من المبادئ الأساسية التي لا غنى عنها، التحقُّقُ من مشروعية كلّ عملٍ مبذولٍ، والحرصُ على أن تتناسب الأقوال والتصرّفات مع الأحكام الثابتة في الدين، فلا بدَّ وأن يتوافق كلُّ عملٍ نعمله مع روح الكتاب والسنة، وكما ذكر بديع الزمان سعيد النورسي علينا دائمًا أن نسعى لتحقيق أقصى درجات التقوى والإخلاص والصدق والتضحية، مع مراعاة ظروفِ العصر الذي نعيش فيه والواقعِ المحيط بنا؛ إذ قد لا تسمح الأوضاع أحيانًا بأداء الأعمال بشكلٍ يتوافق تمامًا مع روح الدين، وفي هذه الحالة يجب بشكلٍ صحيحٍ تحديد ما ينبغي القيام به في سبيل الدين.
فمثلًا في ظلِّ الأوضاع القاسية للحرب قد لا تتمكّنون من أداء الصلاة بجميع شروطها وأركانها على الوجه الأكمل، وفي هذه الحالة تؤدّون صلاة الخوف كما بيّن القرآن الكريم، إذ لا يجوز لكم ترك الصلاة مهما اشتدّت وطأة الظروف، بل ينبغي أن تظلّوا متمسّكين بروح العبودية لله، وتبذلوا قصارى جهدكم لتحقيق هذه العبودية، واعلموا أن العبادات التي تؤدّونها في تلك الأوقات الصعبة وإن كانت ناقصةً غير كاملة فستنالون إن شاء الله بسببها من الأجر ما يفوق الثواب الذي تحصلون عليه عند أداء هذه العبادات في الأوقات العادية..
إنكم لو رأيتم أناسًا في أوقات السلم يصلون صلاة الخوف فقد يخطر ببالكم أن تقولوا: هل هذه صلاة! بيد أن القرآن الكريم هو الذي شرع هذه الصلاة، وبيّنَ كيفيتها بكلِّ تفاصيلها، فلا تستهينوا بها.. وبهذا المنظور يمكنكم النظر إلى الرخص الخاصّة بالعبادات وبالمحظورات في أوقات الضرورة.
واعلموا أنه في أوقات الأزمات والشدة، حين يتعسّر أداء العبادات، ولا تُتاح الفرصة، ويُنظَر فيها إلى المؤمنين بعين الغرابة، قد ترتقي العبادات -وإن كانت ناقصةً غير كاملة- إلى مقام تلك التي تؤدَّى بإخلاصٍ عند الكعبة، أو تصل إلى منزلة الرباط على الجبهة لنيل رضا الله تعالى.
إن الفترة التي نعيشها الآن هي بلا شكٍّ فترةٌ صعبةٌ من ناحية ما، ولذلك قد ينال حتى الذين يلتزمون بأدنى درجات التقوى في هذه الفترة مكافآتٍ عظيمةً من الله، فالصعوبات التي تفرضها هذه الفترة هي التي دفعت بديعَ الزمان سعيد النورسي إلى مقولته الشهيرة: “مَن يؤدّي الفرائض ويتجنّب الكبائر كان من المتّقين”، ورغم أنه كان في البداية يقصر دعاءه على طلابه الصادقين المخلصين فقد تخلّى عن هذا الشرط فيما بعد؛ لأنه أدرك أنه من المتعذّر أن يكون الجميع في ظلّ ظروف العصر الذي يعيش فيه على نفس القدر من الصدق والإخلاص، فلم يطاوعه قلبه أن يحرم أحدًا من طلابه من دعائه.
