سؤال: يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: “إِنِّي قَدْ خَلَّفْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا مَا أَخَذْتُمْ بِهِمَا، أَوْ عَمِلْتُمْ بِهِمَا، كِتَابُ اللهِ، وَسُنَّتِي“[1]، فهلَّا شرحتم هذا الحديث الشريف من حيث معايشة الإسلام، وتبليغه، وجعله مقوّمًا حضاريًّا؟
الجواب: رُوي هذا الحديث الشريف بألفاظٍ متقاربةٍ في مصادر السنة الصحيحة، ومن ذلك أنه ورد بلفظ “وَعِتْرَتِي أَهْل بَيْتِي” بدلًا من لفظة “وَسُنَّتِي“، والمراد هنا أيضًا السنة النبوية الشريفة؛ لأن أهل البيت بطبعهم وفطرتهم هم ممثّلو السنّة الشريفة، لا يتمسّكون بها بدافع الواجب فقط، بل يرونها تراثًا من جدّهم صلى الله عليه وسلم، ولذلك يدافعون عنها بكلّ قوّتهم.. ربما لا ينطبق هذا على جميعهم، ولكن الذين يحافظون على صلتهم الفطرية بالنبي صلى الله عليه وسلم ويعيشون في أجوائه؛ يكونون على هذه الشاكلة.
إن أوثقَ مصدرٍ يمكننا أن نعتمد عليه لنعرف مراد الله ومقاصده الإلهية؛ هو الوحي الإلهي الذي أنزله الله تعالى على البشرية.
يُستنبط من هذا الحديث الشريف أن القرآن والسنة هما المصدران الأساسيان والأوّليان اللذان ينظّمان حياة الأفراد والأسر والمجتمعات، وفي أصول الفقه يضاف إليهما الإجماع والقياس لتصبح الأدلة الشرعية الأصلية أربعة، بل ويضاف إليها أيضًا أدلّةٌ أخرى مثل المصلحة، والاستحسان، والاستصحاب، والعرف، وشريعة الأمم السابقة، وقول الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين؛ وهو ما يُسمّى بالأدلة الشرعية الفرعية، وكل هذه الأدلة تستمدّ مشروعيتها من القرآن والسنة، وبالأخص القرآن، فالقرآن هو الوحي المتلوّ، والسنة هي الوحي غير المتلوّ التي تفسّر القرآن وتبيّن لنا كيف نفهم آياته، بمعنى أنها أيضًا تخدم القرآن؛ وبالتالي يمكن إرجاع جميع الأدلة إلى القرآن بطريقةٍ أو بأخرى.
لقد أقامت الأمم التي شرُفت بالإسلام فيما بعد حضاراتٍ عظيمةً وتقدّمت وتمدّنت؛ وذلك لقبولها للقرآن والسنة ككلّ وتطبيقها لهما في حياتها.
ومن ثَمَّ فإن المصدر الأساس الذي يجب على المؤمن أن يركّز عليه إذا أراد أن يتعلّم أمور دينه هو القرآن الكريم، وأوّل مصدرٍ لفهم آيات القرآن هو القرآن نفسه؛ لأن آياته يُفسِّر بعضُها البعضَ الآخر.. أما المصدر الثاني الذي يفسّر القرآن ويبيّنه ويشرحه فهو السنة النبوية، إضافةً إلى المعاني التي استنبطها الصحابة الكرام والسلف الصالح من القرآن الكريم، فلها أهمية بالغةٌ في هدايتنا وإرشادنا، نسأل الله أن يرضى عنهم، فهم الذين حافظوا على ألفاظ القرآن بكلِّ عنايةٍ، ولم يغيّروا حرفًا منه، وأرشدونا إلى فهم المُبهَم والمُشكِل والمُجمَل منه.
