لم يشهد التاريخُ استغلالًا للدين لتحقيق أهدافٍ سياسيّةٍ ودنيويّةٍ بالشكل الصارخ الذي نشهده اليوم، فمن المؤسف أن الظالمين اليوم يستخدمون القيمَ الدينيةَ كأداةٍ لبلوغ أهدافهم الدنيوية أحيانًا، ومكنسةً لتنظيف أوساخهم التي خلّفوها وراءهم أحيانًا أخرى.
إننا نعيش حقبةً صعبةً من التاريخ؛ فالطغاةُ يستغلّون القيمَ الدينية لاختلاق الأكاذيب وإطلاق الافتراءات وخداع الجماهير؛ فيغتصبون ممتلكات مَن يعتبرونهم أعداء، ويظلمون الأبرياء، ويمارسون كلّ الفظائع والرذائل تحت غطاء الدين، فمن ناحيةٍ يتجاهلون القيم الدينية ويرتكبون الموبقات، ومن ناحية أخرى يستغلّون الأدلة الدينية على نحوٍ يجعل الناسَ يعتقدون أنهم متديّنون هادون مهديّون، بيد أن الغرض الحقيقي لهؤلاء الأشقياء هو الظفر بالسلطنة الدنيوية، وتحقيق الشهرة، والتقلّب بين أعطاف النعيم، إنهم يضلّلون الناس بكذبهم وتزويرهم إلى حدّ أن الجمهور يظنّ أنهم حماةُ الدين وخدّام الشعب.
عصرنا هو عصر الأنانية، وعصر السفيانيين الذين يظهرون بمظهر المتديّنين، وينادون بالأخذ بالقيم الدينية، لكنهم لا يتوانون عن ارتكاب كلّ أنواع الظلم!
ورغم ذلك فإن الناس يلاحظون التناقضَ بين أقوالهم وأفعالهم، ويدركون مدى ابتعاد هؤلاء -الذين يدّعون التديّن- عن دينهم، ويشهدون على استغلالهم الدين لتبرير كلّ أنواع السرقة والفساد باسم الدين.
وكنتيجةٍ طبيعية لذلك يبدأ الناس في النفور من المتديِّنين، بل ومن الدين نفسه، علاوةً على ذلك فإن تورُّطَ المسؤولين المعروفين بتديّنهم في الرشوة والسرقة والفساد يؤثّر في عامة الناس أيضًا، فالفساد الذي يبدأ في قمّة الدولة يسري مع الوقت إلى القاعدة، كما يُقال “السمكة تَفْسُد من رأسها”، فلا يُتوخّى الحلال، ولا يُتقى الحرام، وتفسد الأخلاقُ العالية، ويتشكّل مفهومٌ مشوّهٌ للدين.
بات الذين يدّعون الإسلام والتدين يتصرّفون بوحشيةٍ تضاهي وحشية أبي جهلٍ، وعتبة، وشيبة، والوليد بن المغيرة.
وبالتالي وكما شهدنا العديد من الأمثلة على مرّ التاريخ، فإن أعظم ضررٍ يلحق بالدين في عصرنا يأتي ممن يحتكرون الإسلام لأنفسهم ولا يتركونه لغيرهم، وبسبب ذلك يبتعد الناس عن ربهم ونبيهم، وينصرفون عن دينهم، قد يكون هؤلاء الناس أحيانًا أعظم خطرًا وضررًا على الدين من الكفار والفاسقين الذين يسعون لإلحاق الضرر به.
لا يمكن أن ينظر المرءُ إلى الحالة البائسة التي وصل إليها أبناءُ الأمة -التي كانت يومًا ما تتحكّم في مصير الإنسانية، وتشكّل عنصرَ توازنٍ في العالم، وتجعل الجميعَ يتطلّعون إلى عدالتها وإنصافها- دون أن يشعر بالألم والحسرة.. لقد حولوا بلدًا مباركًا إلى وكرٍ للصوص المفسدين، وجعلوا من وطنٍ يحفل تاريخُه بدروس العبرة وروائع الجمال إلى بلدٍ يعاني من المشاكل، لقد شلّوا حركة شعبٍ كان في فترةٍ من الفترات يثير إعجاب الجميع بلطفه ورحمته وعدله وإنسانيته على نحوٍ لا نعرفه إلا في الطوباويات، وشوّهوا الوجه الساطع لأمّةٍ كانت يومًا ما موضعَ إعجابِ الجميع؛ حيث كانوا يلجؤون إلى حمايتها، ويركضون نحو أحضانها.
