Reader Mode

في صباح يوم من أيام الله، بينما صفحات الحياة تُطوى ببطء بين أيدينا، جاءنا خبرٌ كان وقعه أشبه بصاعقة سقطت من السماء، توقف الزمن للحظة، وتجمدت الكلمات في حلوقنا؛ لقد رحل الأستاذ محمد فتح الله كولن(١).
أيُّ قلم يجرؤ على الكتابة عن رجل بحجم الأستاذ “كولن”؟ وأي بيان يستطيع أن يحوي بحرًا زاخرًا بالفكر، وقلبًا يحمل همَّ الإنسانية بأسرها؟ كيف لنا أن نوفيه حقه، وهو الذي عاش عمره غارقًا في تأملاته، منشغلاً بهموم أمته، ساهرًا على أحلام الإنسانية ومستقبلها؟
الأستاذ كولن.. رمز “حراء” وروحها
منذ انطلاقتها، كانت “حراء” مشروعًا فكريًّا لا يشبه غيره، ورسالة تربوية لا تعرف الحدود. وكان الأستاذ “كولن” روح هذا المشروع وقلبه النابض. كيف لا وهو الذي أضاء صفحاتها بمقالاته العميقة التي كانت نبراسًا يهتدي به القارئ!
كان كل عدد من المجلة يخرج وكأنه رسالة موجهة إلى قلب القارئ، رسالة تحمل بين طياتها الحكمة والرؤية والتأمل العميق. من خلال مقالاته الرئيسة، وزواياه مثل “قطوف” و”الموازين”، وتعليقاته الشعرية الرائعة على أغلفة المجلة تحت عنوان “ألوان وظلال”، نجح الأستاذ فتح الله كولن في أن يحوِّل المجلة إلى فضاء فكري رحب، حيث يلتقي فيه القارئ مع معاني الإنسانية، ومع روح الإسلام المتسامحة التي تدعو إلى البناء والتعايش.
وجع الرسالة وعبء الأمانة
مَن عرف الأستاذ “كولن” عن قرب، يدرك تمامًا أنه لم يكن شخصًا يعيش لذاته، بل كان يحمل بين ضلوعه قلبًا تئن تحته هموم الإنسانية بأسرها. كان يرى في كل مظلوم جزءًا من إنسانيته، وفي كل مظلمة دعوة للوقوف بجانب الحق.
لقد كان الأستاذ “كولن” كما وصفه تلاميذه، رجلًا يحمل في وجهه تضاريس الأرق، وفي صوته نبرة الحزن على ما آلت إليه أمور أمته. كان شعاره دائمًا: “متى سنبني حضارتنا؟ متى سنقيم صرح روحنا؟”.
وفي إحدى المرات، وأثناء درس ألقاه على طلابه، باغتهم بسؤال موجع لطبيبه الجالس بين الحضور: “يا طبيب، أَلَديك دواء يُخمِد المشاعر والأحاسيس؟ أفي الطب دواء كهذا؟ دواء يجعل المرء لا يبالي، ويواصل في نوم عميق حتى لو جرفت السيول كل مكان، والتهمت الحرائق الأخضر واليابس؟”
كانت تلك الكلمات انعكاسًا لحياة عاشها الأستاذ “كولن”، حياة لم تعرف طعم الراحة، ولم تذق لذة النوم الهانئ، لأنه كان يرى نفسه مسؤولاً عن رسالة أكبر من ذاته، رسالة حاولت مجلة “حراء” أن تحملها إلى العالم برمته.
مشروع الخدمة.. رسالة إنسانية
لم تكن كتابات الأستاذ “فتح الله كولن” منفصلة عن الواقع، بل كانت جزءًا من مشروع حضاري ضخم حمل اسم “الخدمة”.. كان يؤمن بأن التعليم هو المفتاح لتحقيق النهضة الإنسانية، لذا أسس حركة تعليمية وثقافية انتشرت في أكثر من 160 دولة، تحمل رسالة التسامح والتعايش والحوار الحضاري.
