1- الاستقامة في الإرشاد
إن القرآن المعجز البيان حينما يرشد الإنسان فإنه دائمًا يسلك طريق الاعتدال والاستقامة، ولا يفتح المجال للإفراط والتفريط في تنبيهاته وتنويراته.
أجل، إنه لا يوجد في القرآن شيء من الأمور المفرطة التي تُخلّ بـتوازن الإنسان الروحي، وتقلب تناغمه المعنوي والعاطفي، فحينما يتحدث عن المجرم لا يحطم كرامته وكذلك لا يُطْري في مدح صاحب العمل الصالح كي لا يعجب بنفسه. أجل، إنه حينما يدغدغ المشاعر ويراعي الأحاسيس ويقوم بمختلف التشريحات والتحليلات، يراعي دائمًا هذا التوازن، ولا يحيد عنه قطعًا..
فالبعد عن الإفراط والتفريط الذي نعبِّر عنه بـ”الاستقامة في الإرشاد” لهو أمرٌ مهم في باب تحليل الإنسان؛ فمِن الناس مَن إذا دُغدِغت روحه -ولو قليلًا- فإنك تراه يرتخي بل قد تتميع لديه روح العبودية، كما أن هناك -بالمقابل- من إذا نُقِّبَ -ولو قليلًا- عن مساوئه التي اقترفها ومُسَّ كبرياؤه فإنه سرعان ما يتخبط في أوحال اليأس والقنوط.
وكم من أناس ظنهم الآخرون سالمين، لكنهم سقطوا رأسًا على عقب وهلكوا بسبب ذنب صغير اقترفوه، إذ كل من يذنب يكون قد خطا خطوته الأولى نحو هذا الهلاك، فـ”في كل ذنب هناك طريق يؤدي به إلى الكفر” .. وليس أحد من بني الإنسان معصومًا من المعاصي.
أجل، إن مقاومة المعاصي أمر صعب جدًّا، إذا لم يكن لدى المرء إيمان راسخ وإرادة قوية، ويصعب الأمر بشكل كبير على أبناء هذا الزمان الذين أحاطت بهم المعاصي من كل جانب، ومن هذا المنطلق ينبغي عدم المبالغة في التحامل على من اقترف ذنبًا، ولكن يجب -في الوقت ذاته- عدم التّساهل في المعصية أيضًا، وقد يهلك العاصي بما عصى إذا لم يكن هناك يد تمتد إليه، وتنقذه مما تورط فيه خطأً وغَلبت عليه مشاعره، وتنتشله من عالمه إلى آفاق السلامة، وتربطه برحمة أرحم الراحمين.
فلذلك سيكون من المهم بالنسبة للمجرم الذي تعرض لمثل هذه الحالة أن تُفتح له أبواب الأمل ويُربَّتَ على أحاسيسه، حتى يؤمن بسعة الرحمة الإلهية فيَخلصَ من المستنقع الذي وقع فيه.
وبالمقابل إذا كان هناك من قام بأعمال صالحة فإن الإطراء في مدحه والمبالغةَ في جرعة التوجه والالتفات إليه قد يؤدي به إلى البطر والغرور من حيث لا يدري، فيكون من الخاسرين في معرض الربح.
وهذا يعني أن تعديل الجرعة وضبطَها بالغُ الأهمية في باب الإرشاد والتبليغ.. وهذا ما نعبر عنه بـ”الاستقامة في التبليغ والإرشاد”.
فهذا الشخص الذي انتُشل من المستنقع من ناحيةٍ، ينبغي حمايته من ناحية أخرى دون الوقوع في الإفراط والتفريط حتى يفيد إرشاده شيئًا، وهذا من الأمور التي يخطئ فيها كثير منا في هذا العصر، بل إن للعلم في هذا الميدان أخطاء لا تعد ولا تحصى، ولكنك لن تجد في القرآن المعجز البيانِ أي شيء فيه انحراف عن خط الاستقامة، فكل ما فيه هو في موقعه المناسب، ومراعاة الطبيعة والفطرة هي في إطار الموازين الصحيحة.
وكما أننا نجد في القرآن توازنًا بين الخوف والرجاء، نجد فيه أيضًا موازنة بين التواضع والكبرياء، والمحبة والبغضاء، ولا يوجد وصف للجرعات الحساسة الموزونة بالموازين الدقيقة إلا في وَصفات القرآن، ولا تُلخَّص آليات الموازنة بين الدنيا والآخرة، والمفاضلة بين الإيمان والكفر، وتحليل وتدقيق شخصية المؤمن والكافر والمنافق إلا في بيان القرآن فقط.. ولذلك نقول: إن العلم الحديث والإنسان المعاصر يحتاجان دائمًا إلى القرآن، فحينما يربت القرآن على روح المجرم ويلاطفها لا يداريه في إجرامه، بل يبقى في حدود ما يتوعد به فيرغِّبه إلى الأعمال الحسنة لينتشله من إجرامه.
