إن قَدَر الأنبياء والصدّيقين والصالحين أن يكونوا في الزمان والمكان الذي يعيش فيه الطغاة أمثال فرعون ويزيد وشداد بن عاد وشمر بن ذي الجوشن، لكن سنّة الله دائمًا أن ﴿الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (سورة هُودٍ: 11/49)، فالذين أسلموا وجوههم لله؛ عاشوا حياةً لا يشوبها الخزي والعار والندامة، وكانت عاقبتهم نورانيةً تشرح الصدور.
تلك هي العاقبة التي تنتهي عندها آلام المحن وتبقى لذّاتها، وتتحوّل كل مصاعب الدنيا إلى مناقب جميلة، وترى فيها الصالحين على الأرائك متكئين، وتعلو وجوههم البسمة وهم يقصّون لبعضهم ما عانوه في الدنيا.. يحكون لبعضهم كيف تجنّى عليهم “يزيد” وأمثاله ظلمًا وعدوانًا، وكيف هاجمهم “الحجاج” وأشباهُه بلا شفقةٍ ولا هوادةٍ، وكيف نصب لهم “شِمْر” ونظراؤه المشانق بغيًا وظلمًا؛ يروون كلَّ هذا في صورة مناقب جميلةٍ وذكرياتٍ عذبةٍ، فيصغر في أعينهم ما ذاقوه من ظلمٍ واضطهاد، ويقولون: “كم كنا قد أعظمنا هذه الأمور في أعيننا ونحن في الدنيا!”.
أما الظالمون الذين يعيشون اليوم فقط، ولا يضعون الغد في حسبانهم، ويعيشون حياةً محورُها الدنيا وليس الآخرة؛ لا يجنون إلا الحسرة والندامة، ويُساقون إلى عاقبةٍ مظلِمةٍ تنقصم فيها ظهورهم تأسُّفًا وندمًـا، وبينما يرحل السابقون إلى لقاء الله والظفر بنعيمه الأبدي يتساقط هؤلاء الأشقياء في الطريق؛ يئنّون ويتضرّعون، ويتلوّون ندمًا وحسرة، ولا يجدون إمكانيةً لتعويض ما فاتهم.
وما دامت هذه هي العاقبة التي تنتظرنا فلا ينبغي أن نقلق أو نتزعزع أمام النوازل التي تحلّ بنا في هذه الدنيا، بل لا بدّ أن نتصدّى لها بصبرٍ وثَباتٍ، فالمهمُّ هو استقامة الطريق.. فإن كنتم جعلتم غايتكم المثلى أن يرفرف الاسمُ الجليل الإلهيّ في كلِّ مكانٍ وأن يحلّق الاسم الجميل المحمدي في كلّ الأرجاء؛ فعليكم أن تثبتوا صامدين أمام البلايا والمصائب، وألا تنحنوا أمام الرياح المعاكسة التي تذرو كلَّ شيءٍ وتعصف حتى بأشجار الدلب، وتواصلوا السير قائلين: “ما أعذب البلاء إن كان من جلالِهْ، وما أحلى الوفاء إن كان من جمالِهْ! فكلاهما صفاء للروح، فما أحلى لطفه! وما أعذب قهره!”.
بل إنه يجب عند اللزوم أن تتحَدَّوا الأشرارَ الذين يسعون للإساءة إليكم والإضرار بكم، كما فعل الأنبياء عليهم السلام وأتباعهم الصادقون.. فقد تعرّض سيدنا نوح عليه السلام لشتى أنواع الآلام والمضايقات، فما كان منه إلا أن وقف في تحدٍّ صارخٍ أمام قومه الطغاة المنكرين قائلًا لهم: ﴿فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ﴾ (سورة يُونُسَ: 10/71).
