Reader Mode

يعيش الإنسان في دار الابتلاء، وهو معرَّضٌ لا محالة لمصائب يقتضيها هذا الابتلاء، من هذه المصائب ما يتعلق بالدنيا، ومنها ما يتعلق بالدين، فأما التي تتعلق بالدنيا فتلك التي تخصّ الحياة المادية والدنيوية، وأما التي تتعلق بالدين فتلك التي تخصّ الحياة الدينية والمعنوية.. لكن المصيبة الحقيقية التي يلزم الخوف منها إنما هي التي تمسّ الدين.

ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربّه قائلًا: “اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا”[1]مشيرًا بذلك إلى المصيبة الحقيقية التي ينبغي أن نستيعذ بالله منها.

كما يلفت بديع الزمان سعيد النورسي الأنظار إلى هذه المسألة بقوله: “إن الـمصيبة التي تعدّ مصيبةً حقًّا والتي هي مضرّة فعلًا؛ هي التي تصيب الدين، فلا بدّ من الالتـجاء إلى الله سبـحانه والانطراح بين يديه والتضرّع إليه دون انقطاع”[2].

المصائب الدنيوية

ومن المصائب الدنيوية ما يؤثّر في حياة الإنسان الفردية، ومنها ما يؤثّر في حياته الأسرية، ومنها ما يؤثر في المجتمع بأكمله، فمن أمثلة المصائب الفردية: إصابة المرء بالأمراض، واضطراب أموره.. ومن أمثلة المصائب الأسرية: احتدام النزاع والشقاق بين أفراد الأسرة الواحدة.. ومن أمثلة المصائب المجتمعية: الآفات والكوارث التي تتسبّب بخسائر في الأرواح والممتلكات مثل الزلازل والسيول والعواصف والقحط والجوع والأمراض الوبائية.. فهذه المصائب وإن تسبّبت في الحرمان وبعض المشاكل الدنيوية فإنها إذا ما قوبلت بالصبر والرضا فإنها ستكفّر ذنوبَ أصحابها، وسترفع درجتهم عند ربّهم.

وإلى جانب المصائب الأرضية والسماوية هناك مصائب دنيوية تصيب الإنسانَ بأيدي البشر، فكم مرة انجرفت فيها البشرية إلى الحروب! وكم عانت الإنسانية وأنّتْ! وتعرضت لشتى صنوف الأذى والتنكيل تحت حكم الطغاة والمستبدين! وإذا ما نظرتم إلى الأوضاع العامة للعالم اليوم لألفيتم كثيرًا من الأمم والمجتمعات تتأوّه وتتلوّى أمام الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.. وما أكثر الذين ضاقت عليهم الدنيا بسبب طمع الظالمين فيهم وجشعهم تارة! ونتيجة للمؤامرات التي يحيكها الممثّلون الدوليّون تارةً أخرى!

هل هناك كارثة أكبر من سقوطنا إلى هذا الوضع البائس المزري بعد أن حافظْنا على وجودنا كعنصرٍ مهمٍّ في التوازن الدولي لعدّة قرون، وبعد أن كنّا نقوم بدور المخفر الذي يحمي المنطقة من المخاطر المحتملة؟! إن كلّ مصيبةٍ سواء كانت صغيرة على مستوى الأفراد أو كبيرة على مستوى الأمة بأكملها؛ تُقاس أهميتها بحسب حجمها ومستواها.. ورغم أن الإنسان غالبًا ما يتأثّر بالمصيبة التي تنزل به خاصة؛ فإن أصحاب القلوب الكبيرة يشعرون في وجدانهم بنفس ألم المصائب الكبيرة التي تقع ضمن الدائرة الكبيرة.

المصائب الدينية

لكن مهما كان نوع المصائب الدنيوية وحجمها ومستواها فإنها تصغر وتضمحلّ بجانب المصائب الدينية.. فالمصيبة الحقيقيّة التي ينبغي الخوف والفزع منها هي المصيبة التي تؤثر في حياة الإنسان الأخروية وتسوقه إلى الخسران الأبدي.