كما أن القرآن يحتوي على وصف أقصر الطرق الطبيعية المؤدية إلى استجابة الدعوات.
إن القرآن لا يخاطب عقل الإنسان فحسب بل ينادي روحه أيضًا، وبذلك يحرك مشاعره ويرشده إلى الطرق المؤدية إلى السعادة الأخروية، والقرآن يُسخِّر كلَّ الأدوات في سبيل الإرشاد والتبليغ، ويتناول أصغر الأمور على النحو المطلوب، ولا يتجاهلها ولا يهملها، ويتناول الإنسان باعتباره كلًّا متكاملًا بمادته ومعناه، ويضعه على طاولة التشريح، ويكشف عن المرض ويشخِّصه، ويبعث الأمل في الإنسان ويشجعه ويجذبه نحوه، والقرآن يوارب الأبواب دائمًا لأولئك الذين فسدت أرواحهم ويتيح لهم فرصةً تلوَ الأخرى.
إن القرآن هو الذي يبيّن أن الله: ﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ (سورة الرُّومِ: 30/19)، فليس في القرآن كلمة واحدة تؤدي إلى التراجع والجمود وإلى ما يفسد الأخلاق والمعنويات.
ويستطيع الإنسان أن يجد ذاته في القرآن بظاهره وباطنه ومن كل جوانبه.. ورسالة القرآن إنما هي رسالة ذات استقامة في التوازن بين الظاهر والباطن، كما أن المعرفة الصحيحة والموازين الدقيقة الحقّة التي لها دور في التربية وتحليل نفسية الإنسان لهي من الأمور التي لا توجد إلا في ثنايا صحائف القرآن المعجز البيان.
2- إرشاد النفوس العالقة في أوحال المعاصي
لقد ركزنا منذ البداية وإلى الآن على أن القرآن هو كلام الله من كل الوجوه، وأنه يستحيل على البشر أن يأتوا بمثله.. وكان هدفنا من لفت الأنظار إلى أسلوبه في إرشاد الناس من مختلف المستويات والثقافات والعقائد، هو أن نبين مرة أخرى ونَعْرِضَ للأنظار مدى تفرده من بين سائر أنواع الكلام، فإن الإنسان إذا تمعّن في القرآن بتدبر عميق فسيقول في نهاية المطاف: “ليس هذا إلا كلام الله”، وقد رأينا هذا الجانبَ من خلال الأمثلة التي أوردناها إلى الآن، وليس لنا أن ندَّعي أننا بيَّنَّا في هذا المقام ما يتمتع به القرآن من تلك الجاذبية الخاصة به، وإنما غاية ما في الباب أنني أردت أن أنقل للآخرين ما شعر به قلبي وروحي من المعاني التي استلهمتها من القرآن ذاته.
إن فهم القرآن والإحاطة بأسلوبه الفريد يتطلب معرفة جادة به، ونحن بدورنا لم نرجع في عملنا هذا إلى أي مصدر آخر غير الكتاب والسنة الصحيحة حتى لا يتكدَّر صفوُ أذهاننا بسائر الآراء والأفكار وبذلك حاولنا تقديم الحقائق التي تكوّنت من التقاء هذين المصدرين.
أجل، إن القرآن الكريم يتولى أمر إبراز جاذبيته بنفسه، ويكفي في ذلك أن تتسامى الأرواح وترتقي نحوه، ولا تتوجه إلا إليه، والقرآن يشرح قضيته ويعبر عنها بأسلوب لا يفوقه أي بيان وتعبير، وحينما يكشف عن الحالة النفسية للناس يجعل السامع يشعر وكأن القرآن يجري في دمه وعروقه.
والآن كمثال على هذه الأمور التي تَحدَّثنا عنها؛ تعالوا بنا نتابع الحالة الروحية والمشاعر الداخلية لعبد اقترف الخطيئة، من خلال قوله تعالى: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا﴾ (سورة النِّسَاءِ: 4/31).
وعليَّ أن أعترف أنه لا يمكنني أن أعكس حقيقة جمال الآية من خلال مثل هذا التفسير المتواضع.
