لقد أنعم الله على الخدمة منذ بداية الأمر بانفِتاحاتٍ عظيمة لم نكن نتخيلها وبجمالياتٍ وألطافٍ جليلة لا تخطر على بالنا.. وأهل الدنيا يصفون مثل هذه الأشياء بالمعجزة، أما نحن فيمكننا أن نسميها بـ”كرامة الخدمة” حتى لا يتعارض ذلك مع معايير الشرع، والأوْلَى أن نستخدم تعبير “الإكرام الإلهي”، وأيًّا كان الاسم فلا مراء في أنها أمور غير عادية، فليس بإمكاننا تفسير النعم الجمّة التي حظينا بها بعقولنا القاصرة وجهودنا المحدودة.. لقد هيّأ الله تعالى الفرصة لرجال الخدمة لاستغلال الوضع الراهن بشكلٍ جيّد؛ فهرع إلى مساعدتهم أناسٌ لم يكونوا قط في الحسبان، فلم نكن على دراية جيّدة حتى بواحد بالمائة من الخطط والمشاريع الضخمة التي تقوم بها الخدمة حول العالم، أما جميع التطورات التي حدثت تباعًا فيما بعد فكأنها كانت جزءًا من خطة كلية لله سبحانه وتعالى.
كنا نسير في خدماتنا في أول الأمر مثل سير النملة، لكن جاء يومٌ وشرعنا نركض كالفرس العربي الأصيل، لم نصل إلى هذه الأيام بفطنتنا ودرايتنا وفراستنا، ولا قِبَلَ لنا بتفسير هذا الأمر بحديث هذا أو ذاك، ولا بكتابته، ولا بمهارته الإدارية، ولا بغير ذلك.. فالذي وجَّهنا إلى هذا السبيل، وحمَّلنا هذه المسؤوليات الضخمة، واستخدمنا كعناصر للخدمة إنما هو الله سبحانه وتعالى، لقد أنعم ربنا سبحانه وتعالى علينا بألطافٍ لا تُحدّ، وأسبغ علينا نعمًا لا تُحصى، ليس لنا الادّعاء باستحقاقها، أما ادّعاء الإنسان أنه قد أنجز هذه الخدمات بحوله وقوته؛ فهو ادّعاء كبير وكأنه يقول: “لقد استطعتُ أن أدكّ جبل إفريست”، ومَنْ يساهم بنسبة ضئيلة جدًّا في هذه الخدمات، ثم يدعي مثل هذه الادعاءات الكبيرة فقد وقع في الوقاحة، فلا بد أن نتحلّى بالحذر والإنصاف عند تقييم الخدمات المحقّقة حتى الآن.
السابق ضمانٌ للّاحق
ونحن لا ندري ماذا سيهبنا الله بعد ذلك، ولكن ما نعلمه هو أن ما وهبنا إياه في السابق هو أعظم ضمانٍ لما سيهبنا لاحقًا، فإننا اعتمادًا على الله وثقةً فيه نوقن أنه لن يضيّع مساعينا وإن كانت ضئيلة، ونتطلّع إلى المستقبل بأملٍ ورجاء، المهم هو أن نصدقَ الوعد، ولا نتخلّى عن وفائنا وولائنا، ولا نفقدَ صدقنا وإخلاصنا، ولا ننسبَ إلى أنفسنا فضلًا بسبب تقدّمنا في العمر أو تقادم عهدنا في الخدمة، ولا ننشغلَ بالمقام والمنصب، ولا نقطعَ ألطاف الله بنسبة النعم إلى أنفسنا، ولنفكرْ في الخدمة فقط.. لنفعل الخير ونلقِه في البحر، ولا نفكر في استعادته مجددًا، فالله تعالى -على كل حال- مطّلعٌ ورقيبٌ على كل شيء.. وإذا كان الله تعالى قد أوقف تأييده وإعانته لنا على احتسابنا الأجر عنده، وعلى محونا وتواضعنا وفقرنا وعجزنا؛ فما يقع على عاتقنا هو بلوغ هذا المستوى، والحفاظ عليه.
فإذا حافظنا على هذا المستوى فمن يدري فربما يأتي يومٌ ويشهد العالم تطورات عظيمة، وعندما يحين الأوان يكلف الله الأرواح المتفانية أعمالًا تنشأ عنها جماليات تَدهَش لها عقولُنا وتحار لها ألبابُنا كما جاء في آخر سورة الفتح[1]، فتتفتق البذور التي ألقيناها عن براعم تنمو وتشتد لتصبح فروعًا وأغصانًا تحمل ثمارًا يذهَل لها ويعجَب من شأنها حتى مَن نثروا هذه البذور في التربة، أما الظالمون الجاحدون الذين فقدوا القدرة على الإيمان بقلوبهم، وجُبلت نفوسهم على عداوة كل الفعاليات الجميلة التي تصب في صالح الإنسانية فسيتميزون غيظًا أمام هذا المنظر، وتخفق قلوبهم حقدًا لعدم تمكنهم من عرقلة هذه الجماليات رغم كل مساعيهم.
