ثمّة منافذ داخل الإنسان تنزع إلى الخير، وأخرى تنزع إلى الشر يُطلق عليها النفس، فإذا لم تُحفظ الجوارح وخاصة العين والأذن واللسان من المعاصي، ولم تكن غايةُ العمل رضا الله تعالى؛ فإن المنافذ التي يمكن للشيطان أن يتسلّل منها تُفتح على مصراعيها؛ تلك المنافذ والثغرات التي أطلق عليها الحديث الشريف لمّة الشيطان: “إنَّ للشَّيطانِ لَمةً بابنِ آدَمَ، وللمَلَكِ لَمّةً، فأمّا لَمّةُ الشَّيطانِ، فإيعادٌ بالشَرِّ، وتكذيبٌ بالحقِّ، وأمَّا لَمّةُ الملكِ، فإيعادٌ بالخيرِ، وتصديقٌ بالحقِّ، فمن وجدَ ذلكَ، فليَعْلَم أنَّه من اللهِ، فليَحمَدِ اللهَ، ومن وجَدَ الأخرَى، فليتَعَوَّذ باللهِ من الشَّيطانِ“، ثُمَّ قرأَ ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ﴾ (سورة البَقَرَةِ: 2/268)[1].
فالشيطان يرمي سهامه إليها، وينفذ إلى قلب الإنسان من خلالها، ويُرسل إليه أنواعًا مختلفةً من إشارات الوسوسة؛ فيدفعه أحيانًا إلى حياةٍ عبثيّةٍ، وأحيانًا يكدِّر عبادته، وأحيانًا أخرى يُلقي في ذهنه شكوكًا تتعلّق بالإيمان، فإن أردنا ألا نتيح للنفس والشيطان فرصةً للشرّ؛ فعلينا أن نوصد تمامًا الأبواب التي يسهل عليهما الدخول منها.
إن النفس تشبه الطفل تمامًا؛ إن لم تفطمها في وقتها، وتوقفها عند حدِّها؛ فإنها ستعترض طريقك طوال الحياة، حتى ولو كان طريقُك هو طريق الأنبياء، فلن تتركك وشأنك، بل ستظل مصدرَ إزعاجٍ دائمٍ لك.. ولكن إذا أدينا حقّ إرادتنا، وسعينا إلى تطهير النفس وتزكيتها؛ استطعنا الخلاص من شرورها، وتمكّنا من تحويل النفس التي هي بمثابة مركز تحكّم للشيطان داخل الإنسان إلى مركز تجلٍّ للطائف الربانية، وتَقدَّمنا خطواتٍ نحو تحويل النفس الأمّارة إلى النفس الراضية.. فإذا ما أغلقنا الأبواب المفتوحة أمام الشيطان، فمهما حاول جاهدًا إغواءنا، فإنه في كلِّ مرّةٍ سيصطدم بهذه الأبواب المغلقة ويعود أدراجه مرة أخرى.. وكما قال البوصيري:
والنفس كالطفل إن تهمله شبّ على
حبِّ الرضاع وإن تفطمه ينفطم
لكن لماذا أودع الحقُّ سبحانه وتعالى في كياننا عدوًّا مهلكًا مثل النفس؟! لقد أودعها الله فينا؛ لأن وجودها يجعلنا نشعر بالحاجة إلى أن نكون على استعدادٍ لمواجهة هجماتها، وحماية أنفسنا منها، والتغلّب على هذا العدوّ الذي يكمن لنا ليوقعنا في حبائله بمختلف حِيَله وألاعيبه، يضطرنا إلى أن نقضي أعمارنا في صراعٍ دائمٍ معه، ولكي نضمن الغلبة لأنفسنا والحفاظ على استقامتنا، نتوجّه دائمًا إلى الله تعالى بالذِّكر والعبادة والدعاء، ونطلب منه عز وجل العون والمدد.. فنحاول بهذا اللجوء إلى الله أن نكون في مأمنٍ من شرِّ النفس الأمَّارة بالسوء التي تقودنا إلى مختلف الشرور؛ أي البقاء في حالة يقظةٍ دائمةٍ ومراقبةٍ مستمرّة إزاء خطر النفس، والعمل على تربيتها وتزكيتها بالرياضة الروحية والمجاهدة وذكر الله والسير والسلوك والعبادة والطاعة، ومحاولةِ الدخول في دائرة التقوى لنتحصّن بها.. لذلك يجدر بنا أن نترحّم على النفس لأنها السبب في كلّ هذه الخيرات!