أجل، إن التفسير مهما كان دقيقًا فمن المحقَّق أن هناك حقائق عديدة يتم التعبير عنها في الآية عبر مختلف أوجه الدلالات إلا أن التفسير يعجز عن نقلها إلى لغة أخرى، فأنَّى للتفسير أن يعبر عما في البيان الإلهي من الإشارات أو التلميحات إلى بسمة أو طرفة عين أو قسمات وجه، فكم في تلك التعبيرات الغنية من الإشارات أو الرموز أو مستتبعات التراكيب التي يستحيل إبرازها من خلال التفسير، فتدبّروا في قول الله تعالى: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا﴾ (سورة النِّسَاءِ: 4/31).
فتخيلوا أن هناك إنسانًا تلطخت يداه بالدماء، واحمرت عيناه بالدماء، ويسطو على ما حوله يمنة ويسرة، حتى بلغت به هذه الحالة الجنونية إلى أن يدمر ويحرق ما حوله، فهذا الإنسان إلى جانب مقارفته المعاصي هو لا يحترم القوانين الكونية ويشاكس من حوله بمنتهى الفظاظة.. وهذا ما نفهمه من تعبير “كبائر”.
فكل المعاصي الكبيرة التي تتبادر إلى الذهن تدخل في نطاق كلمة “الكبائر”، فهذا الإنسان إلى جانب ارتكابه للمعاصي والكبائر والمنكرات فإنه ينشرها -في الوقت ذاته- إلى ما حوله، ويشجع عليها ويقوم بالدعاية لها، والأدهى والأمر أنه يقوم بتأسيس مدرسة للمعاصي والعصاة.. فتخيلوا مجرمًا بهذا المستوى يسيلُ لعابه وهو يهجم على من حوله، فإذا بالقرآن يهمس في أذنيه وهو على هذه الحالة: “إن تجتنب هذه الأعمال التي ترتكبها…”، فيبثّ روح الأمل فيه قائلًا: “إن تأخذ موقفًا صارمًا تجاه الكبائر، وتغمضْ عينيك عن المعاصي فور رؤيتك لها، وتتوَخَّ الحذر بيديك ورجليك وعينيك وأذنيك تجاه الخطايا، فإننا سنجعل ذلك كفارة لما اقترفته من المعاصي”.
فنلاحظ أن المطلوب من المجرم شيءٌ قليل، وهو أن يتخذ موقفًا تجاه الشرور التي تترصد حياته القلبية والروحية لتهلكه.. أجل، إن المطلوب منه هنا هو التخلي -فقط- عما يرتكبه من المعاصي، ليكون موقفه هذا كفارة لجرائمه، وإن لم يبدأ بعدُ في الأعمال الصالحة، وأظن أن كل من أصغى إلى صوت ضميره فسيعتبر مثل هذا النداء من الله بشارة للخلاص؛ فإنه لم يُطلب منه بعدُ الشيءُ الكثير من الخير والحسنات، بل قيل له فقط: “إذا صادفتَ السيئات فدعها وشمر عن ساعديك متجهًا نحو الشاطئ الآخَر من دون أن تتلوّث بالمستنقع”، فإذا وصل إلى الشاطئ الآخَر نظيفًا فإنه سيفوز بالوجود والخلاص الأبديَّين.
﴿وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا﴾ تقول الآية الكريمة: إن تقوموا بهذا العمل على هذه الشاكلة فإننا سنسمو بكم من أسفل طبقات الإنسانية إلى أعلى عليين منها، وسندخلكم -بصفتكم أناسًا ذوي أصل كريم- الجنةَ التي هي دار الأعزّاء.
فمثل هذه التعبيرات تُهدّئ روح كل مجرم تقريبًا وتوارب له باب الأمل، فإن الواقع هنا هو التغير العمودي الذي يُشْبه الارتفاعَ بسرعة الصاروخ من قعر بئر إلى رأس المَنارة، بالإضافة إلى أن هذا الإنسان لا يتحمل من عناء هذا السفر الغالي سوى إغماض العين تجاه الحرام.
فالآن تصوَّروا -من جانبٍ- قُبْحَ الكبائر التي تجعل المذنب يشعر وكأنه وصمة عار في الحياة.. ومن الجانب الآخر، تصوّروا حجم اللذة الروحانية والحماس المنبعثين في روحه بسبب البيان الرباني الكفيل بخلاصه من مستنقع المعاصي الذي يتخبّط فيه، ومِن بعد ذلك حاوِلوا أن تفهموا كيف يُهيّج القرآنُ المعجزُ البيان مشاعرَ الناس وأحاسيسهم وحماسَهم وأشواقهم، وكيف يصبح منبعًا فياضًا لِبعث الأمل في الأرواح التي فَقدت آمالها، افعلوا ذلك حتى تفهموا أنه معدن الإرشاد الذي ينشر أنفاس الحياة.