رؤية الحقائق ومراعاتها
فإذا كنتم في هذا الوقت العصيب الذي اختلط فيه الحابلُ بالنابل تأملون أن يتوافق كلُّ شيءٍ مع الشرع الحنيف تمامًا وتُمارس فيه الشرائع الدينية بشكلٍ كاملٍ؛ فقد تجدون صعوبةً في أن تبلغوا آمالكم أو تحقّقوا أهدافكم، بل قد تؤدّون إلى تنفير الكثيرين منكم، فمثلًا عروض المولويّة التي تُقام اليوم! هل يمكن أن نقول: إنها تعبّر عن الحالة الروحيّة لمولانا جلال الدين الرومي؟ إن هذه العروض تُقدّم كنوعٍ من التراث الشعبي؛ ولذلك فإنها لا تترك أثرًا حقيقيًّا في القلوب، ومع ذلك لا يمكننا القول بأنها تتعارض مع المبادئ الأساسية للدين، بل لا يمكن تجاهل بعض فوائدها؛ فمثلًا نجدها تجعل المشاهد يجوب في عالم من الذكريات، ويستشعر الماضي مرَّةً أخرى، وتدفعه إلى أن يقول: إذا كان هذا هو ظلُّ المسألة فما بالنا بحقيقتها! ولو لم يستوعب جميع المشاهدين هذه العروض بجمال دقّتها وعمق معناها؛ فهم على الأقل يعرفون أنها تراثٌ شعبيٌّ وثقافةٌ نابعةٌ من الدين، وبالتالي ينظرون بإيجابيةٍ إلى الدين، فلا بدَّ من الانفتاح على جميع أنواع المكاسب.
علينا ألّا نقلّل من أيِّ نشاطٍ يعود بالفائدة والمصلحة على الدين طالما لا يتعارض مع أصوله، فمن الأهمية بمكان أن تبقوا صامدين على الجبهة، وأن تحافظوا على المواقع الدفاعية، وتحرسوا التحصينات بعزيمةٍ وثباتٍ، قد لا تتمكّنون من تقديم الحل الأمثل لأن الأوضاع لا تسمح بذلك، ولكن من يأتون فيما بعد يأخذون ما تركتم، ويرتقون به إلى مستويات أعلى، ويصِلون به إلى قيمته الحقيقية، مهمّتكم هي أن تراجعوا وضعكم الحالي، وتؤدّوا واجباتكم التي يتعين عليكم القيام بها على أفضل وجهٍ ممكنٍ وفقًا لمتطلّبات موقعكم، قد ترغبون في أن تعيشوا حياةً مثل حياة عمر بن الخطاب رضي الله عنه أو أن تكونوا مثل خالد بن الوليد رضي الله عنه، ربما لا يمكنكم أن تكونوا مثلهم بالمعنى الحقيقي، ولكن إذا بذلتم قصارى جهدكم في ظلِّ الظروف الحالية وبحسب قدراتكم، فإنكم ستصبحون بمعنًى ما متشبّهين بهم، فيجب عدم الخلط بين هذين الأمرين.
التواجدُ في كلّ مجالات الحياة
إن عدم اقتراف الذنوب وتجنّب الوقوع في الآثام يتطلّب جهدًا عظيمًا في هذا الوقت الذي أوحلت فيه الشوارع، ودُنِّست فيه الأسواق، وتسلّلت فيه الذنوب إلى بيوتنا بفعل العالم الرقمي.. قد يلجأ البعض إلى العزلة حفاظًا على عفّته وطهارته، ويفضّل البقاء بعيدًا عن الحياة الاجتماعية جزئيًّا أو كلّيًّا، ولكن يجب ألا نعتبر المسألة مسألةً شخصيّةً، بل نقيّم الآثار الإيجابية والسلبية التي تترتب على أفعالنا وقراراتنا التي نتّخذها في سبيل ديننا.