لقد أولى الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين في البداية ومن بعدهم التابعون وتابعو التابعين عنايةً خاصّةً في الحفاظ على الدين، ويمكن أن نستنتج هذا من عدّة أمور؛ فمثلًا للمعجزات النبوية مكانةٌ عظيمةٌ في قلوبنا، ولكن كثيرًا من هذه المعجزات رواها واحدٌ أو أكثر من الصحابة، وكلها من قبيل أخبار الآحاد، وتصل إلى أعلى درجات الصحّة والشهرة، وهذا يعني أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يولوا أهمية قصوى لحفظ وتعلّم ورواية هذه المعجزات التي صدرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنهم بذلوا جهودًا مضنيةً لتعلّم أدقّ مسائل الدين؛ حتى إنهم كانوا يتجشّمون الصعاب، ويسافرون الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد؛ والسبب في ذلك اهتمامُهم الفائقُ في معرفة مراد الله منا، ومعرفة شكلِ وكيفية العبادة له جل جلاله، ولذلك فقد حافظوا على الكتاب والسنة بكلِّ تفاصيلهما، ونقلوهما إلينا بصورةٍ صحيحةٍ؛ باعتبارهما مصادر الدِّين الأساسية.
ينبغي البحث عن الحضارة في أخلاق الإنسان وفضائله وقيمه.
لقد جعل الله تعالى القرآن الكريم كتابًا واضح المعالم سهل الفهم بفضل أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله وجهود الصحابة الكرام ومساعيهم في شرحه وتفسيره وبيانه، ولو أن الله تعالى أنزل القرآن مباشرةً على الناس دون أن يرسل رسولًا يشرحه ويطبقه، وقال لهم: “اقرؤوا هذا، وافهموه، واعملوا بمقتضاه”؛ لما استطعنا فهمه بعمقه وعالميته وماهيته الحقيقية كما نفهمه الآن، فإدراكُنا قاصرٌ عن هذا، ومن ثَم يجب أن تكون نوايانا وجهودنا وأهدافنا موجّهةً إلى فهم القرآن فهمًا صحيحًا على النحو الذي يرضي الله سبحانه وتعالى، وسبيل ذلك هو الرجوع إلى القرآن والسنة وفهم السلف الصالح.
إن توجيهات القرآن لنا مهمّة للغاية، فهو كتابٌ جامعٌ لا يقتصر على تنظيم حياتنا التعبّدية ولا توضيح العبودية لله فحسب، بل ينظّم أيضًا حياتنا الأُسريّة والاجتماعية والاقتصادية والقانونية والإدارية، فهو يضع أحكامًا تشمل جميع جوانب الحياة، من أصغر دائرةٍ إلى أوسع دائرةٍ؛ بدايةً من الزواج والطلاق، إلى العلاقات بين الدول وقواعد الحرب والسلام.
وكذلك فإن الأحكام الإلهية الواردة في القرآن الكريم تُرشدنا إلى سبل العيش الإنساني في جميع المجالات، فالقرآن يربّي الإنسان ويدعوه إلى الكمالات الإنسانية، ويضع لنا أسس الأخلاق الفاضلة وقواعدها، علاوة على ذلك -وكما أشار الأستاذ سعيد النورسي رحمه الله- فإن القرآن يوجهنا إلى عالم الموجودات، ويفسر لنا كتاب الكون، فيجب علينا أن ننظر إلى القرآن بهذه النظرة الواسعة وألّا نقيّد دائرته، والذين يخرجون عن ساحته النورانية؛ يضيقون دائرتهم، ويحرمون أنفسهم من نورانيته.
إن محاولة تطبيق المنطق الديكارتي على الدين، وحصره في مجال معين؛ هو محاولةٌ لتدمير الدين وتشويهه، وزعزعة أركانه.
والسنة النبوية الشريفة كالقرآن الكريم تهدينا وترشدنا في جميع المجالات؛ فلقد ظلّ النبي صلوات ربي وسلامه عليه طوال حياته قدوةً لنا في جميع المجالات؛ بدءًا من حياتنا الفردية إلى حياتنا الاجتماعية، ومن أبسط قواعد السلوك والمعاملات إلى قوانين الدول، ولتقريب الفكرة فإننا نشيرُ إلى مثالين مختَصَرين:
المثال الأول: إن لم يُحافظ على نظافة شوارعكم وطرقكم ومدنكم؛ فهذا يعني أنكم تتجاهلون أحكام الدين الخاصّة بالنظافة، وتخالفون الحديث النبوي الذي يقول: “الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ“[2]، فمن لم يُراع قواعد النظافة، واستسلم للفيروسات، وعاش في قذارةٍ؛ فقد تجاهل جانبًا مهمًّا من دينه.