ولنتصور في أذهاننا نوعًا من المجرمين، ولننظر إلى المشهد الذي يُعرض فيه أولئك الذين هاجموا المؤمنين، وساموهم سوء العذاب بسبب دينهم وإيمانهم، ولم يتبعوا الرسل والرسالات ولم يستسلموا للحق والحقيقة، ولننظر إلى الآيات وهي ترسم صورة الذين اتخذوا العصيان شعارًا لهم من خلال ارتكاب شتى ألوان المساوئ، أولئك الذين دأبوا على تعذيب المؤمنين وممارسة الظلم عليهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾ (سورة البُرُوجِ: 85/10).
فهذه الآية الكريمة تَعرض للأنظار -بشكل وجيز- كلَّ أولئك الغوغائيين من الكَفَرة الفَجَرة الذين تسلّطوا على المؤمنين والمؤمنات دون تمييز لأحد، وهددوا حياتهم الدنيوية والأخروية بلا هوادة، ولكن علينا أن ننظر إلى الموضوع من زاوية قوله تعالى في سياق الآية ﴿ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا﴾؛ فإنهم حينما ينظرون إلى الموضوع من زاوية ﴿فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾ فإنهم سيظنون أنه ليس لهم مَخرج وباب للأمل، ولكن قوله:
﴿ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا﴾ يَعِدُهم ضمنًا بمفاجآت، فحينما يسمع المجرم هذا الكلام يشعرُ وكأنه على جسر يوصله إلى شاطئ السلامة وبر الأمان.
أجل، إن الذين يدأبون على إجرامهم، ولا يتخلون أبدًا عن المعاصي، والذين لا يستطيعون التخلي عن ارتكاب المحظورات، يستحقون عذاب النار يوم القيامة، ولكنهم إذا أرادوا فهناك دائمًا باب مفتوح يستطيعون الخروج من خلاله من سجن المعاصي الذي وقعوا فيه.. إنه باب التوبة، وباب التوبة مفتوح دائمًا أمام كل أحد.
فلنتصور مدى تألم الروح المجرمة تجاه تهديدات هذه الآية، وشدةَ تلك العواصف التي تثور بداخله جراء سماعه الحديثَ عن “العذاب الإلهي”، ثم لنتخيلْ كيف يفتح قولُه تعالى: ﴿ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا﴾ له باب الأمل، فيكون كيوم ولدته أمه إذا تخلى عن قبائحه، فحينذاك نغدو وكأننا نرى رأيَ العين كيف تُرَبِّتُ الآيةُ على قلوبهم وعواطفهم.. وهذا يعني أن القرآن الكريم حتى حينما يتناول المجرمين لا يحيلهم إلى اليأس والقنوط قطعًا، ولا يصدمهم بمعالجة القضية من جانب المعاصي فقط، وحينما يُصدر الحكم يوارب لهم باب الأمل والرجاء، وبهذا يعطي الفرصة لأمثال هؤلاء حتى يتخلوا عن المعاصي ويتوبوا.
3- القرآن الكريم وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم
من أهداف إرسال الرسل بالرسالة السماوية هو أن يطاعوا من أَجْل الله، والقرآن الكريم يَعرض للأنظار هذه الحقيقة الكلية من خلال بعض الآيات الكريمة، ومن الأمثلة على ذلك قول الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ﴾ (سورة النِّسَاءِ: 4/64)، ولذلك اعتُبرت معصية الرسول والتمرّد عليه من كبائر الذنوب.
فالتمرد على الله ورسوله وعلى القيم التي يجب التمسك بها علامة على فساد في الطبيعة البشرية وانزلاقٍ في الروح، وأما تعرُّض مجتمع بأكمله لمثل هذا الانحراف الكبير فهو يدل على تدمير المقومات الأساسية التي تحافظ على قيام المجتمعات، مما يعني أنه من المستحيل أن يعيش هذا المجتمع لمدة طويلة.. ولم يهلك الذين أخبر عنهم القرآن من عاد وثمود وقوم لوط وأقوام كثيرة غيرهم إلا لهذا السبب.
فعدم الإطاعة، الذي يعبَّر عنه بالعصيان والتمرد وسوءِ الطبع وغيرِ ذلك لهو مثل الأمراض المُعْدية، فإذا لم تتم السيطرة عليه في الوقت المناسب فسيسري إلى كل المجتمع، وحينذاك يختل التوازن في المجتمع ويؤدي به في نهاية المطاف إلى الهلاك والدمار.