مشروع “الخدمة” كان أشبه بشجرة مباركة، جذورها ثابتة في القيم الإسلامية وأغصانها تمتد لتظلل الإنسانية جمعاء. كان هدفها الأول هو بناء الإنسان عبر مدارس وجامعات ومؤسسات ثقافية، تسعى لتخريج أجيال قادرة على تحقيق التغيير الإيجابي في مجتمعاتها.
لقد كان الأستاذ “كولن” يؤمن أن الإسلام رسالة حضارية عالمية، تدعو إلى السلام والبناء، وترفض كل أشكال التطرف والعنف. فمن خلال كتاباته وأعماله، قدم نموذجًا فريدًا للإسلام الذي يحتضن العالم بروح التسامح والعطاء.
الأستاذ كولن.. إرثٌ باقٍ بعد الرحيل
رحيل الأستاذ “كولن” ليس نهاية لمسيرته، بل بداية لمرحلة جديدة يستمر فيها إرثه عبر أفكاره وكتبه التي تضيء الطريق للأجيال القادمة.
في مجلة “حراء”، قررنا أن يبقى الأستاذ كاتبًا رئيسًا، ليس بمقالاته التي اعتاد قراؤنا عليها، بل عبر انتخاب باقة من أفكاره التي لم يتسن للقراء الاطلاع عليها بعد، ليظل إرثه ممتدًا حتى بعد رحيله إلى خالقه.
ستقدم “حراء” من خلال هذه المقالات المنتقاة، فكر الأستاذ “كولن” الذي لم ينشر بعد، وستحرص على أن تظل كلماته نبراسًا يهتدي به القارئ في رحلة البحث عن الحقيقة. ستكون هذه الباقة بمثابة مرآة تعكس عمق رؤيته، وشمولية تفكيره، واعتداله في تناول القضايا.
مسؤولية الأمانة الفكرية
إن مسؤولية الحفاظ على إرث الأستاذ “فتح الله كولن” ليست مسؤولية عابرة، بل هي أمانة كبرى تحملها مجلة “حراء” تجاه قرائها وتجاه الإنسانية. لقد كان الأستاذ “كولن” يؤمن أن الكلمة أمانة، وأن الفكرة الصادقة يمكن أن تغير العالم. لذا، فإن “حراء” تلتزم بأن تحافظ على هذا الإرث، وأن تقدمه للأجيال القادمة بنفس الروح التي كتب بها الأستاذ كلماته.
في كل عدد جديد ستحرص “حراء” على أن تظل كلماته حية، وأن يبقى حضوره ملموسًا في صفحات المجلة، وستعمل على تسليط الضوء على الجوانب المختلفة من شخصيته، بدءًا من تأملاته الروحية، مرورًا بتحليلاته الفكرية، وصولاً إلى مشاريعه الحضارية التي ألهمت الملايين.
وداعًا يا أستاذنا
بينما نودع الأستاذ “كولن”، نعلم أن روحه لم ترحل، بل هي باقية في كل فكرة كتبها، وفي كل قلب ألهمه. سنظل نحمل رسالته، ونعمل على تحقيق رؤيته في بناء عالم أفضل، حيث تسود قيم السلام والتسامح والبناء.
رحم الله الأستاذ “محمد فتح الله كولن”، وأسكنه فسيح جناته. سنظل نذكره بكلماته التي كانت نورًا يضيء طريقنا، وسنسعى جاهدين لأن تبقى “حراء” منارة تحمل رسالته إلى العالم كافة.
إنا لله وإنا إليه راجعون.

(١) توفي الأستاذ فتح الله كولن في ولاية بنسيلفانيا الأمريكية، يوم الأحد 17 ربيع الآخر 1446هـ/ 20 أكتوبر (تشرين الأول) 2024م، عن عمر يناهز ٨٣ سنة.