المثال الثاني: الاشتغال بالعلوم الدنيوية، ومن ذلك علم الطبِّ فهو من صميم الدين ولا يُعتَبَرُ خارجًا عن نطاقه، فكما قال الإمام الغزالي -وهو من علماء القرن الخامس الهجري الذين أحسنوا فهم رسالة القرآن والسنة-: إن الاشتغال بالطبِّ وتعلُّمَ مسائله فرضُ كفاية، إن قام به البعضُ سقط الطلب عن الباقين، وإن لم يقم به أحدٌ أثِمَ جميع المسلمين..
وعلى نفس المنوال فإن الذين ينشغلون بالعلوم ويهملون العبادات والطاعات؛ لا يؤدّون مسؤوليّتهم وواجبهم أمام ربهم سبحانه وتعالى.
إن الأحكام الإلهية الواردة في القرآن الكريم تُرشدنا إلى سبل العيش الإنساني في جميع المجالات.
لقد أدى التفكير الديكارتي في الغرب منذ العصور الأولى إلى فصل الدين عن العلم، وتخصيص كلٍّ منهما بمجالٍ معيَّنٍ، وممارسة الضغط على رجال الدين لمنعهم من تجاوز حدود مجالهم، وتحت تأثير بعض الفلسفات والأيديولوجيات الغربية، حاول بعض المتفلسفين تطبيق نفس الفكرة على الإسلام، وحاولوا تقييد القرآن وعزله عن الحياة، وحصر الدين في النفوس ودور العبادة، ودعوا إلى ظهور شخصيات مثل “مارتن لوثر” و”كالفن” من داخل المجتمع الإسلامي لإجراء إصلاحات على الدين، والحال أن الدين الإسلامي قد اكتمل وبلغ الكمال كما جاء في القرآن الكريم: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ (سورة الْمَائِدَةِ: 5/3)، بمعنى أن الله تعالى أعلن عن اكتمال الدين، وربط مرضاته بالعيش الكامل وفقًا للوحي الإلهي، فلا يوجد في القرآن أيُّ نقصٍ يحتاج إلى إصلاحٍ أو تعديلٍ، وإن محاولة تطبيق المنطق الديكارتي على الدين، وحصره في مجال معين؛ هو محاولةٌ لتدمير الدين وتشويهه، وزعزعة أركانه، وهو جرمٌ كبيرٌ شبيهٌ بما فعله أهل الكتاب من تحريفٍ للكتب السماوية السابقة.. أما ملء الفراغات التي تركها القرآن بما يتماشى مع ظروف العصر من خلال الاجتهاد المستند إلى الوحي الإلهي وإلى روح الشريعة، فهو موضوعٌ آخر.
إن أوثقَ مصدرٍ يمكننا أن نعتمد عليه لنعرف مراد الله ومقاصده الإلهية؛ هو الوحي الإلهي الذي أنزله الله تعالى على البشرية، فيجب علينا أن ننظر إلى القرآن الكريم بهذه النظرة، وأن نقترب منه بقلبٍ نقيٍّ سليمٍ، وأن نسعى لفهمه بعمقِه وشموليّته؛ ومع الأسف فإن أيديولوجيّات وفلسفات العالم الحديث قد تشوّش العقول، وتعيق فهم القرآن الكريم فهمًا صحيحًا، ولذلك كان من أهمّ الحِكم التي جعلت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يَنْشَؤون أمّيين بعيدًا عن مراكز الحضارات الكبرى؛ هو تمكينهم من فهم القرآن الكريم فهمًا صحيحًا بعقلٍ سليمٍ ونفسٍ طاهرةٍ.. لقد شاء الله تعالى أن ينشؤوا في بيئةٍ بعيدةٍ عن تأثيرات الثقافات والمعارف الأخرى، لكيلا تتلوّث عقولُهم بترسُّبات تلك الثقافات؛ لذا عندما واجهوا البيان القرآني الساحر الذي لا يترك مجالًا للشكّ في المنطق والاستدلال أذعنوا له بكلِّ قلوبهم، وكرّسوا كلَّ طاقاتهم لفهمه، وانفتحوا على محيطه النوراني.