ويمكن أن نوضح هذا الموضوع بمثال كما يلي: لنفرض أن هناك مجموعة عسكرية صغيرة تضم قليلًا من الجنود، ومن بين هؤلاء الجنود جندي متهور لا يطيع ضابط الصف مما يجعل هذا الضابط يريد ويحاول أن يعاقبه على تهوره، ولكن هناك ضابطًا أعلى يعفو عن هذا الجندي، وكنتيجة طبيعية لهذا الأمر يبدأ الجنود الآخرون بالتمرد على ضابط الصف، بل ويستخفُّون بأوامره ويسخرون منه، وهذا يعني أن السلسلة التراتبية بدأت بالاختلال والانقلاب رأسًا على عقب، ويمكن أن نعمم مضمون هذا المثال البسيط على سائر وحدات الجيش.. وكما هو ملحوظ هنا لما لم تُعَالَج المشكلةُ في مراحلها الأولى على الوجه المطلوب، استفحلت وسَرَى مرضُها إلى بقية الصف، وشملت كل وحدات الجيش.
ويمكن تطبيق هذا المثال نفسه في نطاق النبي وأمته؛ فالقرآن الكريم في سياق هذا الخطر المحتمل ينبه الأمة في آيات عديدة، وإذ ينبه على ذلك يستخدم أسلوبًا في منتهى اللين واللطف، بالإضافة إلى لفت الأنظار إلى توقير مقام النبي : ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾ (سورة النِّسَاءِ: 4/64).
فنلاحظ أن هذه الآية تخاطب -أولًا بشكل خاص- المجرمين الذين قصَّروا في احترام الأوامر الدينية، وتمرّدوا على الأوامر التي يجب طاعتها، ولم يحترموا الكبار، وباختصار: ظلموا أنفسهم.. ولم يأت في الآية أسلوب يجرح عواطف المذنبين ويؤنّبهم ويُخجلهم.. فصار هذا الصنيع من العناصر المؤدية إلى تليين قلوبهم.
وثانيًا: هناك أمر آخر، وهو أنه لا بد في ترك التمرد على الرسول من الرجوع إليه ، لأن الطريق إلى رحمة الله الواسعة يمر عبر النبي . أجل، إن سلطان الأنبياءعليه السلام بمثابة الجسر المؤدّي إلى رضا الله ورضوانه، ومن المستحيل على العبد أن يلقى الله من دون المرور عَبره.
وهذا الحديث جعلنا نتطرق إلى موضوع يجدُر ذكره في هذا المقام: وهو أنه لا يوجد في الإسلام واسطة بين العبد وبين الله، فللعبد أن يؤسّس علاقة بينه وبين ربه حيثما أراد ومتى شاء، ولكن علينا أن نأخذ بعين الاعتبار حيال هذه النقطة أن الرسول  هو الذي علَّمنا طريق هذه العلاقة.. فلذلك يُعتبَرُ هو أهم وسيلة فيها.
أجل، إنه وسيلة باعتبار ما علَّمَناه.. وسيلةٌ بمثابة الغاية، إلا أننا نرى كثيرًا من الأرواح التي فيها جفاء لم تدرك هذا الجانب، ونظرت إليه  وكأنه ساعي بريد، وبذلك حادت عن الصراط المستقيم.
وثالثًا: إن ذكر وصفي الله : “التواب” و”الرحيم” ينطوي على منتهى الملاطفة لقلوب المجرمين، ويزيد لديهم الأمل في العفو عنهم وفي قبول توبتهم، ويشير إلى أن التوبة والاستغفار أسهل وأقصر طريق للإقلاع عن الخطايا.
أجل، إن هناك كثيرًا من الناس الذين رأوا ما في القرآن من عميق التسامح من خلال هذه الآية وما شابهها من الآيات فأَتَوْا إلى حضرة صاحب الرسالة  واعترفوا بخطاياهم وطلبوا تطبيق الحدود عليهم حتى وإن أدى بعض منها إلى الموت؛ فما مجيء ماعز والغامدية التي شاركته في اقتراف جريمة الزنا إلى النبي  واعترافهما بذنبهما إلا واحدٌ من تلك الأمثلة على هذه الحقيقة التي ذكرناها، وأظن أنه سيكون من الصعب على إنسان عصرنا أن يدرك ويشرح مدى مشاعر الندم لدى هذين الصحابيين اللذين أتيا إلى النبي  واعترفا بذنبهما بطريقة تؤدي إلى تضحيتهما بحياتهما الدنيوية، فهو أمر يفوق حدود تصوُّر أهل هذا العصر ومداركهم.
