٍ وندي وَجَد صدى في روح كل إنسان، يستوي في ذلك رجل السراي ورئيس عشيرة في شرق تركيا، والمشيخة الإسلامية وأركان العسكرية. فلما خاطبهم شدّ إليه أنظار الناس من كل صنف. ومع أن جِبلّته تنفر من ذلك أشد النفور، فإن طبائع شؤونه وأموره استدعت ذلك الالتفات.
نبّه النورسي كل فئة إلى ضرورة كسر الأغلال الآسـرة لأفكارنـا وأرواحنا، قبل سل السيوف من الأغماد، إن أردنا دوام الجهاد… وأرشد الأجيال الفتية إلى السبل الموفية إلى الفكر الإسلامي في بشرى “الانبعاث بعد الموت”. فكان يخشى ويرتعش فزعاً من انقسام جغرافية الوطن وتمزقها وانكماشها، لكنه كان أشد فزعاً من أمور تؤدي إلى تلك السلبيات مثل ضيق التفكير وبؤس الأرواح وتقليد الغرب والشكلية.
لم يملّ النورسي من الإصرار على القراءة والتفكير والعمل، ولم يكلّ من السعي لأجل إنقاذ أفراد الشعب من الفردية المتبادلة وبناء مجتمع مثالي وشعب عامر. فكان يلح على “المعارف” و “التربية والتعليم”. فيحث بالضرورة على نشر المعارف والتربية والتعليم في كل مكان وبكل وسـيلة… فينبغي عنده انخراط المسـاجد والمدارس والمعسكرات والدروب والمتنـزهات، بل حتى السجون، في نفير التعليم العام. فبالمعارف وحدها تتحقق الوحدة العقلية والمنطقية. فالذين لا يتوحدون عقلاً بعقل، ولا ينصهرون على ذلك، يعجزون لا محالة عن السير معاً في طريـق معين زمناً طويلاً، ولا يحفظون تساندهم وتعاضدهم. فينبغي أن يتوحد الوجدان أولاً. حتى تتوحد القلوب والأيدي. ووسيلة وحدة كهذه هو ضبط الحياة بضوابط الدين وتفسير الأمور المتعلقة بالزمان حسب مدارك العصر مع التقيد بالكتاب والسنة والاجتهادات الصافية للسلف الصالح.
نعم، لا بد من أن يتعرف إنساننا بهذا العصر، وبواردات العصر ومعانيه وتفسيراته، وأن ينجح في ذلك ويتواءم معها. فإن مقتلنا في انحسارنا داخل قشورنا واستغراقنا في الانـزواء، والدنيا تسير سابلة الزمام. فلابد أن يمسك الذين يريدون أن يحيوا حاضرهم بحبل الانسجام والوئام والتعاون ما بين شلالات الحياة، وبين إرادتهم الذاتية وسعيهم وجهدهم. وبخلاف ذلك، لا مفر من الاضمحلال في حال مقاومة التيار العام في الكائنات.
ولو تفهم عدة مئات من المثقفين بديع الزمان وأعانوه، عندما كان يسعى حثيثاً ويلهث ركضاً في كل ناحية من أرجاء البلاد، عارضاً رسالته، فربما كنا اليوم أغني من كل دولة، وأسبق شوطاً في الحضارة بين الأمم، وربما بلغنا قوة كانت تؤهلنا لاجتياز العراقيل التي وضعت في طريقنا لاحقاً، فكنا انخرطنا في طريق النور -الذي يبدو كأننا انخرطنا فيه الآن- منذ بداية القرن العشرين، ولم يكن الكثير من مشاكلنا الحالية تواجهنا اليوم. مع كل هذا، لا زلنا متفائلين وأنا أجزم بأن الذين يزعمون أن منابع المعاني لشعبنا قد نضبت تماماً هم في غفلة وذهول. نعم، قد سقطنا مثلما سقطت شعوب أخرى… هذه حقيقة ظاهرة لا يمكن أن تخفى. لكن قدرتنا على رفع هامتنا واستعادة وعينا أيضاً حقيقة لا شك فيها. ونرى في الحاضر بوارق لمعان يقظة تحل محل الركون القديم إلى الراحة. فثم حرارة للحيوية الندية والانبعاث الطازج تسري في أرواحنا الغارقة في أحضان الراحة والخمول. ولابد أن يعقب هذه التطورات ربيع زاهر الأيام. لكننا في انتظار رجـال يسيحون فيفرشون الوديان بالسـجادات كالخِضْر، ويفتحون الأشرعة في السهوب بلا وجل كإلياس. وبديع الزمان علامة مهمة في هذا الطريق.
يقال “إن العبقري لا يَختار”. والمعنى أن الداهية لا يقول أعملُ هذا ولا أعملُ ذاك، أو يحكم بأن هذا العمل مفيد وذاك ضار. لأنه صاحب فطرة خارقة يجمع في روحه قوى تتحمل فوق أكتافها أموراً كثيرة بموهبة إلهية وبسائق وشـائق لدني، فيحتضن بها حاجات محيطه الظاهرية والباطنية والروحية والاجتماعية بأعمق أغوارها وأوسـع حدودها. ومن يمحص النورسي ومصنفاته سيجده جامعاً لعناصر الدهاء. فيرى أنه صان رفعة درجته فوق الدرجات دائماً وتكلم بدهاء في كل زمن، ابتداء من أيـام شبابه في كتبه التي تُعدّ من أول أنفاس دهائه، بثها فيمن حوله، إلى مصنفاته التي انكشفت وتكاملت في عمر النضوج عبر حياة معذبة مرت بالمحاكم والسجون والمنافي.