ومن أمثلة هذه المصائب: التخبّط في الشبهات حول أصول الإيمان، والاستعداد لارتكاب المحرمات في كلّ آنٍ، وعدم توخّي الدقة اللازمة في العبادات والطاعات، وضعف الصلة بالله رب الأرض والسماوات، فكلّ هذه المصائب هي آفات رهيبة يمكن أن تنزل بالإنسان، فهل بعد ذلك يمكن أن نقول إن للمصائب الدنيوية أهمية إلى جانب عدم تعرّف الأجيال بحقّ على الذات الإلهية، وانقطاع صلتهم بربهم عز وجل؟!

أجل، إن المصائب المادية التي تصيب الإنسان في حياته الدنيوية القصيرة تظلّ صغيرة وضئيلة للغاية بالنسبة إلى ابتعاد الناس عن كتاب ربهم وسنة نبيّهم، وتبنيهم لنظم عقائدية وأيديولوجيات نظرية بعيدة عن عالمنا الفكري، وانسياقهم وراء تيارات تُفقدهم حياتهم الأبدية.. ومن الكوارث الكبيرة التي اُبتليت بها حياتنا الدينية قيامُ بعض الشخصيات المرموقة بِلَيِّ أعناق نصوص القرآن والسنة كي تتماشى مع نظرية التطوّر، واتباعُهم للأهواء والشهوات، وانسياقُهم وراء التيارات الحديثة، وتلاعبُهم بالأحكام الدينية، وارتيابُهم في قيمهم الذاتية، وفشلُهم في المحافظة على عزة الدين وكرامته.

أفظع ما في الأمر هو انتشار هذه المصائب والكوارث التي تمسّ الدين وتؤثّر في المسلمين بشكلٍ أو بآخر.. فلم تعد الأسرة تقوم على أسسٍ متينةٍ، وفقدَت دورُ العبادة وظيفَتها، واستولت المفاهيم الوضعية والمادية على المدرسة، وتلوّثت الشوارع بتمامها، وغدا الناس فيها بعيدين عن الدين أو راحوا ضحّيةً للمظاهر والشكليّات.. واختفى من القلوب الخوف من الله، وبدأ الناس يعيشون وكأنه لا وجود للآخرة، وانتشرت بين الأجيال الشابة تيارات فكرية ضالة مثل: الربوبية والإلحاد واللاأدرية أو الأغنوستية، وأُبعِد الناس عن ربهم سبحانه وتعالى ونبيهم صلى الله عليه وسلم تحت مسميات؛ الرجعية والتطرّف والتعصّب.. فكلّ واحدةٍ من هؤلاء بمثابة مصيبة في الدين.

وهذه المصائب التي تضرّ بالدين تؤدي أيضًا إلى بعض المصائب الدنيوية؛ لأنه في مثل هذه الحالة ينتشر الخطف واللصوصيّة والسرقة والفساد والبذاءة بين كل طبقات المجتمع، والذين يمسكون بزمام الأمور ينهبون مال الأمة، ويتعيّشون على حساب المجتمع، والمسؤولون المفترض أنهم مكلفون بالحفاظ على أرواح الناس وأعراضهم وأموالهم يصبحون بالعكس تهديدًا لهم، ويحتدم النزاع بين الناس بسبب تأييد كلِّ طرف للأيديولوجية التي يتبناها، ويظهر الانحلال والتفسخ في المجتمع، ويوصَم الدعاة والمتدينون بالرجعية، ويُتّهمون بالتخلّف، ويتعرّضون لشتى أنواع الظلم والقمع والاضطهاد.