والحاصل أن عصيان الرسول  من الجرائم الكبيرة، وقد يأتي يوم تؤدي هذه الجريمة إلى هلاك المجتمع بأكمله؛ ولذلك نلاحظ أن القرآن الكريم ركز على هذه النقطة بحساسية بالغة، وقَرَنَ بين طاعة الله و طاعة رسوله، بل إنه وَضَع أحكامًا وعقوبات تدل على أنه ينبغي على المجتمع كله أن يكون على هذا النهج وهذه العقيدة، إلا أنه لم يَدفع المذنبين الذين لا يمتثلون هذا الأمر إلى اليأس والقنوط، بل وَضع أساليب تؤدي إلى إصلاح طبائعهم وتكوينهم الروحي، ودلهم على ما يخرجهم مما هم فيه.
4- المصائب والصبر عليها
إن من مقتضيات قَدَر الله  أن تكون المصائب على حسب وضع المصاب بها، فهي إما وسائل لتكفير الذنوب أو للاستدراج.
أجل، إن المصائب بذاتها لن تكون مكفِّرة للذنوب، والأمر الذي يجعلها مكفِّرة للمعاصي إنما هو عدم تمرد الشخص المبتلَى على الله وعدم عصيانه له، بل إبداؤه الرضا عن الله بأقواله وأفعاله.
وسيدنا يعقوب  خير مثال لنا في هذا الباب، فهذا النبي العظيم تعرض لمصائب تفوق طاقة أي بشر، ولكنه تجاه كل هذه المصائب عبّر عن مشاعره وأحاسيسه بما هو فيه من الضعف، وأسندها إلى نفسه قائلًا: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ﴾ (سورة يُوسُفَ: 12/86)، فقوله هذا يرسم لنا موقفه النموذجي.
أجل، إن اتخاذ مثل هذا الموقف النبوي تجاه المصائب، يقرِّب الإنسان من ربه ، ويُرقِّيه إلى موقع يتبوَّؤُه من صلى النوافل على مدى آلاف الأعوام.
وقد يكون من المفيد لنا أن نلقي نظرة سريعة على هذه الحقيقة التي تَحَدَّثَ عنها القرآن على لسان يعقوب ، وأعتقد أن هذه الآية الكريمة ترسم الطريق لمن فَقَدَ السعادةَ -نوعًا ما- جراء ما نزل به من المصائب والبلايا، ويدلُّه على المخرج الذي يخلصه مما وقع فيه من الأزمات الفكرية والروحية، فهذا الطريق هو من العقلية والمنطقية بحيث إنه يمكن للذي يسلكه أن يصعد في قفزة واحدة إلى أعلى عليين، فمقتضى الإيمان هو الصبر على كل أنواع المصائب، ثم التوجهُ بعد ذلك إلى المولى المتعال وطلبُ المعونة منه فقط..
وعلى الخط نفسه يقول الله تعالى في آية أخرى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (سورة البَقَرَةِ: 2/153).
أجل، إن المثول كل يوم بين يدي المولى  والصبرَ على كل شيء باعتباره أمرًا قدّره الله، لهما إكسيران حيويان يطفئان أُوار صدمات المصائب ويوصلان الإنسان إلى عمق فكريٍّ وعمليٍّ.
ويقول الله تعالى بعد هذه الآية مباشرة: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ (سورة البَقَرَةِ: 2/154)، لافتًا الأنظار إلى بُعد آخر من القضية.. كما أنه يعبر عن الحقيقة نفسها في سورة آل عمران: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/169).
فالأمر الذي تبينه هاتان الآيتان هو أن هناك نمطًا من الحياة لا يرقى إلى إدراكه وعيُ الإنسان، وما يترتب على الإنسان في مثل هذه الأمور التي لا يرقى إلى إدراكها شعوره هو أن يستقبلها بالإيمان والاطمئنان والتسليم. أجل، هذه هي الوظيفة الملقاة على عاتق المؤمن.