لقد كان سيدنا نوح عليه السلام يكلمهم بأسلوبٍ يليق بأولي العزم من الرسل، ففي البداية أعرب عن ثقته التي لا تهتز بربه سبحانه وتعالى، ثم وقف صامدًا شامخًا أمام الذين يناصبونه العداء متحدّيًا لهم، وهو موقفٌ جديرٌ بأن يكون قدوةً للمؤمنين من بعده، فقد بيّن لهم من خلاله كيف ينبغي أن يكون موقف المؤمنين أمام خصومهم.
وإذا ألقيت السمعَ إلى كلام أيّ نبي فستسمع الشيءَ نفسَه، ولو نظرتَ إلى حياتهم فستجد منهم الموقفَ بعينه، وعلى سبيل المثال فهذا خليل الله إبراهيم عليه السلام قد عاش حياته كلها بين شراك الفخاخ والمؤامرات التي تلاحقه من كلّ جهة، لكنه وقف صامدًا شامخًا متحدّيًا كلّ النماردة، وصرخ بصوتٍ جهوري في وجه قومه الذين دخلوا في جدالٍ معه: ﴿أَتُحَاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ﴾ (سورة الأَنْعَامِ: 6/80)، وبالمثل توجّه إلى ربه سبحانه وتعالى يبثّه شكواه عما نزل به من مصائب وبلايا: ﴿رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ (سورة الْمُمْتَحَنَةِ: 60/4).
وهذا التوكّل والتضرّع هو ما أكدت عليه تلك الأنفاسُ الطاهرة التي خرجت من أفواه بعض أفراد قوم موسى عليه السلام: ﴿عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ (سورة يُونُسَ: 10/85)، فكلّ هذه التضرعات هي بمثابة تعبير آخر عن الوقوف بثباتٍ وشموخٍ أمام الظالمين، لأن من يعتمد على الله لا ينحني أمام أيِّ قوّةٍ أخرى.
وما فعله سيدنا موسى عليه السلام عندما حوصر بين البحر وجيش فرعون ومحاولته تهدئة روع الذين معه قائلًا لهم: ﴿إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ (سورة الشُّعَرَاءِ: 26/62)، وكذلك قول مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم لسيدنا أبي بكر رضي الله عنه الذي دبّ القلق إلى قلبه عندما رأى المشركين يقفون على باب سلطنة غار ثور محاولًا بثّ الطمأنينة في روحه: ﴿لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا﴾ (سورة التَّوْبَةِ: 9/40)؛ كلها صورٌ مختلفةٌ للثبات والشموخ.
بعد أن أعلن سيدنا موسى عليه السلام توكّله على الله انفلق البحر فكان كلُّ فرقٍ كالطود العظيم، ونُجِّي موسى ومن معه أجمعون، وأُغرِق فرعون وجنوده، كما حفظ ربُّ العباد سبحانه وتعالى رسولَه صلى الله عليه وسلم من مكائد المشركين ومؤامراتهم، وهزمهم بحمامةٍ وعنكبوت ضعيف، وفتح الله الطريق لنبيه صلى الله عليه وسلم إلى “يثرب” لتصبح في المستقبل مركزًا حضاريًّا، ورغم أن المؤمنين تعرّضوا لبعض الابتلاءات فقد وصلوا في النهاية إلى ذواتهم، وحققوا الوصال مع ربهم.
وإذا انتقلنا من تلك الفترات إلى عصرنا فسنجد بديع الزمان سعيد النورسي قد تعرض لشتى أنواع الأذى والاضطهاد على أيدي الظالمين في عهده، ومع ذلك لم ينحن قطّ أمامهم، بل لم يتورّع عن مجابهتهم وتحديهم أحيانًا، وصرخ فيهم قائلًا: “لو أشعلتم الدنيا على رؤوسنا نارًا فلن ترضخ تلك الرؤوس التي افتدتْ الـحقيقة القرآنية، ولن تسلم القياد للزندقة، ولن تتخلّى عن مهمّتها الـمقدسة بإذن الله”[1].
