إذا وحّد العبد بين “القال-والحال”، عَلَتْ منزلته عند مولاه، ومَن عَلَتْ منزلته عند مولاه، ارتفعتْ مكانته في النفوس، وكان لِـقالِه وقعٌ في القلوب. فـ”القال-والحال” طرفا “لسانٍ واحد” له ما له من الأهمية في إعلاء الحق وتمثيله وتبليغه… وإذا ما صدع هذا اللسان بالحقيقة زلزل القلوب. ذلك هو شأن من جمع بين الحال والقال ولم يفصل بينهما؛ فكلماته تترك في القلوب أثرًا لا ينمحي ويُكتَب لها الخلود. وفي الأثر أن الله أوحى إلى عيسى ابن مريم: “عِظْ نفسَك بحكمتي، فإن انتفعتْ فعِظ الناس، وإلا فاستحي مني”، وفي هذا أبلغ البيان للسر الكامن وراء تصديق القول بالفعل.
على المرء إذًا أن يقوم بما آمن به أولاً، ثم ينطلق ليبوح -بتجرّدٍ وفناءٍ والتفات عن الذات- بما خالج صدره من مشاعر، وما تردد في أعماقه من أصداء، وما انقدح في ذهنه من أفكار إثر قيامه بما آمن به. ألاَ فليستحي من يعظ -مثلاً- في التهجد والقيام وهو في ليله من الغافلين النيام، وكذا من يعظ في الخشوع والخضوع وهو في صلاته غافل لاهٍ لم يلتزم بما يجب من الأدب والوقار بين يدي الله، ولا ينبسنّ ببنت شفة عن “نَذْر العمر للآخرين” من كان بلا “قلب منذور” للآخرين. أجل، لقد قضت حكمة الخالق أنّ تأثير القول رهن بتخلّله في قائله وقيامه به، فقال منبهًا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾(الصف:2-3).
ما أكثر ما سمعتُ حتى اليوم من خطب بليغة وكلمات فريدة. آذانُنا شبعَى، وعيونُنا جوعَى. ليتني أرى الإسلام سلوكًا يمشي على الأرض، لا كلمات تتردد فحسب. وا أسفاه، فالكلمات تشكو قائلها، والخطب تشكو خطيبها.
ولا يذهبنّ بأحدٍ الوهمُ إلى أنّ الآية عندما تحذّر المؤمنين وتُنكر عليهم بصيغة السؤال، أنها تقول لهم: “كُفّوا عن قول ما لا تفعلون”، بل تقول لهم: “قد غدوتم ترجمانًا للحق بأقوالكم، فلِمَ لا تترجمون أقوالَكم إلى أفعال أيضًا؟ فالقول المنفصل عن الفعل هو من أعظم ما يجلب غضب الجبار ومقته”. إذًا ليس المراد منع الإنسان من قولِ ما لم يفعلْ، بل تحفيزه على فعل ما يقول… فالفعل عبادة والقول عبادة، فإذا تركهما معًا فقد اقترف إثمين اثنين وحُرِم “التأثيرَ” من وجهين، ومن ترك أحدَهما فقد اقترف إثمًا واحدًا وحُرِم “التأثير” من وجه واحد.
أجل، قولُك لما لم تفعل، أو بالأحرى تركُك لفعل ما تقول، يجلب الغضب الإلهي، ويُخمد جذوة كلماتك، ويزعزع ثقة الخلق بك، ويحيل عباراتك مفرداتٍ جافةً حدُّها الآذانُ إلى أمدٍ، ثم مصيرُها النسيان إلى الأبد.
عرفتُ أناسًا الصَّمتُ سَمْتُهم، لا يتحدثون إلا لمامًا، وعندما يقتضي الأمر فحديثهم -غالبًا- إما شرح لمعانٍ تجلَّتْ في سلوكهم الأصيل، وإما تفصيل لمشاعر عميقة يعوزها البيان، أو تيسير لحقائق أشكل فهمُها على من عَميت بصائرهم. وكم وقف الناس مشدوهين مبهورين وهم يصغون إلى خُطبهم الصامتة، أي خطبِ لسان الحال. يا لله كم وكم بلغوا من عمق الحال والقلب، حتى إن كل من يجلس بين أيديهم ويستمع إليهم، ما أسهل أن يفهم عنهم ولو لم يكن ممن يعرف لغتهم، فيزداد لهم إكبارًا وتقديرًا. وعندما كنّا نحضر مجالسهم كنّا نقول: “شهِدنا، أدرَكْنا، تشرّبنا” لا “سمعنا، تعلّمنا، صدّقنا”… كانت كلماتهم حكمة. فإن لاذوا بالصمت شعرتَ بسهامٍ في أعماقك ترمي بها نظراتٌ منهم ترى الله عليها رقيبًا.
أجل، ما أكثرها من ينابيع وما أغزرها من عيون، تلك التي مررتُ بها! لكن -وا حسرتاه- لم أستطع ملء دلوي، فكان العبث والتسكع حرفتي. أليس شعث حالي دليلاً على تشرّدي وضياعي؟! إنني ما زلت حتى الآن أشعر بأثر صمت هؤلاء الربانيين الذين إنْ تحدّثوا فكلماتهم “حكمة”، وإن صمتوا فاضوا فكرًا وتأملاً.
ما أكثر ما سمعتُ حتى اليوم من خطب بليغة وكلمات فريدة.آذانُنا شبعَى، وعيونُنا جوعَى. ليتني أرى الإسلام سلوكًا يمشي على الأرض، لا كلمات تتردد فحسب. وا أسفاه، فالكلمات تشكو قائلها، والخطب تشكو خطيبها. أرجوكم لا تعتبوا عليّ، فإنني بينما أقول ما أقول أضع نفسي في هذه الكفّة نفسها؛ قل لي أين الخشوع في وجوه المصلين والقراء، ومن يقفون صفًّا واحدًا بين يدي الله تعالى؟! فلا معاني المثول بين يدي الله لها أثر على حالنا وسلوكنا، ولا الخشية تبدَّت في قسماتنا؛ ويكأنّ قلوبنا ميتة!
أجل، إنْ كنّا نبتغي سبيلاً للتأثير في النفوس فهو لسان “الحال”، أَنَسيتم أنّ أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- ما انتكست إلا يوم أن أخطأَتْ طريقَ لسان “الحال”؟! ألا ما أقلَّ رجالَ الحال اليوم!.. وإنّنا ما مُنينا بالهزيمة إلا بمحْل حلّ بنا في رجال الحال. أَكرَه أن أنفث باليأس في القلوب… وما أريد إلا التنويه بهذا الأصل: “العودة إلى الذات، والتجدّد، والوعي الدائم”. وإنّي لأحسَب أنّ الموت خير من حياة الغافلين عن الجوهر والذات. ربّنا امنن علينا باليقظة والعودة إلى الذات… وإلا فأكرمنا بلقائك.
(*) الترجمة عن التركية: نوزاد صواش.