Reader Mode

سؤال: كان بديع الزمان سعيد النورسي يقول في رحلته الأخيرة إلى مدينة “أورفا” التركية “لم يفهموني”، فمن كان يقصد بقوله هذا؟ ولماذا لم يفهموه؟

الجواب: عاش بديع الزمان سعيد النورسي -رحمه الله رحمة واسعة- حياةً زاخرةً بالخير والعطاء، وقد شكَّلَت أفكاره ومؤلّفاته وحياته مصدر إلهامٍ لكثيرين، ومفتاحًا لآفاق آخرين.. عاش حياته بحذرٍ شديد وميزانٍ دقيق، متحلّيًا بالعفّة والقناعة والأخلاق الرفيعة، فلم يكن على سبيل المثال يُسرف في طعامه وشرابه مطلقًا، بل كان يستهلك من السعرات الحرارية بالقدر الذي يحتاجه جسده فقط، كانت حياته منظَّمَةً لأقصى درجة، ولذلك ظلّ محافظًا على صحّته ولياقته، بعيدًا عن السمنة والبدانة حتى آخر حياته، ولصلته الوثيقة بالله فقد قابل مختلف المشاكل التي تعرّض لها بكاملِ التسليم والرضا، وكان يتوخّى الحساسيّة الشديدة حتى يتجنّب أيَّ اعتراضٍ على قضاء الله.

شروعه في الأمر من بدايته

سعى بديع الزمان طوال حياته لبناء نموذجٍ جديدٍ للإنسان من حيث الفكر والشعور، وبذل في ذلك جهدًا عظيمًا، فبدأ الأمر من الأساس، واهتم بتربية الأفراد وتوجيههم. فانطلق باسم الله، محاولًا إقناع مَن حوله بالقيم التي يؤمن بها؛ لأنه كان يدرك حجم المشاكل التي جثمتْ على صدر المجتمع، والتي لا يمكن التغلّب عليها عبر إثارة العواطف الجماعية أو باللجوء إلى الشعبوية أو السياسة وغيرها، فقد كان يؤمن بأن تجاوز المشكلات التي تعاني منها الأمة الإسلامية لا يمكن إلا من خلال أشخاص أحرزوا الإيمان التحقيقي، وتبنّوا المنطق القرآني، وتمكّنوا من رؤية الأحداث من منظور القرآن الكريم، ولذلك بدأ من الأساس، وانطلق لترميم قلعةٍ طالما أصابها التصدّع عبر العصور، وأعاد تشكيل الأفكار بصفته مهندسًا للفكر.

تقديره الجهود المبذولة

نذر بديعُ الزمانِ سعيد النورسي حياتَه لخدمة دين الإسلام المبين، وأبدى اهتمامًا بالغًا بالقضايا التي تمسّ مصير الإسلام، وأشاد ودَعَمَ كلَّ خدمةٍ مبذولةٍ في سبيل الدين، حتى ولو كانت بقدر الضوء الذي تشعّه اليراعة.. كان يحسن الظن بكلِّ مَن يراهم يأخذون بِطرفٍ من الخدمة الإيمانية والقرآنية، ويثني عليهم ويشجعهم ويدعمهم، وعلى سبيل المثال فقد انتابَتْه سعادةٌ غامرةٌ فور علمه بافتتاح مدارس الأئمّة والخطباء، ودعّمَ من أعماق قلبه المنشورات التي يؤمن أنها صوتٌ ونفسٌ للمسلم المعاصر، ولم يقصر خدمة الدين في أيّ وقتٍ من الأوقات على دائرةٍ معينةٍ، ولم يجعلها رهينة الأنانية الجماعية.

صلته الوثيقة بالقرآن

من أيِّ زاويةٍ نظرنا إلى الأستاذ النورسي سنجد صعوبةً في العثور على ما يستحقّ النقد؛ فمؤلّفاتُه مشبعةٌ بالروحانيات؛ لأنها مرتبطة بجانبٍ منها بالقرآن وتستمد إلهاماتها منه، ولذلك إذا قلّبتم النظر في هذه الآثار النفيسة التي تركها الأستاذ النورسي أمانةً بين أيدينا؛ فتحَ الله آفاقكم على القرآن، وصبَّ وارداته في نفوسكم.

 إن الأستاذ النورسي يشبه الأئمة العظماء من أمثال الإمام الرباني وابن عربي الذين أفاض الله عليهم من الأسرار والأنوار والمعارف اللدنّيّة، وعند تناوله لمثل هذه القضايا العميقة كان يراعي مستوى مخاطبيه، متحرّيًا أسلوبًا يسهل عليهم فهمه، غير أن هذا الأسلوب الذي يبدو بسيطًا كانت تكمن وراءه معاني عميقة؛ فإذا ما قرأْتم مؤلّفاته بتركيزٍ، وأخضعتم ألفاظها لتحليلٍ دقيقٍ؛ استطعتم سبرَ أغوارها.