وقد شبه بديع الزمان سعيد النورسي المصائب والكوارث التي تتسلّط على الدين بالدود الذي يتسلّط على الشجرة، فينخرها من جذورها ويحولها إلى شجرةٍ يابسةٍ، وعندها لا تتحمل بنية المجتمع، لأنها ترى أنّ من يمصّ دمها ويقطع عروقها صديقٌ لا عدوّ.. وهؤلاء المنافقون والمراؤون يتنكّرون في زيّكم، ويتظاهرون بأنهم منكم، وفي الخفاء ينخرون الأرض من تحت أقدامكم، ينوّمون الشعب تنويمًا مغناطيسيًّا، ويوجّهون الرأي العام، ويؤثرون في أفكار الشعب بكلامهم وكتاباتهم، فيُظهِرون الأبيضَ أسود، والأسودَ أبيض، ويلجؤون إلى كل الحيل والمؤامرات التي لا يتصورها حتى الشيطان الرجيم من أجل الوصول إلى أهدافهم الخبيثة، وبالتالي يؤججون فتيل التوتر والنزاع داخل المجتمع على الدوام، ويصمتون أمام الظلم الذي يتعرّض له الآخرون طالما أنه لا يمسّ مصالحهم، ولكن على الجانب الآخر يطيش صوابهم ويثور غضبهم وكأن طوفان نوحٍ قد أصابهم عند أبسط المسائل؛ من أجل ترسيخ التصوّر الذي يريدونه في الأذهان.

لما تسلّط البلاء على سيدنا أيوب عليه السلام نادى ربه قائلًا: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ (سورة الأَنْبِيَاءِ: 21/83)، ولما سقط يونس عليه السلام في بطن الحوت نادى في الظلمات قائلًا: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ (سورة الأَنْبِيَاءِ: 21/87).

فكلا البلاءين اللذين تسلطا على سيدنا أيوب وسيدنا يونس عليهما السلام بمنزلة مصيبةٍ دنيويةٍ من جهةٍ ما، ويحملان تهديدًا لحياتهما الدنيوية، فإذا كانت المصيبة الدنيوية تستدعي هذا القدر من الدعاء فالأولى هو أن نكثر من الدعاء ليل نهار أمام المصائب الدينية، وأن نضع جباهنا على الأرض ملحِّين في التوسّل والتضرّع وكأن هذه المصيبة تمزّق نياط قلوبنا.

ومن الصعب للغاية التعامل مع المصائب التي تمسّ الدين بالعبقرية الفردية والحصافة والإدارة، وفي هذا السياق لا بدّ من الالتجاء إلى الله عز وجل، وإثبات الجدارة بالعبودية، فإذا ضعفت صلة المسلمين بربهم، وانحرفوا عن منهج نبيهم صلى الله عليه وسلم غُلبوا بضعفهم وعجزهم لا بقوّة ومقدرة عدوّهم، وحتى وإن بدا العدو أمامهم ذبابة فهم معرّضون للهزيمة أيضًا، لكن إن كانت صلتهم بربهم قويّةً فلن يجعلهم الله طعمةً لأعدائهم أبدًا.

الحساسيّة تجاه مصيبة الدين

ماذا عسانا أن نفعل إذا لم نكن نتمتّع بالقدر الكافي من الحساسية تجاه المصائب التي تمسّ الدين! فلم نعد نهتمّ بمشاكل المسلمين، أو نتألّم لآلامهم.. فلا ندري تحت أيِّ نوعٍ من أنواع الاختبار والابتلاء تندرج هذه المصيبة؟! إننا بحاجة ماسّة إلى ترميمٍ وتأهيلٍ حقيقي في هذه المسألة، فيجب تدريب الناس على ما هو مهمّ وما هو غير مهمّ، وتوجيه الأرواح مرة أخرى إلى أهمية الإيمان، ولا بدّ من مذاكرة هذا الموضوع على الدوام حيثما حللنا وارتحلنا، وعلينا أن نشرحَ للناس كيف أن الجنة والنار ليستا بالمواضع التي يُستخف بها، وكيف أن البعد عن الله يُحوِّل الحياة إلى سجن كبير، وكيف أن الانحراف عن منهج سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوقنا إلى الضلال.