حافظ الصحابة الكرام على الكتاب والسنة بكلِّ تفاصيلهما، ونقلوهما إلينا بصورةٍ صحيحةٍ؛ باعتبارهما مصادر الدِّين الأساسية.
لقد أقامت الأمم التي شرُفت بالإسلام فيما بعد حضاراتٍ عظيمةً وتقدّمت وتمدّنت؛ وذلك لقبولها للقرآن والسنة ككلّ وتطبيقها لهما في حياتها.. أما نحن اليوم عندما نتحدّث عن الحضارة نفكّر غالبًا في العيش وفقًا لحياة الحضر، ومواكبة العالم الحديث في نمط المعيشة، ومع ذلك ينبغي البحث عن الحضارة في أخلاق الإنسان وفضائله وقيمه، فكثيرٌ من الناس الذين يعيشون في البادية والريف يتميّزون بأخلاقٍ عاليةٍ وسلوكيّاتٍ حسَنَةٍ تفوق ما تجده عند الناس في المدن من حيث سلوكهم وتصرفاتهم ورقّتهم واحترامهم للناس، بل إننا نجد في بعض الأحياء الراقية والمدن المتقدّمة سلوكياتٍ وقحةً وعدوانيّةً تفوق بكثيرٍ ما نجده عند البدو والصعاليك.. أليس أهل المدينة هؤلاء أكثر بداوةً من البدوِ الذين يعيشون في الخيام في الصحاري؟ إن الإنسان الذي يتمتّع بالأخلاق الفاضلة، ويقيم دستور التعاون والتكافل، ويسعى للقضاء على العوز والفقر، ويعيش حياةً مستقيمةً؛ هو إنسانٌ متحضِّرٌ حتى وإن كان يعيش في خيمةٍ، وهذه هي القيم التي جاء بها الإسلام.
القرآن والسنة هما المصدران الأساسيان والأوّليان اللذان ينظّمان حياة الأفراد والأسر والمجتمعات.
إن الدين هو مجموعةٌ من القوانين الناظمة لشتّى مجالات الحياة، ونحن مدعوّون إلى أن نكون حاضرين في كلّ مجالات الحياة، وأن نستخدم كل الإمكانيات المتاحة لنشر أفكارنا وقيمنا، فعلى كلِّ مؤمنٍ يتبنّى القيم القرآنية والنبوية، ويجسّدها في حياته، ويحمل في قلبه نور الإيمان والأمل والفضيلة؛ أن يبذل قصارى جهده لنشر هذه القيم والأفكار في كلِّ مكان، وأن يدعو الآخرين إلى تبنّيها، هذا الأمر في الواقع هو أمرٌ إلهيٌّ، لذلك يجب علينا أن نستغلّ كلَّ وسائل الاتصال المتاحة، وأن نأخذ بعين الاعتبار متطلّبات العصر لنشر قيمنا وأخلاقنا بين الناس، وإذا اقتصرنا على العمل في مجالاتٍ محدودةٍ كالإمامة والأذان والخطابة والقضاء، فإننا بذلك نهمل جوانبَ كثيرةً من الحياة الاجتماعية المرتبطة بقيمنا، وإن هذا الإهمال الكبير للدين عاقبته وخيمةٌ، وسوف نُسأل عنه أمام الله سبحانه وتعالى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] البيهقي: السنن الكبرى، 1/195.
[2] صحيح مسلم، الطهارة، 1؛ سنن الترمذي، الدعوات، 86.