الصبر أساس مهم من أسس السمو إلى الفضيلة، وهو انتصار للإرادة. وعند غيابه لا يمكن توقع تهذيب الروح، ولا العلو للوصول إلى أسرار الذات. بالصبر يتخلص المرء من الارتباط بالتراب وباللحم وبالعظم، ويكون من السعداء المرشحين للوصول إلى عوالم عليا. فإن كان الصبر ممرا ضيقا، وقمة عالية صعبة الاجتياز إلى سلطنة عوالم ما وراء الأفق، فإن جندي الحق الذي عشق تلك العوالم وتوله بها حبا ووجدا هو البطل الذي يتحدى هذه الممرات الصعبة وتلك القمم العالية، ويراها سهولا منبسطة سهلة الاجتياز.
الصبر هو شعور المرء بالتناغم الموجود في ثنايا الفطرة وفهمه وتقليده. أجل!.. إنه جهد لفهم لغة الأشياء والحوادث، ودخول في حوار معها. وما أجلّ الذين يبدون صبرا وثباتا في سبيل إدراك هذه اللغة ومعرفتها، ثم يقومون بتأسيس جسر بين تصرفاتهم وسلوكهم وبين الحوادث المتدفقة عبر سيل الزمن للتوحد مع الطبيعة! وما أسمى هذه الموسيقى الإلهية التي يترنم بها الكون! وما أسمى الإحساس بهذا التناغم ورؤيته، وما أسطع هذه الرؤية!
إن الفطرة تقوم بكسر أرجل الذين لا يعرفونها ولا ينظمون سيرهم حسب قواعدها، وتسحق أرواحهم.
الصبر هو فهم لفعل الزمن وصروفه وتأثيره في الأشياء، وإدراك أن الزمن يأخذ الحوادث ويلوكها بين أسنانه الحادة ويفتتها ويطحنها، ويقلبها من حال إلى حال، ومن شكل إلى شكل. والذين يعرفون كيف يكونون فولاذا في أحيان وجليدا في أحيان أخرى حيال هذه الإذابة الصامتة للزمن، يستطيعون الوصول إلى بعد آخر في خط جريان الزمن فيتخلصون من العدم. ومن لم يستطع إدراك هذا عصرته يد الزمن.
أجل!.. إن الفطرة تقوم بكسر أرجل الذين لا يعرفونها ولا ينظمون سيرهم حسب قواعدها، وتسحق أرواحهم. بينما تكون لينة كالشمع في أيدي الذين يعرفونها، ويتناغمون مع روحها في سـلوكهم وحركاتهم وسكناتهم، ويكسبونها لحنا داوديا.
آه من هؤلاء الأطفال الأشقياء الذين لا يدركون هذا السر… المتعجلين أبدا، الذين لا يدنون من الصبر ولا يتحملونه.
أجل!.. كم من شخص لا يعرف نفسه ولا يفهم الفطرة من الذين قضوا سنوات عديدة وهم يجرون لاهثين، ولكنهم لم يستطيعوا التقدم شبرا واحدا. وكم من أشخاص على الرغم من أنهم يبدون ساكنين هادئين كنهر عميق هادئ، إلا أنهم ساروا خطوة خطوة دون توقف، وتغلبوا على جميع موانع وأستار الظلام، واجتازوا جميع العقبات بطريقة غير متوقعة… بهدوء ودون ضجة أو جلبة… دون مظاهر أو فخفخة… مثل المرجان الذي صادف كل أنواع الآلام في قاع البحر، وغرق في الدم حتى وصل إلى أفق الزبرجد.
تخترق البذرة التربة والصخر بصمت وبثبات حتى تصل نبتتها إلى سطح الأرض، ويعرض البرعم نفسه للشمس مرات ومرات، ثم يواجه هذا البرعم وطأة ظلام الليل مرات ومرات حتى يصل إلى ماهيته ويتفتح. وما بالك بالوليد؟ إنه يبدأ بنطفة صغيرة في رحم الأم تنتقل من ظلام إلى ظلام. إن مسيرتها طويلة وتستدعي التأني والتمهل والصبر. أجل!.. إنها تنتقل وتتقلب من شكل إلى شكل، ومن قالب إلى قالب. وبعد تسعة أشهر يخرج الطفل إلى الدنيا بهيئته التامة الخلق.
آه من هذا الإنسان المتعجل أبداً!.. أنت الوحيد الذي يبدي نفاد صبر… أنت الوحيد الذي لا يراعي الترتيب الموجود بين الأشياء!..
ثم لننظر إلى خلق هذا الكون العظيم. لقد خلقه الخالق القادر بكلمة “كن”، ثم تقلب المكان والأشياء في يد قدرته مليارات السنوات من طور إلى طور، ومن شكل إلى شكل حتى وصل إلى وضعه الحالي. فما أكثر معاني هذا، وما أكثر عبر هذا الدرس!
إن كل موجود في هذا العالم… كل موجود… ليس إلا انتظارا متسما بالصبر والمقاومة للوصول إلى هدفه خطوة خطوة… دون أي تعجل… ودون أي تغيير في الاتجاه… اتباعا وامتثالا لقوانين الفطرة.