عصر الأنانية والنفاق
ولمّا كان العصر الذي نعيش فيه هو عصر الأنانية؛ ازدادت النفسُ شرورًا وطغيانًا.. فنحن في زمنٍ يريد الناس أن يظهروا وكأنهم بحرٌ خِضمّ رغم أنهم مجرّد قطرةٍ صغيرة، بل ويتملّكهم هوسٌ أن يصبحوا شمسًا ساطعة وهم مجرّد ذرّةٍ لا تُرى، لا سيما عندما يصلون إلى المراتب العالية حيث تتعاظم توقعاتهم وطموحاتهم؛ فيريدون أن يُستقبلوا بالتصفيق والتهليل أينما ذهبوا، وأن يقف الناس أمامهم خاضعين أذلّاء.. يستهويهم أن يقف الناس لهم احترامًا وأن يروا منهم التقدير والتبجيل.. ينظرون إلى الآخرين من عَلٍ، وكأن جميع الناس خدمٌ على بابهم، لم يبق -حاشا لله- إلا أن يصفوا أنفسهم بالإله! ربما يتسلّل هذا الوهم إلى قلوبهم، لكنهم لا يستطيعون الإفصاح عنه، لقد كان فرعون وقحًا لدرجة أنه أعلن عن ذلك صراحة، أما أصحاب المناصب في عصر الأنانية هذا فلأنهم طُبعوا على النفاق، لا يستطيعون الإفصاح عن ذلك علانية.
بعض هؤلاء الأشخاص يضعون جباههم على الملتزم عند الكعبة وهم يجهشون بالبكاء، أو يستلمون الحجر الأسود وهم يتضرّعون بالذكر والدعاء، في حين أن قلوبهم ملوّثةٌ على الأقلّ بقدر تلوُّث قلب أبي جهل.. فبينما هم في موضع أدعى أن يكونوا فيه أقرب إلى الله، إذا هم يحرصون على أن يراهم الناس ويعرفوهم ويثنوا عليهم. فلا يتردّدون في استخدام أعظم مقدساتهم وقيمهم الدينية سُلّمًا لتحقيق مصالحهم الخاصة.. ولذلك فإن معرفة هؤلاء على حقيقتهم، وتحليل مشاعرهم وأفكارهم أمرٌ بالغ الصعوبة، وإن لم نفطن إلى حقيقتهم قد نتلقّى منهم طعنةً في الظهر، فقد ننخدع بمَن يلهج لسانه بذكر الله، ويتحدّث دومًا عن الدين والتديّن وهو في الحقيقة على غير ذلك، لأننا لا نستطيع أن نشقّ على قلب أحدٍ ونرى ما فيه.. علينا أن نحسن الظنّ بالجميع، ولكن دون إهمال مبدإ “عدم الثقة المطلقة”، فلا ندير ظهورنا لأحدٍ دون اختباره عدّة مرّات.
إن رؤية الإنسان نفسه وكأنه طاهرٌ مُزكًّى تجعله يرتكب آثامًا تُخرِج الشيطان عن منافسته، والغريب في الأمر أن هؤلاء الناس ما زالوا يرون أنفسهم مسلمين ناجين رغم ارتكابهم لأكبر الكبائر. يزعمون أنهم يؤمنون بالله، لكنهم في الحقيقة يركضون مثل خيل السباق -دون وعيٍ- خلف مجموعةٍ من المعبودات المؤقّتة، يعتقدون أنهم يعبدون الله، والحقيقة أنهم يعبدون دنياهم وملذّاتهم الجسدية ورغباتهم الشهوانية وغرائزهم البشرية؛ لذلك يمكن أن تجد أوجه شبهٍ كثيرةً بينهم وبين أولئك الذين عبدوا أصنام الماضي مثل اللات والعزى ومناة وإساف ونائلة.
إن الشخص الذي لا يستطيع التحرّر من أهوائه ورغباته، ولا يتخلّى عن مطالبه وتوقّعاته، لا يمكنه أن يكون عبدًا لله بالمعنى الكامل، والطريقُ الوحيد للتحرّر من عبادة الأصنام والأوثان بجميع أنواعها يمرّ عبر العبودية لله، فالمرء لا يكون عبدًا لله بالمعنى الحقيقي إلا إذا دفع بظهر يده جميع أصنام الدنيا وملذاتها.
كلُّ شيء من الله
إنّ من نسب الأمور كلَّها إلى الله هو الفائز حقًّا؛ مع حفظِ مقام الإرادة ومسؤولية الإنسان، لكنّ من جعل لنفسه نصيبًا من الدعوى والادّعاء لا يحصد في ميدان الفوز إلا توالي الخسارات.
فالإنسان مطالب بأن يترفّع عن أسر “الأنا”، وأن يرتقي من ضيق “أنا” إلى سعة “نحن”، ثم يسمو ببصيرته إلى مقام “هو”، حيث يُشهِد قلبَه جلال الواحد الأحد.
وإنّ التخفّف من ثِقل الأنا والاتّحاد في “نحن” ليس مجرّد خُطوة لفظيّة، بل هو مفتاح الوفاق والاتفاق، ولا يُنال صفاء الجماعة إلا به.
غير أنّ ما يفيض على القلوب من ألطافٍ ربّانية بسبب ذلك الوفاق، إنما هو في أصله عطية من لدنه سبحانه وتعالى.
فـ”نحن” وإن كانت لها قيمتُها في محيط الأسباب وبنية الاجتماع، إلا أنّ سرّ التوفيق ومآل الأمر كلَّه مردود إلى “هو”، لا حول ولا قوّة إلا به.