لقد وهب الأستاذُ نفسَه كلّيّةً للقرآن؛ ولذلك تُوصَف المصطلحات والحجج والأساليب التي استخدَمها في مؤلّفاته بالقرآنية؛ حيث يمكن إرجاع كلّ الموضوعات التي تناولها إلى حديثٍ أو آيةٍ، لكننا أصبحنا عاجزين عن إنشاء رابطةٍ أو علاقةٍ بينهما لأننا أصبحنا غرباء عن هذه المصادر السماوية. أجل، لقد أصبحنا غرباء عن لغة الكتاب المبين، لذلك نجد صعوبةً في الربط بين رسائل النور والقرآن والسنة.

 هناك دراسات جديرة بالثناء والتقدير في هذا الباب اليوم، وبإذن الله ستُجري المزيد والأفضل منها في المستقبل، فالمسألة ليست مجرَّدَ قراءة الرسائل بسرعةٍ والمرور عليها مرور الكرام، بل حتى حفظُها ليس هو الغاية الأساسية، المهمّ هو قراءتها بشكلٍ آخر، والتعامل معها بصورةٍ مختلِفةٍ، والتعرّف على المجالات التي تتعلّق بها الأقوال التي وردت في مواضع متفرّقة منها، وفهم مقاصدها الحقيقية، والتعمّق في معانيها، وفهم ما تعنيه لحياتنا الفردية والأسرية والاجتماعية، وإدراك العلاقة بين هذه النصوص وغيرها، ومقارنة كيفية تناول الآخرين لها.

خيـاله الواسع

كان بديع الزمان واسع الخيال، فبعيدًا عن عباراته التي سدّتْ فراغًا كبيرًا في حلقة الإيمان لدى أبناء جيله؛ فإننا إذا نظرنا فقط إلى سعة خياله وأفكاره، فسنجد أنها ظاهرةٌ ملفِتةٌ للنظر، تستحقّ التأمّل والدراسة بحدّ ذاتها. فعند ولوجك إلى عالمه الخيالي والتصوّري تشعر بالحيرة والدهشة، وتجد صعوبةً في ملاحقة أفكاره؛ فبإشاراته واستدعاءاته المختلفة يفتح أمامك آفاقًا غير متوقّعة، ويطرح أفكارًا تتجاوز زمنه.. وفي بعض الأحيان يقيم روابط بين عددٍ من التصوّرات المتباينة بطرقٍ قد يصعب علينا فهمُها، ويعبّر عن أفكارٍ أصيلةٍ للغاية، لكن للأسف أصبحت الألفة حاجزًا يحجب أبصارنا، فلم نعد قادرين على رؤية تيارات الخيال المتدفّقة في عالمه الفكري، ولا على الولوج إلى رحابها.

رصيده الفلسفي

عكف بديعُ الزمان فترةً من حياته على دراسة الفلسفة بشكلٍ مكثّفٍ، وقرأ العديد من الكتب في هذا المجال، معتقدًا أن بعض قواعدها قد يفيده في دراساته وتحليلاته، وبالفعل قدّم في مؤلّفاته تحليلاتٍ عميقةً ودراساتٍ دقيقةً معتمدًا على هذا الرصيد الفلسفي؛ فاستفاد من الفلسفة، لكنه لم يخضع لتأثيراتها، بل استطاع بحذرٍ شديدٍ الكشف عن الجوانب المعيبة فيها.. وعلى الشاكلة نفسها ابتعد عن التصوّف النظري الذي كان ملمًّا به جيّدًا؛ لأنه لم يعتبره طريقًا آمنًا يناسب الجميع، ولذلك توجّه بكلِّ قلبه إلى القرآن، وقد لفتت نظرتُه إلى الفلسفة وطريقتُه في استخدامها انتباه بعض الباحثين، مثل الفيلسوف المغربي “طه عبد الرحمن”، ومع ذلك فإن هذا الجانب من شخصيته لم يُكتشف بعد بما فيه الكفاية، ولم يُدرس بشكلٍ وافٍ حتى الآن.

قدراته الأدبية

كان الدكتور “فريد الأنصاري” رحمه الله من بين الكتّاب الذين عكفوا على دراسة مؤلفات الأستاذ النورسي، حتى إنه حرّرَ كتابًا عنه بعنوان “آخر الفرسان”، ركّز فيه على الجانب الأدبي عند النورسي؛ وهو جانبٌ لم يُدرس بشكلٍ وافٍ حتى الآن، كما كان للدكتور “سعيد رمضان البوطي” رحمه الله ملاحظات قيّمة في هذا الجانب، أكد فيها على عظم مكانة النورسي الأدبية، وعلى الشاكلة نفسها درس الدكتور “حسن الأمراني” الجانب الأدبي عند النورسي في كتابه “النورسي أديب الإنسانية”، ذهب فيه إلى حدِّ القول: “إن النورسي يتفوق في هذا الجانب على تولستوي ودويستوفسكي، فلا ينبغي البحث عن قدرته الأدبية في تراكيب الجمل فقط، بل ينبغي النظر في كيفية تناوله ومعالجته للمعاني والمضامين والموضوعات”.

