Reader Mode

يرشدنا القرآن الكريم إلى أن رؤية الله تعالى هي أعظم نعمة وإحسان يتفضل الله تعالى به على المؤمنين في الآخرة، فيقول: ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ﴾ (التَّوْبِةِ: 9/72)، وجاء في الحديث الشريف: “إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِأَهْلِ الجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ: لَبَّيكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيكَ وَالخَيرُ فِي يَدَيكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى يَا رَبِّ وَقَدْ أَعْطَيتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ، فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا”[1].

فإذا ما وضعنا هذا القسطاس للحياة ما أهملناها أبدًا؛ بل سنحبُّها لا من أجلها، بل لكونها جسرًا وطريقًا مؤدّيًا إلى الآخرة، ولا يوجد لمثل هذه العلاقة أو الرابطة أيُّ محذورٍ: “الدنيا مزرعة الآخرة”.

إننا لا نستطيع أن نكون أهلًا للآخرة إلا بوساطة الدنيا؛ فجميع حواسنا ومشاعرنا ولطائفنا وقابلياتنا تنمو في الدنيا وتتوسّع، وهكذا نستطيع أن نكون أهلًا لرؤية الله تعالى.

بُغية المؤمن الأصلية:

إن الإنسان لا يستطيع رؤية الله تعالى في الدنيا لأنه لا يملك هذه المؤهّلات ولم تتهيأ له ولم يصل بعد إلى هذا المستوى من الاستعداد، والمسألة لا تتعلق بأبعاد الزمان والمكان أو بغيرها من الأبعاد، فالله تعالى أقرب إلينا من حبل الوريد، يحنو علينا بإحساناته، ويقضي في شؤوننا بإرادته، ويتصرّف بقُدْرَتِهِ اللانهائيّة، وإذا أردنا التعبيرَ عن هذا بتعبيرٍ صوفيٍّ نقول: “لا شيءَ أظهر من الله تعالى، ولكنه خفيٌّ عن العميان”، فإن كنّا لا نستطيع رؤيته فهذا يرجع إلى قصورنا، وإزالةُ هذا القصور في يَدِهِ تعالى، وسيزيله في الدار الآخرة فيستطيع المؤمن رؤيةَ جمال الله ويصل إلى أمله وبُغيته الأصلية.

الدنيا مزرعةٌ تُثمر لنا مثلَ هذه النتائج، وعندما ينتقل الإنسان من الدنيا إلى العُقبى تزول الحجب النورانيّة حجابًا تلوَ آخر؛ فيرى الإنسان عند ذلك ربَّه.

الدنيا، وتجليات أسماء الله تعالى:

إنّ الدنيا عبارةٌ عن تجليات أسماء الله تعالى، لذا علينا ألا نستهين بأيِّ شأنٍ من شؤون الدنيا؛ لأن حقائق الأشياء ما هي إلا تجليات لأسماء الحق تعالى، وكما يقول مولانا جلال الدين الرومي: “إننا نحنُ وإرادتنا وكلَّ ما يحدث حولنا نُشْبِهُ رايةً منصوبةً على عمودٍ مرتفعٍ جدًّا، وعلى هذه الراية كتابات ترفرف بها، والذي يُحَرِّكها ويرفرفها هو الله تعالى سلطان الأزل والأبد”، لذا فإننا إذا ما نظرنا إلى الحوادث والأشياء على أنها بستان -تحت إرادته وتصرُّفِهِ- تتجلى فيه أسماء الله تعالى وصفاته؛ نُشاهِدُ جمالَه على كل زهرةٍ وعلى كل قطرة ماءٍ عليها وعلى كلّ حبّة ندًى فوقها، ويُعبِّر جلال الدين الرومي عن هذا الأمر بتعبيرٍ ربما يصعُبُ فهمه على كثيرين فيقول: “إن الخيالات التي هي شبّاك الأولياء إنما هي مرآةٌ عاكسة تعكس الوجوه النيّرة في حديقة الله”[2].

إنّ الدنيا عبارةٌ عن تجليات أسماء الله تعالى، لذا علينا ألا نستهين بأيِّ شأنٍ من شؤونها؛ لأن حقائق الأشياء ما هي إلا تجليات لأسماء الحق تعالى.

عرض الله تعالى أمام أنظارنا بتجلّيات أحديّته بعضَ الجماليات في ذاته، ثم أوصلنا بلُطْفِهِ وكَرَمِهِ وأسرار أحديّته إلى القدرة على استنباط بعض الأمور وفقًا لدرجتنا المعنوية، فلما تجلّت هذه الوجوه النورانية في بُستان الأَحَدِيَّةِ للحقّ تباركَ وتعالى استطعنا أن نراها بأبصارنا المحدودة في هذا العالم، وأن نشهد تجلّي ربّنا سبحانه وتعالى فيها، فَفُتن بها من فُتن، ووقع في حُبِّها من وقع، أما من جُنّبها وهام على وجهه في الصحراء فهو كما قال يونس أمره: يظل يطلبها بلسان الحوت في البحار والغزال في الصحراء، أما الآيات الدالة عليه سبحانه وتعالى كعصا موسى فتنعكس في بستانه جلّ وعلا على مرآة روحنا.

———————-

المصدر: محمد فتح الله كولن:”الاستقامة في العمل والدعوة”، سلسلة أسئلة العصر المحيّرة (3)، ترجمة: أورخان محمد علي – د. عبد الله محمد عنتر، دار النيل للطباعة والنشر، ط1، 2015، ص: 225-227.

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.

[1] صحيح البخاري، التوحيد، 38؛ صحيح مسلم، الجنة، 9.

[2] بديع الزمان سعيد النُّورسي: الشعاعات، الشعاع الثاني، ص 10.