وهناك أمر آخر وهو أن الآية تحتوي على رسالات مهمة إلى أقارب الذين استشهدوا وارتحلوا إلى دار البقاء، ففيها تسلية لهم، وفي إطار هذه الحقيقة التي تتحدث عنها الآية الكريمة تعالوا بنا نتصور الرسول  الذي استشهد عمه في أحد، وأعتقدُ أنه لولا هذه الآية الكريمة لَتَفطّر قلبُه المرهف الحساس بسبب هذه المصيبة.. ولتفطر قلب جابر بن عبد الله  من تلك الصدمة التي تلقاها في أحد أيضًا حيث استشهد والده آنذاك وخلَّف وراءه عددًا من الأيتام وكمًّا من الديون، مما ترتب عليه أن يتحمل في مقتبل العمر كل ذلك العبء الثقيل، فلا مرية في أنه مهما كان في مستوى من الإيمان فإنه قد انقلبت مشاعره وأحاسيسه رأسًا على عقب واحتاج إلى ما يسليه، وقد قامت هذه الآية بدور التسلية المهمة لجابر وأمثال جابر.
والواقع أن كثيرًا من ساداتنا المفسرين العظام يذكرون أن الآية السابقة من آل عمران نزلت في استشهاد سيدنا عبد الله هذا، ويكاد يذكر كثير من التفاسير حديث جَابِر بْن عَبْدِ اللهِ  الذي يقُولُ: لَمَّا قُتِلَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ يَوْمَ أُحُدٍ، قَالَ رَسُولُ الله :
“يَا جَابِرُ، أَلَا أُخْبِرُكَ مَا قَالَ اللهُ  لأَبِيكَ؟”، قُلْتُ: بَلَى، قال “مَا كَلَّمَ اللهُ أَحَدًا إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَكَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا فَقَالَ: يَا عَبْدِي تَمُنُّ عَلَيّ أُعْطِكَ قَالَ: يَا رَبِّ، تُحْيِينِي فَأُقْتَلُ فِيكَ ثَانِيةً، قَالَ: إِنَّهُ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يُرْجَعُونَ، قَالَ: يَا رَبِّ، فأَبْلِغْ مَنْ ورائي، فأَنْزَلَ اللهُ  هَذهِ الآيَةَ: ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/169)” .
ومع انتفاء العلاقة المباشرة لما نحن بصدده إلا أنني لا أود أن أنتقل إلى موضوع آخر قبل أن أذكر ما يلي: تذكر كتب المغازي أنه بعد حوالي أربعين سنة من غزوة أحد، جرى السيل نحو مقابر شهداء أحد التي كانت بسفح الجبل، فخشي الصحابة من انجرافها، فاجتمعت الآراء على نقلها إلى مكان آخر، وفي ذلك يقول جابر: فحُفر عنهم فوجدتُ أبي في قبره كأنما هو نائم على هيئته، ووجدنا جاره في قبره عمرو بن الجموح  ويده على جرحه، فأزيلت عنه فانبعث جرحه دمًا.. ويقال: إنه فاح من قبورهم مثل ريح المسك، رضي الله عنهم أجمعين … ويفهم من هذا كله أن الشهداء يكونون في طبقة مختلفة من الحياة البرزخية.
ولنرجع إلى موضوعنا قائلين: إن محتوى هاتين الآيتين وارد بالنسبة لأولاد وعيال عمرو بن الجموح الذي استشهد هو أيضًا في أُحد، ولا ننسى مشاعر زوجة حنظلة بن أبي عامر الذي شارك في أحد وهو عريسٌ واستشهد بها.
والآن تعالوا نفكر في مدى تسلية كل هؤلاء بهاتين الآيتين.
كما أن علينا أن نتصوّر مدى قوة تأثير ما تفيده الآيتان في نفوس أُسَر الآلاف من أبناء الشهداء حول العالم.
والحاصل أن هذه الدنيا دار امتحان وابتلاء، وأن كلّ شخص لا بد وأن يُبتلى بشيءٍ من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، وأن الفائزين هم الذين يصبرون على ذلك. أجل، إن الصبر هو منبع الفوز في الدارين.
5- توبة العصاة
إن المعصية عنوان على إساءة الأدب مع الله، واتخاذ موقف سلبي تجاه أوامره ونواهيه، لكنها -في الوقت نفسه- من مقتضى الفطرة الإنسانية، كأن أحدهما جزء من الآخر ولا يفارقه.
وأما التوبة فهي الأمر الوحيد الذي يلجأ إليه العصاة، كما أنه عملية رجوع الإنسان إلى ذاته، وليس من الصواب اعتبار كل المرتكبين للمعاصي في مستوى واحد وجمعُهم في كفة واحدة؛ فمنهم من يعيش حياته بالمعاصي وهو مرتاح لهذا النمط من الحياة، كما أن منهم من يشعر بالندم ويرتجف فؤاده بل ويتفطر قلبه وينكسر، وتضيق عليه الأرض بما رحبت، ويعيش حالة من الاختناق بسبب ما يشعر به من هذا الضيق.