الطغاةُ يستغلّون القيمَ الدينية لاختلاق الأكاذيب وإطلاق الافتراءات وخداع الجماهير.
فبهذا الواقع لم يعد هناك احترامٌ للإنسان، ولا مكانٌ للحقّ والحقيقة.. لقد انهارت مفاهيم العدالة تمامًا، وانطفأت مشاعر الرأفة والشفقة، واختلطت مفاهيم الحلال والحرام، وأوثِرَتْ بهرجة الدنيا وزينتها على جماليّات الآخرة.
إننا نعيش في حقبةٍ شيطانية يُصنّف فيها الناسُ بناءً على اعتبارات شيطانية؛ فيُعزلون من مناصبهم، ويُطرَودن من أعمالهم، ويُسلَّط على خدّام القرآن عصاباتٌ تشبه قوات “فافن اس اس”[1] النازية، وتَعمَدُ الشرطة التي تشبه المليشيات إلى بيوت الأبرياء، فتكسر أبوابها، وتحطّم نوافذها، وتعتقل أهلها، وتزجّ بهم في غياهب السجون.. يرتكبون فظائع لم يفعلها حتى قطاع الطرق، لا يخافون الله ولا يستحيون من الناس، لا مكان في قواميسهم لمفاهيم مثل “الحلال والحرام” و”الميزان” و”العدل” و”الحشر والنشر”، لا تعرف قواميسهم إلا السحق والإبادة والتسلّط والقهر والتحكم.
لقد تشوشتْ الأذهان، وتكدرت الأفكار، وتحجّرت القلوب، لدرجة أن مجرّد تقديم مساعدةٍ مادّيةٍ صغيرةٍ لمظلومٍ أصبح وكأنه عملٌ إجراميٌّ.
لقد قست القلوب وتشبّعت بالحقد والكراهية، وتسبّب أصحابها بأفعالهم الشريرة في إيذاء الملايين من الناس دفعةً واحدةً، وبات الذين يدّعون الإسلام والتدين يتصرّفون بوحشيةٍ تضاهي وحشية أبي جهلٍ، وعتبة، وشيبة، والوليد بن المغيرة، لدرجة أن مَن يمتلك ولو ذرّةً من الضمير إذا رأى هذه الوحشية والظلم فسيتفطّر قلبه دمًا.
إنهم يختلقون ذرائع لا تخطر حتى على بال الشيطان لالتهام ما يشتهون وإبادة من يريدون، ويسطّرون سيناريوهات تذهل حتى أكثر الكتّاب احترافًا، ولكن عند ارتكاب كلّ هذه الفظائع يتظاهر الظالمون الذين هم من أمثال الحجاج وكأنهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويدّعي أمثال يزيد أنهم يسيرون على خُطى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ورغم تغييرهم لأشكالهم وهيئاتهم ومداومتهم على الظلم؛ فإنهم لا يتوانون عن إيجاد مبرّرات دينيّة لظلمهم، وتغليف فظائعهم بغطاءٍ شرعيٍّ.
وكأني بالشاعر الإسلامي “محمد عاكف” يحدثنا عن هذه الأيام بقوله:
انعدم الوفاء، وضاعت حرمة العهد، وأصبح لفظ الأمانة بلا مدلول
الكذب رائجٌ، والخيانة في كلّ مكانٍ، والحقّ مجهولٌ
والقلوب قاسيةٌ، والآمال سافلةٌ والمشاعر دنيّة
والعيون تتجّه إلى عباد الله بنظراتِ استحقارٍ قويّة
الأجساد تقشعرّ يا ربّ ما أفظع هذا الانقلاب!
لم يعد دينٌ ولا إيمان، فالديـن بات خـرابًا والإيمان ترابًا
تلاشت المفاخر، وخرست الضمائـر
لم يعد هناك استقلال والأخلاق في اضمحلالٍ ظاهر!