حسنُ قراءته لعصره

بديع الزمان هو واحدٌ من الذين استطاعوا قراءة عصرهم بشكلٍ صحيحٍ، وربما كان الأقدر على ذلك، فقد شهد كيف انهارت أعظم العقول أمام الفلسفة الغربية، أو كيف عانت على الأقل من اضطراباتٍ فكريّة عميقةٍ، وقد عاش في فترةٍ كانت من أصعب الأزمنة على الإطلاق؛ حيث الحرمان المادي والمعنوي بأبشع صوره، كانت تلك سنواتٍ قاسيةً، مزّقت فيها الحاجة والفاقة حياةَ الناس، وعاش فيها المسلمون غربةً روحيّة.

إن أعظم ترياق لكل أنواع الغربة هو القرب من الله، لكن في زمنه لم يكن هناك كتبٌ ترشد الناس إلى هذا القرب، ولا علماء على ذلك المستوى، ولا بيئةٌ مناسبةٌ تساعد على تحقيقه، بل كانت أيامًا شديدةَ الوطأة، عانى فيها المسلمون كثيرًا من اليُتم والضياع.

 ويمكن إدراك حجم هذا الفراغ الروحي من خلال الاطلاع على العبارات الواردة في كتاب “اللواحق” التي تكشف عن مشاعر الحماسة الجارفة التي عبّر عنها المتعلِّمون عند استقبالهم لرسائل النور. فأشخاصٌ مثل “حافظ علي”، و”صبري أفندي”، و”حسن فيضي”، و”خسرو أفندي”، و”خلوصي أفندي”؛ عندما استقبلوا رسائل النور فرحوا بها أشد الفرح، وكأنهم وجدوا السبيل إلى الجنة، بل وصاغوا في حقها كلمات تكاد تكون ملاحم أدبية.

جزى الله خيرًا الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي! فقد كانت مؤلفاته بلسمًا لجراح عصره، وأعادت الأمل إلى المسلمين الذين كادوا يفقدونه، وعززت قواهم الروحية المهتزة، لقد قرأ عصره بشكلٍ صحيحٍ، واستطاع أن يحدّد بدقّةٍ احتياجاته، فقال ما كان ينبغي أن يُقال، وقدّم من صيدلية القرآن أدويةً لأمراض العصر، ففي زمنٍ استولى عليه الفقر والحيرَة؛ وضع أسسًا فكريةً راسخةً يمكن أن تكون سندًا لعوالمهم الفكرية، وكأنّه بمؤلّفاته المباركة أدلى دلوه إلى الذين سقطوا في غياهب الجبّ مثل يوسف عليه السلام، وسحبهم من الظلمات التي غرقوا فيها؛ فاستطاع كثيرٌ ممن أدركوا قيمة هذه المؤلفات أن يخرجوا من ظلماتهم، بينما ظلّ آخرون -ممن غلبهم العناد والحسد والكبر- محرومين من الاستفادة من هذا النبع الصافي.

ثباته وصموده

بعيدًا عن أفكار الأستاذ النورسي ومؤلفاته، فإن الأملَ الذي بثَّه في نفوس الناس في تلك الفترة العصيبة التي عاش فيها، والموقفَ الثابت والصمودَ الراسخ الذي أبداه، كلُّها أمورٌ جديرةٌ بأن نتوقَّف عندها طويلًا.

إنه حتى وإن لم يكن قد كتب “رسائل النور” فإن مجرّدَ وقوفِه شامخًا أمام موجات الكفر والضلال على مدار أكثر من ثمانين عامًا، وإرشادِه لنا بموقفه إلى الوضع الذي ينبغي أن نكون عليه وإلى الباب الذي يجب أن نتوجّه إليه؛ له أهمّيّةٌ بالغةٌ.

 بعد انقلاب السابع والعشرين من مايو وضعتْ مجلةُ الاستقلال صورةَ الأستاذِ النورسي على غلافها، وكتبت تحتها: “الرجل الذي قلب خطط الملاحدة رأسًا على عقب”. أجل، فلا السجون قهرَتْه، ولا المنافي نالت من عزيمته، ولم يعبأ بضغوط خصومه وتهديدهم له بالموت، بل على العكس أربكهم بثباته، ولم يستسلم أمام محاولاتهم إعاقتَه، ولا شك أن مثل هذا الثبات لا يكون إلا ثمرةً لإيمانٍ قويّ، إذ إن مجرّد كتابة المؤلفات وحدها لا تكفي لتعزيز القوة المعنويّة للمؤمنين، بل لا بدّ من تمثيلها بقوّة.

