Reader Mode

في كل ليلة من ليالي رمضان نهبّ من فراشنا وكأننا مقبلون على سفر بعيد، ونضع حظراً على النوازع الجسدية. وبمشاعر خفية ومقفلة على الدنيا ومفتوحة على “الحبيب” نتوجه إليه وحده، ونكاد نعدو من لهفتنا وفرحنا وشوقنا. وبالنسائم السحرية التي تهبّ علينا من حولنا وتحتضن كياننا وتلفه، نبتعد عن المشاغل اليومية وندخل في جو الآخـرة. في مثل هذه الأحوال تنفث ساعات الإشراق هذه سحرها في أرواحنا، وتشعل في قلوبنا شرارة الخلود والأبدية. تحمل مثل هذه اللحظات من الأنس واللطف والحلاوة والصدق بحيث أن كل ثانية منها بل كل ثالثة كلما توزعت وانتشرت وتعمقت في حنايا ضلوعنا، نحس وكأننا دخلنا إلى عالم الوصال، إلى درجة نتخيل فيها أن قبة وجودنا تكاد تنشق وننتقل إلى العالم في الطرف الآخر. وهذه وتيرة طبيعية كما قال الشاعر:

يا قلب!.. صاحبُ النفس هو الذي طلبها…

لم الحزن؟ هي ليست لي وليست لك…

كم تكون حلاوة هذه الدقائق وهـذه اللحظات في العمر ضمن هذه المشاعر اللدنية، حتى إننا قد نشعر بالامتعاض من مرورها السريع، ونتمنى دوامها ونقول: “ليت مثل هذه اللحظات الحلوة من شلال الزمن لا تسيل بمثل هذه السرعة، ويا ليتنا كنا نملك الإحساس بها بكل ثانية أو ثالثة أو عاشرة، مثلما يحس الإنسان بحلاوة شراب بارد في كل نقطة من النقاط التي يمر عليها”.

تشرق الشمس في كل يـوم على مشاعرنا هذه. وعندما يرتفع الأذان فوق المآذن في الظهر تتداعى هذه المشاعر مرة أخرى. وكل غروب يهب لأرواحنا أقداح الفرح والحزن. وتلفنا كل ليلة بسحر الخلوة، وتفتح مغاليق ألسنتنا لنبثّ لواعجنا، فيسرع كلّ منا إلى سجادة الصلاة لينفس عن حسرته وعن لواعجه وعن فرحه… يئن أحياناً، ويصرخ من الفرحة أحياناً أخرى.

وهكذا يمر شـهر كامل في أفق فكرنا بنفس الروح وبنفس المعاني التي تبحث عن طرق الارتباط به تعالى… يمر الشـهر ويمضي على الرغم من توسلاتنا وضراعاتنا بألا يتركنا. ولكن ما أن يغيب هلاله حتى تهل علينا شموس العيد التي تنير آفاقنا وتملأها نورا وضياء.

المصدر: محمد فتح الله كولن، ترانيم روح وأشجان قلب، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.