لقد تمّ تجاهل مجالات مختلفة في المجتمع حتى الآن بسبب مثل هذه النظرات الانعزالية، وظلّ البعض بعيدًا عن الحياة لنفس الأسباب، ولم يُنظر إلى المسألة بنظرةٍ أكثر شمولية، ولم تُحسب نتائج الخيارات التي تمّ اتخاذها، ولذلك لما أُفسِح المجال للآخرين، وزهِدَ أهل الجدارة والاستحقاق بالمواقع التي كان يتعيّن عليهم الوجود فيها؛ لم يتمكّنوا من تأمين مستقبلهم، ولم تستطع الملايين التي تؤمن بالله واليوم الآخر اليومَ أن تظلّ على طبيعتها أو تحافظ على هويّتها، ولم يكن بوسعها الاحتراز من التعرّض للقمع أو الوصاية أو الاحتلال.
إننا ننظر إلى خيارات مَن سبقونا وإلى عوالمهم العقلية والمنطقية على أنها أخطاء اجتهادية على الأكثر، ونحسب أنهم سينالون أجرهم إن شاء الله حتى وإن كانوا مخطئين في اجتهادهم، أما نحن فلا ينبغي أن نفكّر فقط في سعادتنا الأخروية، بل علينا أن نفكر في المجتمع الذي ننتمي إليه وفي الإنسانية جمعاء، فإذا كانت همَّتُنا موجَّهةً لخدمة الإنسانية بأسرها، فيجب أن نكون موجودين داخل المجتمع وفي مختلف مجالات الحياة، وأن نمثل القيم التي ننتمي إليها، وإلا فإننا حتى وإن كنا نحن والشاه الجيلاني كفرسي رهانٍ من حيث حياتنا الروحية، فإن الله سيسألنا عن هذا ويقول لنا: “إذا كان الآخرون قد فعلوا ما كان يتعيّن عليهم فعلُه من أجل مصلحة وحسابات ومستقبل بلدهم والإنسانية جمعاء، فما بالكم أنتم لم تتمكّنوا من رؤية هذه الأمور وفكَّرْتم فقط في أنفسكم؟”، وعندها سنُحاسَبُ على كلِّ هذا.
قد تدفعنا فكرة التقوى أحيانًا إلى العزلة، بل قد يفضّل الإنسان أن يأوي إلى جبلٍ يعصمه من الحرام كما فعل الإمام ابن مشيش[1]، وبهذه الخلوة في الجبل يضمن عدم الوقوع في ذرّةٍ من الحرام، ويقضي حياته في العبادة وقراءة الأوراد والأذكار، مبتعدًا عن صغير الحرام وكبيره، لكن على ذلك الشخص أن يعلم أنه إذا فكّر فقط في نفسه وأهمل المجتمع والناس في هذا الزمن الذي تنهار فيه القيم الدينية واحدةً تلو الأخرى؛ فإنه يرتكب خطأً في الاجتهاد، فما عليه إلا الانخراط في الحياة، والاستمرار في علاقاته مع أفراد المجتمع، والقيام بالمسؤوليات الملقاة على عاتقه من أجل مستقبل المجتمع.. في هذا الوقت العصيب الذي يعيش فيه الإسلام حالةً من الغربة، يجب على المؤمن أن يتذكّر أن النجاة الأبديّة مرتبطةٌ بالسعي لإنقاذ الآخرين، فبقدر ما تسعى لأن تكون منقذًا لإيمان الناس تضمن نجاتك بإذن الله وعنايته.
ثمة حاجة مُلحة أكثر من أي وقت مضى إلى أشخاص يرون القضايا بشكل صحيح، ويفسرونها بشكل سليم، ويجرون التحليلات الصحيحة، باختصار، أن يكونوا صوت الحقيقة ونَفَسَها. من أجل ذلك، يجب أن ننخرط في المجتمع، ونقدّم أفضل نموذج للإنسان المثالي في كل مجالات الحياة. علينا أن نوسع من دائرة التقوى ومجال الخدمة، ولا ننسَ أن فهم الأوامر التكوينية بشكل صحيح، ومراعاة الأسباب، والقيام بالمسؤوليات الاجتماعية؛ هي أيضًا جزء من التقوى.