“لم يفهموني”

كنتُ قد سمعتُ الأستاذ “بايرام” رحمه الله يقول: “كان أستاذنا النورسي في رحلته إلى أورفا التي يمكن وصفها بأنها رحلة السير إلى أفق روحه يقول: “لم يفهموني”.. وأنا أعتقد أنه لم يقصد بهذه الكلمات أهلَ الكفر والضلال، فهؤلاء لا يفهمون على أيّة حالٍ، ولم تكن عندهم نيّةٌ أو حرصٌ على ذلك.

 لقد كان من الواضح أن أبا جهل وعتبة وشيبة والوليد وأمية بن خلف لن يفهموا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يهمُّنا الوقوف على سلوكهم، بل المهم هو السلوكُ الصادر عن هؤلاء القريبين منه وكانوا في وضعٍ يؤهلهم لفهمه.

وهكذا فإنني أعتقد أن أكثر ما كان يؤلم الأستاذ النورسي ويحزّ في نفسه هو وجود أناسٍ قريبين منه ويعيشون بعدًا فظيعًا عنه، فهؤلاء استسلموا للإلف والتعوّد، فباتوا يرون ما يقرؤونه أمورًا عاديةً بالنسبة لهم، فعاشوا بعدًا خاصًّا رغم قربهم. وإذا أردنا أن نوسِّع الدائرة قليلًا نقول: إن أكثر ما كان يؤلمه هو عدم فهم أهل الدين والتديّن له، وعدم تبنّي مفكري الدولة ومثقّفيها لأفكاره، فمع الأسف رغم قرب الكثيرين من الحقيقة فإنهم لم يستفيدوا منها، لقد كانوا متّجهين إلى الشمس، لكنهم لم ينهلوا من ضيائها.

توقف بعضهم عند أسلوبه الارتجالي، وزعم البعض عدم توافق عباراته مع قواعد اللغة التركية الحديثة، فيما ركّز آخرون على مسألة قوميته، فكانت مثل هذه الأمور بمثابة حجابٍ على أعين مَن ينظرون إليه؛ مما أوقعهم في ظلمات الكسوف والخسوف.

 ومن الممكن ربط هذه المسألة أيضًا بظاهرة “العمى المتبادل”؛ حيث لا يرى المعاصرون بعضهم بعضًا حقَّ الرؤية، كما كان للحسد والغيرة أثرٌ كبير في عدم فهم الأستاذ النورسي، إلى جانب ذلك اضطلعت الضغوط والمضايقات التي مارستها الدولة ضده بدورٍ كبيرٍ في إبعاد البعض عنه، فقد كان الهدف الأساسي من النفي والعزل والمحاكمات والسجون؛ هو تضييق نطاق تأثيره وإحباط خدماته، وقد نجحت هذه السياسة إلى حدٍّ ما؛ إذ خضع كثيرون لمخاوفهم، وقالوا: “يا إلهي! إن ظهورنا بالقرب منه قد يجلب لنا الكثير من المتاعب، الأفضل أن نبتعد عنه ما استطعنا”.

والحاصل أنه لم يقف إلى جانب بديع الزمان أحدٌ من العلماء البارزين في عصره باستثناء ثلّةٍ قليلةٍ منهم.. إنهم لم يرغبوا في ذلك؛ وبالتالي لم يستفيدوا من منبع فيضه، وظلّت جماهير الشعب العريضة محرومةً من هذا النبع الصافي.. إن للاستحسان والتقديرِ أهميةً كبيرة؛ فلا يمكن للإنسان أن يستفيد من أفكار مَن لا يؤمن به، ولا يقدّره، ولا يقبله.. ويمكن تشبيه موقف أولئك الذين ابتعدوا عن الأستاذ النورسي متذّرعين بحججٍ واهيةٍ بموقف شخصٍ يسير على طريقٍ إسفلتيٍّ واسعٍ ومستقيمٍ، لكنه يتذرع بحجر صغيرٍ اعترض طريقه ليقول: “هذا الطريق لا يمكن السير عليه”.. ولو أن مائة شخصٍ مؤثِّرٍ في ذلك العهد أدركوا قيمة بديع الزمان ووقفوا إلى جانبه، لكان الصوت الجهوري الذي يصدر عنهم كفيلًا بإحداثِ هزّةٍ فكريّةٍ عميقةٍ على مستوى المجتمع، وتمهيدِ السبيل لتحقيق تغييراتٍ جوهريّةٍ.