والضمير “هو” يشير إلى إطلاقه على جميع الأسماء الإلهية والصفات السبحانية، في الوقت ذاته يلمِّح إلى أنه لا سبيل إلى إدراك حقيقة الذات الأحدية.. ولولا أنه سبحانه وتعالى قد أذن لنا بمخاطبته بـ”أنت” حين نتضرّع ونتوسّل إليه، لكان استخدام هذا الخطاب نوعًا من الوقاحة تجاهه.
فإن قدرة الإنسان على معرفة ماهيته، وإدراك عجزه، وتحديد موقعه الصحيح أمام الله تعالى، أمرٌ لا غنى عنه في تخلُّص الإنسان من بعض السقطات، أو تجاوز بعض المشكلات التي يواجهها.. فإن لم يعرف الإنسان نفسه، وعاش نوعًا من العمى تجاه ماهيته، يبدأ حينها بتخيّل العظمة في نفسه، أو ينسب إليها فضائل ليست فيه أصلًا؛ في حين أن وجودنا ذاته ليس ملكًا لنا، فنحن في الحقيقة مجموعةٌ من اللقطات المتتابعة التي يمنّ الله بها علينا لحظةً بعد لحظة.
إننا مظهر من مظاهر أفعال الله وآثارها، وصورٌ متجسدة للتجليات الإلهية التي تصدر عنه سبحانه وتعالى.
يُروى أن أبا يزيد البسطامي بعد أن عبد الله ثلاثين عامًا سمع هاتفًا يقول له: “يا أبا يزيد! إن خزائن الله ملآى بالعبادات، إن كنتَ تبغي الوصول إليه تعالى فاستصغر نفسك عند باب الحقّ، وكُن مخلصًا في عملك”.
إن استصغار الإنسان لنفسه وإخلاصه في عمله؛ خيرٌ من حجِّه كلّ عام، وصومِه طوال حياته، وأدائه ألف ركعةٍ في كلّ يوم من أيامه.. ومثل هذا الإنسان يكفيه أن يرى اللهُ عباداته وطاعاته، وخيرَه وإحسانَه، ولذلك لا يسعى إلى إظهار نفسه ورفع صوته أمام غيره. فيعمل من أجل الله، ويتكلّم من أجل الله، ويتحرّى رضا الله في كلِّ أعماله.
العِلم الحقيقي هو معرفة الله
وللأسف الشديد هذه الحقائق هي أقلّ الأمور معرفة في أيامنا، فالإنسانُ في عصرنا -مع الأسف- لا يُحسن قراءة نفسه، ولا يقدر على اكتشاف ذاته، ولأنه لا يعرف نفسه فإنه لا يستطيع كذلك أن يعرف ربّه معرفةً صحيحةً، فمن لا يكون عارفًا نفسه في عالم الأنفس لا يمكنه أن يكون عارفًا الله في عالم الآفاق.
إن مسلمي اليوم لا يعرفون الله كما يجب، ولا يقدِّرونه حقّ قدره.. يلهجون بذكر ربهم، ويدّعون أنهم مسلمون، ويتلفّظون بكلمة التوحيد، إلا أنهم يكذبون من حيث لا يشعرون.. ولأنهم لا يعرفون حقيقة أنفسهم، ولا يحاولون التفكّر في أنفسهم؛ فإنهم لا يستطيعون أن يعرفوا الله حقّ المعرفة.
إن إنسان اليوم يقلّب وجهه دومًا في العالم الخارجي، ومن ثمّ لا يستطيع أن يرى قصوره وعيوبه، ينشغل بقصور الآخرين وعيوبهم، ولا يلتفت مرّةً واحدةً إلى نفسه، فلو ظلّ يشتغل بعيوب غيره عن عيوب نفسه سيظلّ يرتكب العيوب طوال حياته.. والشخص الذي لا يلتفت إلى نفسه، وليس لديه العزيمة والإصرار على إصلاح قصوره ونقائصه؛ فإنه يقع في أخطاء متوالية وانحرافات متتابعة، فهل يمكننا القول إن مثل هذا الشخص يعرف الله؟
إن العلم الحقيقي هو معرفة الله، وهو الاعتراف بأن الأبصار والبصائر لا يمكنها الإحاطة به سبحانه، ولا إدراكه على ما هو عليه في حقيقة ذاته.
العلم الحقيقي هو أن يربط المرءُ تأمّلاته دائمًا بحقيقة “هو” عندما يجول ببصره في الوجود والأشياء، بدءًا من عالم الأنفس إلى أعلى الذرى في عالم الآفاق، ومن تمكن من النظر إلى الوجود من باب أنه من تجليات أسماء الله وصفاته؛ فقد سلك طريق المعرفة، ومن سلك هذا الطريق؛ لا يحيله الله إلى جهله، بل يعلّمه ما ينبغي له أن يعلمه.
[1] سنن الترمذي، تفسير القرآن عن رسول الله، 3.