إن الانخراط في المجتمع قد يحمل بعض المخاطر على حياتنا الدينية والمعنوية، لكن كيف يمكننا أن نفكّر فقط في كمالنا الروحي بينما الناس يسقطون في الكفر رأسًا على عقب وينحدرون إلى جهنم، دون أن نحاول إنقاذهم وجذبهم نحو الجنة؟ ما نفهمُه من المبادئ الأساسية للدين هو أن احتضاننا للجميع بنوايانا ومساعينا وهممنا، ومكاشفتنا للناس بأخطائهم -حتى وإن نشأ عن ذلك معارضتهم لنا وخروجهم علينا- هو أولى من تفكيرِنا بالانزواء في زاويةٍ ما حفاظًا على تقوانا ومن تشوُّفِنا إلى الكمال الشخصي، وهذا أكثر توافقًا مع معنى التقوى.
العمل على أساس القناعة القلبيّة
الحلال بيّن، والحرام بيّن، والله تعالى هو منْ بيّن هذا، ولذا ليس لأحدٍ صلاحية ليحلّ ما حرّمه الله أو يبيح الذنوب التي حظرها الدين، ومع هذا إذا كنتَ تعيش في مجتمعٍ ملوّثٍ؛ فقد يتّسخ ثوبك أو ملابسك بالطين أو الأوساخ رغم توخيك أقصى درجات الحيطة والحذر، وتضطر إلى أداء صلاتك دون أن تجد فرصةً لتنظيف هذه الأوساخ، تمامًا كما يصلي الإنسان في الحرب بملابسه الملطخة بالدماء، ولهذا السبب وصف العلماء هذه الأوضاع العامة التي يصعب تجنبها بـ”عموم البلوى”، وتحدَّثوا عن تأثيرها على الأحكام الدينية، وأمَلوا في أن يتجاوز الله عنها.
ومن ثَمّ قد نضطرّ إلى تحمّل بعض الصعاب والتضحية بمشاعرنا وفيوضاتنا الشخصيّة في الوظيفة التي نقوم بها والمكان الذي نعمل فيه، وذلك في سبيل غايتنا السامية.. فإذا كنا نريد أن نبلّغ صوتنا إلى الجميع ونقيم صرح روحنا على الأرض؛ فربما نضطرّ إلى السير على أرضٍ موحلةٍ وشوارع قذرةٍ، وفي هذه المواقف نتحرّك بناءً على قناعتنا القلبية، ونحاول أن نتغلّب على الصعوبات والمشاكل التي تواجهنا بأقلّ الأضرار، والنجاة من المحن والمصائب التي نتعرّض لها بأقلِّ الخسائر، ونؤمن بأن المعاناة التي نتجشّمها في هذا الطريق ستجد القبول عند الله، وكلما تحمَّلْنا من صعوباتٍ وتضحياتٍ في سبيل ديننا وإيماننا، زاد لدينا الأمل في الصعود السريع والرأسي إلى رضا الله.
[1] عبد السلام بن مشيش (1163-1228م): عالمٌ متصوِّفٌ عاش في زمن الخلافة الموحدية، وُلد في ضواحي “طنجة” في المغرب العربي، وانتقل بعدها للعيش والخلوة بجبل العلم قرب “تطوان”، وهناك استشهد على يد مدّعي النبوّة “محمد الكتامي الغماري” المشهور بـ”ابن أبي الطواجين”، وما يزال ضريحُه هناك إلى الآن، ويُعَدُّ أحد أبرز أعلام الصوفية وأستاذ المتصوف أبي الحسن الشاذلي صاحب الطريقة الشاذلية، كان شديد الزهد والتواضع والخفاء، ومن أدعيته: “اللهم إني أسألك اعوجاج الخلق عليّ حتى لا يكون ملجئي إلا إليك”.