فالإنسان العاصي سواء كان من الفئة الأولى أو الثانية إذا لاذ بالتوبة ورفع أكف الضراعة إلى الله الذي يعتبره الملجأ والمنجى الوحيد، وطلب منه تعالى المغفرة فإن الله سيغفر له.. فقد ثبت في كثير من الآيات والأحاديث أن الله تعالى قد غفر وسيغفر للعبد الذي يتوجه إليه. أجل، إنه غفار لمن تاب، وقد سبقت رحمتُه عضبه.
ففي القرآن الكريم عديد من الآيات تشير إلى هذه الحقيقة، وأظن أنه لا يوجد أحد يرى تلك اللوحات التي ترسمها هذه الآيات، ثم يتمالك نفسه من البكاء، وبالأحرى أستصعب في ذهني أن أتصور أن هناك إنسانًا ذا قلب مؤمن حي لا يتوجه نحو باب مولاه تعالى ثم يتخيل نفسه في مكان ذلك المجرم الذي ترسمه تلك الآيات.
فمثلًا قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/193).
فهذه صرخات المنكسرة قلوبهم الذين ضاقوا ذرعًا بذنوبهم، وسئموا من معاصيهم، فأكثر ما يلفت الأنظار هنا من التعبيرات، هو طلب الذين يرجون المغفرة أن يكونوا من “الأبرار”، فـ”الأبرار” اسم يطلق على المرشحين للوصول إلى القمة في طريق الوصول إلى الله، وبعد ذلك بخطوة هناك مقام المقربين، فالمقربون هم الخواص الذين حظوا بمعية الله تعالى.. فمن هذا المنظور إذا كان النبي من المقربين -وهو كذلك-، فإن أصحابه إنما هم من الأبرار، وبين هؤلاء فروق في العموم والخصوص، وكما يقال “حسنات الأبرار سيئات المقربين”؛ ومن حيث إن الذين انغمسوا في الخطايا قد يكون من الصعب عليهم أن يرتقوا إلى مستوى المقربين -وإن لم يكن مستحيلًا-، فإنهم يطلبون أن يكونوا من الأبرار.
وتُواصِل الآية قائلةً: ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/194).
أجل، إنه لا يُتصور أن لا يستجيب الخالق ذو الجلال لهذه الصرخات وهو الذي يلبي نداء من يناديه، ويهرول نحو من يأتي إليه ماشيًا كما ورد في الحديث القدسي ، فهو الذي استجاب لعباده هؤلاء الذين توجهوا إليه بإخلاص:
﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/195).
وهناك أمر آخر في هذه الآية الأخيرة غير قضية استجابة الله لدعائهم وقبولِه لتوبتهم، وهو أن الله تعالى من خلال الحديث عن استجابته دعاءهم يُذكِّر الناس بما ينبغي عليهم فعله من التصرفات، وهي المجالدة والمجاهدة في سبيل الله والتضحية في سبيل ذلك -إن اقتضى الأمر- بالهجرة والقتال وغيرهما.
أجل، إنه، من جانبٍ، يلاطف القلوب التائبة المنيبة، ويقبل دعاءهم ولا يخيب حسن ظنهم، ومن جانب آخر، يُذكِّرهم بوظائفهم ويدعوهم إلى الصراط المستقيم، وهكذا فإن الذين ارتكبوا المعاصي ودخلوا في حالة من اليأس والقنوط؛ فإما عَزَلَهُم المجتمع أو انعزلوا هم بأنفسهم عنه، واستسلموا للأمر الواقع وخارت عزائمهم، فهؤلاء يسترجعون حيويتهم مرة أخرى بما يسمعونه من هذه التعبيرات القرآنية، وينجون من الغرق في مستنقعات اليأس، فيراجعون حساباتهم مرة أخرى ويصبحون أفرادًا صالحين في مجتمعاتهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

About The Author

عالِم ومفكِّر تركي ولد سنة 1938، ومَارَسَ الخطابة والتأليف والوعظ طِيلة مراحل حياته، له أَزْيَدُ من 70 كتابا تُرْجِمَتْ إلى 40 لغة من لغات العالم. وقد تَمَيَّزَ منذ شبابه المبكر بقدرته الفائقة على التأثير في مستمعيه، فدعاهم إلى تعليم الأجيال الجديدة من الناشئين والشباب، وَبَذْلِ كلِّ ما يستطيعون في سبيل ذلك.

Related Posts