إن الجهلة من أصحاب الشهادات الأكاديمية الذين يتحركون بتوجيهات المنافقين من أمثال ابن سلول قد أصبحوا فريسةً لشعور الحسد، ولم يعودوا قادرين على تقبّل النفوس المخلصة التي تخدم دينها وأمّتها ووطنها والإنسانية جمعاء، لم يتمكن هؤلاء البائسون من هداية حتى ولو خمسة أشخاصٍ فقط طوال حياتهم، أو تحبيبِ روح سيد الأنام صلى الله عليه وسلم إلى قلوبهم، أو ترسيخِ القيم الدينية لديهم، ولذلك تراهم يحترقون غيرةً وحقدًا، ويرتكبون جرائم تبلغ حدَّ الكفر؛ تراهم يدمرون الجماليات التي ورثناها عن أجدادنا في كل أنحاء العالم، ويحاولون إغلاق المؤسّسات الخيرية برشاويهم وأكاذيبهم وافتراءاتهم وكأنهم يعدّون العدّة لتفجيرها بالقنابل.
من المؤسف أن الظالمين اليوم يستخدمون القيمَ الدينيةَ كأداةٍ لبلوغ أهدافهم الدنيوية أحيانًا.
أجل، عصرنا هو عصر الأنانية، وعصر السفيانيين الذين يظهرون بمظهر المتديّنين، وينادون بالأخذ بالقيم الدينية، لكنهم لا يتوانون عن ارتكاب كلّ أنواع الظلم! وللأسف يتبعهم أناسٌ عليهم الطيالسة كما ورد في الحديث الشريف[2].. دعونا إن شئتم نترك الكلام مرة أخرى للشاعر محمد عاكف:
إن العلم والضمير لا يمنحان الأخلاقَ الرفعةَ والسموَّ في علّيّين
وإنما شعورُ الفضيلة عند بني الإنسان يتأتّى من خشية ربِّ العالمين
هبْ أن الخوف من الله انتُزع من الصدور
فمن الحتميِّ ألا يبقى حينئذ تأثيرٌ لعلم أو ضمير
والحياة حينئذ بهيمية… بل إنها أحقرُ
لم يشهد التاريخُ استغلالًا للدين لتحقيق أهدافٍ سياسيّةٍ ودنيويّةٍ بالشكل الصارخ الذي نشهده اليوم.
إن الحفاظ على استقامة المشاعر والأفكار في مثل هذا الزمان، والسيرَ على الصراط المستقيم دون انحرافٍ، وعدمَ العدول عن الصدق والإخلاص؛ يعود على الإنسان بأضعافٍ مضاعفةٍ من الثواب أكثر بكثيرٍ مما يناله في الأوقات العادية، ولا ننسَ أن “الحقَّ يعلو، ولا يُعلى عليه”، وإن لم يعلُ اليوم فسيعلو غدًا بلا شكّ.. قد يدوم الكفر، لكن لن يدوم الظلم، ويشهد على ذلك التاريخ والقرآن الكريم ﴿إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ (سورة الأَنْعَامِ: 6/21) لهذا السبب لا ينبغي أبدًا الوقوع في اليأس، فانتظِروا وستشاهدون أن ظالمي اليوم سينقلبون إلى أشقياء قد أفسدوا على أنفسهم الدنيا والآخرة، نسأل الله أن يحفظنا من السير على طريقهم!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] الوحدة الوقائية أو قوات الأمن الخاصة أو وحدات إس إس أو شوتزشتافل (بالألمانية: Schutzstaffel): هي الجناح العسكري للحزب النازي في ألمانيا، أُنشِئَت عام (1933م) وتم حلّها عام (1945م)، وقد اشتهرت ببطشها وجرائمها وقسوة قلوب عناصرها.
[2] ورد لفظ “عليهم الطيالسة” في كثير من النصوص والآثار ومن ذلك: “يَهْبِطُ الدَّجَّالُ مِنْ كُورِ كَرْمَانَ مَعَهُ ثَمَانُونَ أَلْفًا عَلَيْهِمُ الطَّيَالِسَةُ، يَنْتَعِلُونَ الشَّعْرَ كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ مَجَانٌّ مِطْرَقَةٌ” (ابن أبي شيبة: المصنف، 7/494).