نريد أن نحتضن الجميع في عالم المستقبل، ونبني جسور الحوار بين الناس، ونعزّز لديهم شعور المشاركة، وننشئ جوًّا من السلام والتسامح، نريد ذلك لكن لا ننسَى أن هذه ليست أعمالًا يمكن إنجازها بالجيوش القوية، والمنظمات العظيمة، فكل ما في الكون يجري بقدرة الله وإرادته، من جانبٍ آخر فجميعنا بشرٌ عاديون، لا نطلب نسبةَ ذلك إلينا، ولا ندّعي أحقّيّتنا في أيِّ شيء، سندُنا الوحيد هو إدراكُنا لعجزنا وفقرنا.
إننا نؤمن بأن الله تعالى يستخلص أحيانًا نتائج عظيمة من أشياء صغيرة للغاية لإظهار عظمته، ودلائلُ ذلك كثيرةٌ في الحياة الاجتماعية كما في الأحداث الطبيعية؛ وبما أن الله سبحانه هو الذي خلق الأكوان العظيمة من جزيئات صغيرة وشقَّ الصخور الصلبة بجذور الفسائلِ الضعيفة والناعمة فقد يكلّف شخصًا بسيطًا بعملٍ تستفيد منه جميع الخلائق، مثل تلك الجماليات المذهلة التي أجراها الله على أيدينا رغم همتنا القاصرة وجهودنا المحدودة.
مرض حب الظهور
أنوّه مرّة أخرى أن كلَّ هذه أمور تحدث بتوجيهٍ وسَوقٍ من الله، فيجب أن نعلم أنها من المنعِم الحقيقي سبحانه وتعالى، وأن نعتبر كلّ نعمةٍ من هذه النعم هي هبة إلهية، وننظر إلى المسألة على أنها سَوقٌ إلهي، وندفع بظهر أيدينا كل الأفكار التي تبعدنا عن التوحيد وتفصلنا عن الله تعالى، وخلاف ذلك نكون قد أظهرنا أنفسنا عن قصد أو بغير قصد، وعزونا كل الجماليات إلى عقولنا القاصرة وقابلياتنا الضعيفة، ونجاحاتنا الذاتية، وإظهار النفس قد يكون بأفعالنا أو بأقوالنا أو بإيماءاتنا، أو بأن نضع أنفسنا في قلب كل شيء، ونتحين الفرص دائمًا لتقديم مثال أو اثنين للأعمال التي قمنا بها، ونحاول أن ننسب كل ما تحقق إلى أنفسنا.
فمثلًا لو كان الحديث يدور حول الخدمة، ثم وصل الكلام إلى الأعمال المتعلقة بمجالنا فإننا نرفع رؤوسنا ونستشرف، ونحاول جذب الأنظار إلينا، بل إننا أحيانًا نلجأ إلى سبلٍ أكثر دهاء من أجل إبراز أنفسنا، حتى نلفت الأنظار إلى الساحة التي نعمل فيها، و-على أي حال- الحاضرون على علم بمن قام بهذه الأعمال، ومن ثَمّ يكون معروفًا من الذي سيتوجه إليه التقدير والثناء، وهذه ألعوبة أخرى من ألاعيب الشيطان، ولا جرم أن الانسياق وراء الشيطان وألاعيبِه يتسبّب في انقطاع النعم.
إن محاولة إبراز الذات، والظهور في المقدمة، والتطلع إلى المدح والثناء؛ كلها نقاطُ ضعفٍ في الطبيعة البشرية، فالنفس ترغب دومًا في أن تنسب إلى نفسها حظًّا من كلٍّ جميلٍ قائلة: “لتلهج الألسنة بالحقّ والحقيقة، ولكن لا أُنْسَ أنا أيضًا من هذا الذكر!”، بل إنها ترغب في إبراز ذاتها عند كتابة مقالٍ من سطرين في مجلة ما، أو كتابة عمود في جريدة ما، أو عند إتاحة الفرصة لها للإدلاء بحديث في التلفزيون من بضع كلمات، وقد يزين الشيطان للإنسان هذه الأعمال التي تستهويها النفس، فيجعل الإنسانَ يقول: “أنا أعرف أيضًا بعض الأشياء، فلم لا أتكلم عن هذه الخدمات، ولمَ لا أكون نافعًا للناس! وعلى هذا لا بدّ من إتاحة الفرصة لي، وتهيئة الجو، وإفساح الطريق أمامي، أليس كذلك؟!” فيتسلّل حبّ الظهور والتطلّع للمدح إليه كما يتسلّل الفيروس القاتل إلى الجسم.