وفي موضع آخر يرفع صوته قائلًا بقوّة: “إنكم لن تعيشوا بعد قتلي، فإن يدًا قاهرةً ستأخذكم من دنياكم التي هي جنّتكم وأنتم مغرمون بها، وتطردكم عنها، وتقذف بكم فورًا إلى ظلمات أبدية، وسيقتل بعدي رؤساؤكم الذين تَنمرَدوا وطغوا قتلةَ الدواب، ويُرسَلون إليّ، وسأمسك بتلابيبهم أمام الحضرة الإلهية، وسآخذ حقّي منهم بإلقاء العدالة الإلهية إياهم في أسفل سافلين”[2].
فما من ظلمٍ يدوم إلى الأبد، ومهما طالت البلايا والمحن سيأتي يومٌ وترحل، ولنتذكّر أنّ مَن زرعَ حصد، فالظالمون يُظلِمون قبورَهم وحياتَهم الأخروية بأيديهم، لكن قد تكفِّر البلايا والمصائبُ السيئات، وتكون وسيلةً للنجاة، لهذا يجب أن نستقبل بلاءَ اللهِ بصبرٍ ورضا، وما أجمل ما قاله الشاعر “واصف الأندروني”:
لا بدّ أن يتجلّى حكم القدر
ففوّض الأمر إلى الحقّ لا تتألم ولا تتكدّر
ولهذا يجب ألا نتزعزع أو نفزع أو نخلّ بنظام السير بسبب المصائب التي تنزل بنا، ربما يمكننا تغيير السرعة وضبطها حسب حالة الطريق التي نسير فيها، فإن عادت الطرق إلى حالتها الطبيعية فيمكن أن نزيد السرعة، ولكن إذا ظهرت مطبّات ومنحنيات فلا بد أن نراعي طبيعة الطريق، ونخفف من سرعتنا، ونواصل سيرنا ولا نتوقّف، وحتى وإن لم نتمكّن من السير فينبغي أن نواصل تحرُّكنا في مكاننا، وطالما أيقنَّا أن الله هو من هدانا إلى هذه الطريق، ومهّده لنا، وألهمنا بما يجب علينا القيام به فلا داعي لليأس والقنوط بسبب المعاناة التي نعيشها.. وما دامت الطريق التي نسلكها هي طريق الله، وأن سيرنا فيها يتجه نحوه عز وجل؛ فيجب أن تكون لدينا ثقةٌ كاملةٌ في أن الله تعالى لن يتخلّى عمن يسيرون في سبيله، ولن يتركهم وحدهم في منتصف الطريق.
فما دامت الطريق طريقه والمسار مساره؛ فلن يكون هناك محلٌّ للخسارة بالنسبة لمن يسيرون في هذه الطريق، فلا داعي لأن يقلق من اعتمد على ربِّه ووصل إلى المعية الإلهية، لأنه قد كسب أشياء عظيمةً من حيث يبدو أنه قد خسر، لقد طُعِنَ أحد الصحابة الأكابر بطعنةِ رمحٍ قاتلةٍ أوقعتْه على الأرض فما كان منه إلا أن قال: “اللَّهُ أَكْبَرُ، فُزْتُ وَرَبِّ الكَعْبَة”[3].
لكن الذين تعلّقوا بعرض الدنيا الزائل، وأوقفوا حياتهم على مثل هذه الأمور الفانية؛ فإنهم يخشون من الخسارة، ويحزنون أن تفوتهم هذه الأشياء؛ لأنهم يعلمون أن الأشياء التي يركنون إليها إذا انهارت أو تقوّضت؛ فسيبقون تحت حطامها، أما الإنسان الذي ارتبط قلبه بالله فقط فلا يخشى شيئًا، لأن الله هو الباقي، وحاشاه أن يخذل قلبًا تعلق به.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] بديع الزمان سعيد النورسي: اللمعات، اللمعة السادسة والعشرون، ص 364.
[2] بديع الزمان سعيد النورسي: المكتوبات، المكتوب التاسع والعشرون، ص 528.
[3] صحيح البخارِي، الجهاد، 9.
انظر الرابط التالي: https://herkul.org/alarabi/ala-allah-tawakkalna/