آه من هذا الإنسان المتعجل أبداً!.. أنت الوحيد الذي يبدي نفاد صبر… أنت الوحيد الذي لا يراعي الترتيب الموجود بين الأشياء!.. أنت الوحيد الذي لا يصبر على المسافات عند الصعود، فتحاول صعود عدة درجات في آن واحد وبقفزة واحدة!.. أنت يا من تنتظر النتائج دون أن تراعي الأسباب!.. أنت يا من تضع خيالات وتبني منها قصورا من زجاج وتغرق فيها!.. ثم ينتهي أمرك وتضيع بين ركام الأماني الكاذبة!.. أنت يا من تتحدث دون أن تفكر، ثم لا تأخذ عبرة من الندم الذي يعقبه، ولا تعقل!.. آه لو علمت!.. لو علمت كم تكون بعيدا عن القلب وعن الحب بحالك هذا، وكم تكون قريبا من الشؤم!.. ليتك تأخذ درسا مما يحيط بك من الحوادث التي كل حادثة منها خطيب بليغ، وكل واحدة منها لسان، لتتعلم منها كيف تراعي حق الترتيب والتسلسل الموجود بين الأشياء، وكيف تراعي الأسباب والنتائج!.. وليتك عرفت كيف تلجأ إلى الإيمان والعزم والإرادة وتعيش بها وليس إلى الخيال والتمني!
أنت موجـود بقدر صبرك، ومنـزلتك عنـد الحق تعالى هي بقدر صبرك… بقدر الصبر الذي تمارسه في أثناء حياتك باسـتمرار ودون أي انقطاع… الصبر الذي يقول كتابك الكريم عنه إنه الصبر على الاستمرار في ممارسـة أجمل الصفات وأفضل العادات دون هوادة ودون أي توقف… وبقدر ثباتك وقدرة تحملك تجاه القبح وتجاه مـا تكره… وأخيرا بمقدار صبرك تجاه النوازل التي تصيبك دون سابق إنذار، أي بقدر ارتباطك بالحقيقة التي يرسمها الشاعر:
الصبر هو الثبات في الموقع، وعدم تركه مهما بلغت الخسائر… هو الثبات في الموقع حتى ولو كنت تذوب مثل شمعة مشتعلة.
إن جاء الجفاء منك…
أو جاء الوفاء…
حبيب إلى النفس…
اللطف منك أو البلاء..
التوجه على الدوام نحو كل ما يعلي المرء، والحذر من كل ما يسفل بالمرء ومقاومته، وأخيرا تحمل كل البلايا والمصائب -التي تنـزل في وقت غير متوقع وبشكل غير متوقع وتهزك- دون أي يأس أو إحباط… هذا هو الصبر الذي هو أمرّ من العلقم، ولكنه في نهاية المطاف شراب زلال.
الصبر هو الثبات في الموقع، وعدم تركه مهما بلغت الخسائر… هو الثبات في الموقع حتى ولو كنت تذوب مثل شمعة مشتعلة.
أين أنت أيها العزم؟! أين أنت أيتها الإرادة؟! أين أنت أيتها الشهامة؟! أين أنت أيتها البسالة؟! لقد دارت رؤوسنا وداخت من كثرة تغيير الطرق وتبديل الاتجاه… لقد انتهى أمرنا من كثرة تبديل المعشوقين والأخلاء… وأصبحنا دون قبلة من كثرة تبديل المحاريب!
يقول أحد عشاق الحق والحقيقة: “لقد أرشدتني قطة”… قطة كانت تنتظر صيدها أمام جحر طوال الليل حتى الصباح دون أن تطرف لها عين… فما بالك أنت أيها الإنسان!.. قل لي كم انتظرت في محرابك الأبدي دون تحويل نظرك وبصرك، ودون تغيير طورك؟ أجل!.. كم مرة استطعت لم شملك دون غضب أو مرارة بعد تشتت ما نظمته، وتفرق ما جمعته، وداومت “من جديد” على طريقك مرة بعد أخرى؟ وكم من مرة رجعت بعد أن طردت من ديارك، ونفيت من وطنك، واغتربت في أرض الله فعدت ووضعت جبينك على عتبة حبيبك؟ ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُـولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلاَ إِنَّّ نَصْرَ اللهِ قَرِيب﴾(البقرة: 214). إنه قريب من الذين يستمرون على الخط نفسه في إظهار العبودية له، ويتحدّون الآثام ويناضلون ضدها، ولا يفقدون أملهم مهما اكفهرت بهم الأجواء، وثارت حولهم الأنواء. أجل!.. إنه قريب ممن يصفه الشاعر:
من دخل طريق العشق هذا…
لا يهاب الموت…
لقد سلكنا طريق العشق،
فلا يهمنا شيء سواه…
المصدر: مجلة “سيزنتي” التركية، نوفمبر 1981؛ الترجمة عن التركية: اوخان محمد علي.