ويظهر مرضُ إبرازِ الذات عند الناس خاصّة مع تقادم الزمن، ويمكن أن نسمي هذا نوعًا من أمراض الشيخوخة، وهذا مرضٌ يصعب التخلص منه، وإن كان لا بدّ فيجب استيفاء الإرادة حقّها، ويجب على الإنسان أن يتمرّد على كلّ فكرةٍ تصبّ في مصلحته الشخصية، وأن يعوّد نفسه على رفض كلّ ادعاء تنسبه النفس إليه مثل: “أنا فعلت، أنا أنجزت، أنا نجحت”، وأن ينزل بالمطرقة على رأس كلّ ما يوحي بالأنانية، وأن ينسب كلّ شيءٍ إلى الله عز وجل، وعليه أن يتغلّب بشكلٍ أو بآخر على أيّ لغوٍ يبرز نجاحاته، حتى وإن كان بطريق غير مباشر أو بالإشارة والتلميح.
مجاهدة النفس
إذا لم يستطع الإنسان تزكية نفسه، والوصول بها إلى التوحيد الحقيقي، والاستسلام حقًّا لله تعالى فقد تختلط بأفكاره وساوس النفس والشيطان، وعليه أن يعتبر كلّ ما يجري حتى اللحظة التي يتجرّد فيها من الحيوانية ويتخلى فيها عن الجسمانية سَوقًا إلهيًّا، وأن ينسلخ بنفسه عن الأمر، وأن يقمع بإرادته وساوسَ نفسه.
إننا نؤمن أن كلَّ الجماليات من الله، وحتى وإن كنا نحن مَن نلمس مفاتيح البيانو؛ فإن الذي أعطى القدرة على العزف والحركة، ووجَّهَنا إلى هذا الطريق، وأصدر الصوت على أيدينا إنما هو الله -مسبّب الأسباب- تعالى، ومع ذلك قد لا يكون من السهل على الشخص أن يفهم ويشعر ويسمع كل ذلك في البداية، ولكن من الأهمية بمكان أن يقهر الإنسان إرادته حتى اللحظة التي يصل فيها إلى هذا الشعور، وأن يُرجع كلَّ أمرٍ إلى الله عز وجل، فإن الإنسان لو مرّن نفسَه على ربطِ كل مسألةٍ بالله تعالى، وجعلَ هذا الأمر طبيعةً وعادةً في نفسه؛ فسيشعر بالاشمئزاز لو أن أحدًا نسب إليه هذا الأمر أو ذاك، ناهيك عن فعل ذلك بنفسه.
أما تجاوز كل هذا، والتغلب على كل حيل النفس وألاعيبها فيعتمد على عمق الصلة بالله تعالى؛ لأن مَن يصل إلى هذا العمق فسيرى كل ما يجري في عالم الأحداث على أنه عبارة عن مظاهر للأسماء الإلهية، أما من وصل إلى أبعد من ذلك في هذا الأمر فيقول: “إن كل هذا عبارة عن تجليات للصفات السبحانية”، والخطوة التالية لذلك هو محو وتلاشي الأسماء والصفات من الذاكرة، والنظر إلى كل ما يحدث في العالم المادي على أنه مما يقتضيه شأنُ ومقام الربوبية، ولكن ليس من السهل الوصول إلى هذا الأفق، فهذا الأمر يتطلب مجادلة ومجاهدة صارمة مع النفس.
وهكذا يجب على الإنسان أن يُجهد نفسه ويجاهدها حتى يفوز بالإخلاص والتوحيد الحقيقي في هذه المسألة، وربما يجب عليه أحيانًا أن يغضّ الطرف عما يتحقق ويترتب على إرادته، فلا ينبغي له أن يضيّع النعمة ويجفّف منابعها بنسبتها إلى غيرها، بل ينسبها إلى صاحبها الحقيقي، ويتوجه بالحمد والشكر إليه؛ حتى تدوم النعم ولا تنقطع، ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾ (سورة إِبْرَاهِيمَ: 14/7).. وهذا يشبه “بئر زمزم” فكلما أخذتَ منه زاد تدفقًا، ولا ينضب هذا المعين حتى وإن شرب منه الملايين ورووا ظمأهم، وكيف يجفّ وهو يجري بأمرِ مَن لا تنفد خزائنه سبحانه وتعالى!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ﴿وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾ (سورة الفَتْحِ: 48/29).