فمع الأسف افتقرَ المسلمون في العصور الأخيرة إلى الوعي بحجم المصائب التي حلّت بهم رغم كثرتها وتواليها وراء بعضها، لقد أصبحنا أمّةً غافلةً مستهتِرةً، حتى الناصحون لنا لا يختلفون عنا، فهم أيضًا يعيشون في غفلةٍ كبيرةٍ، لم نعد نعرف قدر الإيمان وقيمته، فلا نقلق بشأن إيمان الآخرين كما لا نقلق بشأن إيماننا.. إنني حتى اليوم لم أصادف إنسانًا يقول: يا إلهي! ها أنا ذا بين يديك، دعني أكنْ ذبيحة لك، خذ حياتي خمسين مرة، لكن أرجوك لا تسمح لنا بأن نضيّع ذرّة من إيماننا! ولا أرى الانفعال الذي أودّ أن أراه في المؤمن عندما يقابل مصيبة تمسّ الدين، كم منا صلى صلاته وكأنه يعرج من خلالها إلى السماوات العلى؟! وكم منا عمّق أوقاته الفارغة بالتفكر؟! وكم منا سطعت المعاني العلوية في سمعه وبصره وكلامه؟!

نستنتج من ذلك أننا أصبحنا لا نهتمّ كثيرًا بالقضايا الدينية، ولا نثق تمامًا بالقيم التي نتظاهر بأننا متمسكون بها، بينما كان الصحابة رضوان الله عليهم يخافون النفاق على أنفسهم ويخشون الموت على غير إيمان، إننا إذا أغرقنا أنفسنا في التطورات الراهنة، واستولت على عقولنا الأوهام والشبهات، وأهدرنا أوقاتنا في النميمة والثرثرة؛ أصبحنا دون وعي غرباءَ على قضايانا الخاصة وقيمنا الذاتية، فلا نستطيع أن ندرك المصائب التي تمسّ ديننا، ونفقد حساسيتنا في هذه المسألة، ولا نفكر حتى في مشاكل العالم الإسلامي، ولا في حياتنا الأخروية وسعادتنا الأبدية، ناهيك عن التفكير في إنقاذ إيمان الآخرين.

ولهذا لزام علينا وعلى السائرين في المسارات القائمة على الدعوة إلى الإيمان بحسب المهنة التي يمتهنونها؛ أن ننتفض بقوّة، وأن نرجع إلى ذاتيّتنا، وأن نتحلّى بمزيدٍ من الحساسية في هذه الأمور، إننا إذا لم نحقِّق في أنفسنا عُشرَ المستوى المطلوب من الإيمان؛ فليس لدينا الكثير لنقوله للآخرين، فلو أن العلوم التي نحصّلها والكتب التي نقرؤها لا تثير الانفعال في قلوبنا ولا تنبّهنا إلى الحقائق الإيمانية؛ فهذا يعني أنه لا فائدة منها، فتبًّا لذلك العلم وتلك الكتب التي تغرس فينا الأنانية، وتضخّم من نرجسيّتنا، وتدفعنا إلى الثرثرة يمنة ويسرة، وتقودنا إلى التحذلق والغوغائية!

قد ينشأ عند من كانوا متمسكين بدعوتهم في فترةِ شبابهم نوعٌ من الانحلال والانهيار بعد سنٍّ معينة، ولا شكّ أن الله تعالى يوفّق الذين يعيشون على وعيٍ بالوظيفة والمسؤولية الملقاة على عاتقهم ولا يتشوّفون إلى أجورٍ مادية أو معنوية، ولكن مع تقدّم السن والأقدميّة يبدأ البعد عن روح الأمر وجوهره، وتبهت الألوان، وتنمحي الزخارف.. وبدهي أنه لا يمكن التقدّم إلى أيّ مستوى على أيدي المهترئين الخاوين روحيًّا.

إنني لا أقصد من ذلك تثبيط الهمم، لكني أرى أن ثمة أمرًا مهمًّا ينبغي ألا نغفل عنه؛ وهو ضرورة أن نراجع أنفسنا من جديد، بل لا بد من ذلك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] سنن الترمذي، الدعوات، 80.

[2] بديع الزمان سعيد النورسي: اللمعات، اللمعة الثانية، ص 15.