سؤال: هلا تفضلتم بشرح موضوع “الحديث عن النفس”، الذي غالبًا ما تؤكّدون عليه في حلقات الدرس؟
الجواب: أولًا، علينا أن نحدّد ما الذي نقصده بالحديث عن النفس.. إننا عندما نقول: “الحديث عن النفس”، نقصد إظهار الإنسان نفسه، وإبرازها في المقدمة، وتطويعه الكلام بحيث يجعله ينسحب على نفسه، ومحاولته إظهار نفسه في أعين الناس ليس فقط بالكلام، ولكن بأطواره وأفعاله أيضًا، ونعُدُّ هذا عيبًا وقصورًا أخلاقيًّا.. هذه هي المشكلة التي نحاول تحذير الناس منها فقط، لأن التعبير عن النفس ليس مرفوضًا في كل موقف.
فعلى سبيل المثال؛ تعبيرُ الإنسان عن نفسه في حضرة الله من خلال العبادة والعبودية أمرٌ مقبول، ذلك أن كلَّ إنسان، بالنظر إلى تجهيزاته الداخلية والخارجية، هو أثرٌ فنيٌّ رائع يحمل نقوشًا وآثارًا خاصّة بصانعه، وعلى حدّ تعبير الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي، يمكن النظر إلى الإنسان على أنه فهرست الوجود وجوهره.
وبتدقيق النظر: يتبين أن الإنسان يتمتّع بطبيعةٍ مثاليةٍ بعقله ومنطقه وروحه وقلبه وإرادته وضميره ووعيه، وقد جعله الله تعالى بمثابة أَثَرٍ ينبض بالحياة والإحساس، فهو كائنٌ يسمع ويشعر ويدرك أيضًا ما يسمعه ويشعر به؛ لذا يجب على الإنسان المتمتع بهذا التجهيز الرائع أن يعلم أن كل هذه النعم والسجايا تأتي من الله تعالى، فيحمده ويشكره تعالى كلما فكر في أيٍّ من هذه المميزات، ويقول أمام عظمة الله ومهابته: “سبحان الله والله أكبر”.. فتعبير الإنسان عن نفسه من خلال العبودية له تعالى ضرورة من ضرورات العبودية.. والحقيقةُ أن مثل هذا التصرُّف، هو تعبير عن إدراك المرء لوضعه، ودليل على عزوه كل ما لديه لمالكه الحقيقي، وإعلانٌ عن العلاقة بينه وبين الذات الإلهية.
أما بالنسبة للتعبير عن النفس، والذي نعتبره مرفوضًا ونحاول أن ننأى بأنفسنا عنه ونحذّر الآخرين منه في كلّ فرصةٍ، فهو محاولة الإنسان أن يكون في المقدمة، وأن يكسب تقدير الآخرين وإعجابهم بأخلاقه ومكانته ومواقفه وأفعاله وأفكاره وآرائه، بل وحتى بعبادته وطاعته.. وإنَّ إظهار الفضائل والمزايا أمام الآخرين والافتخارَ بها، لهو دليل على إنكار المصدر الحقيقي لتلك الفضائل ونسبتها إلى النفس البشرية، ويمكن القول: إن مثل هذا الشخص قد اغتصب -عمدًا أو جهلًا- ما هو حقّ لله تعالى.
إن الباحثين عن التقدير والتصفيق، يحاولون التعبير عن أنفسهم بطرقٍ مختلِفةٍ، ويتوهّمون عظمة أنفسهم، ويستخدمون كل الوسائل لإظهار أنفسهم والإعلان عنها، ويُطوِّعون اللقاءات للحديث عن أنفسهم في كلّ فرصة.. وعندما يتحدثون أو يكتبون؛ فإنهم يبحثون عن مدخل للحديث عن أنفسهم ويجدونه بطريقة ما، ويلفتون الانتباه إلى مزاياهم الخاصّة إن لم يكن ذلك بشكلٍ مباشِرٍ فمن خلال التلميحات والإشارات، فإن كانوا سيرسمون لوحةً، انشغلوا بفكرة: “لأرسمنّ لوحةً، ليرى الناس كيف يكون الرسم!”، وإن كتبوا مقالًا أيضًا، انشغلوا بفكرة: “إنه عملٌ رائع، ويجب الاطلاع عليه وقراءته والإعجاب به”، حتى إنهم لا يتقبّلون من ينتقد المقال سلبًا، ويحاولون حتى أثناء كتابة الاسم المبارك والمتعال للذّات الإلهية، أن يضعوا علامة تشير إلى أنفسهم، وإذا كانوا سيصعدون المنبر ويتحدّثون عن الله، يكون جلُّ اهتمامهم أن يُظهروا للحاضرين كيف تحدّثوا عنه بشكلٍ جيّد، حتى إن صياحهم وعلوَّ نبرةِ صوتهم وضربَهم على المنبر بأيديهم يُعزى إلى رغبتهم في التعبير عن أنفسهم.. وبالإضافة إلى التعبير عن أنفسهم شفهيًّا وكتابيًّا، يمكنهم أيضًا من خلال أنماط حياتهم، والسيارات التي يستخدمونها، والمنازل التي يعيشون فيها، والمتاع الذي يستخدمونه.. وإذ يفعلون ذلك لا يغفلون عن العثور على ستارٍ لكبرهم وريائهم، فيتصنّعون التواضع أحيانًا، وأحيانًا أخرى يحاولون إخفاء أمراضهم الداخلية بترديدهم عبارة: “أستغفر الله”!
يريد المرضى الذين يعانون من هذا المرض النفسي أن يتحدّث الآخرون عنهم، تمامًا مثلما هم يتحدّثون دائمًا عن أنفسهم بكلامهم ومواقفهم وسلوكيّاتهم وأنماط حياتهم، هذه النفوس المريضة التي لا تكتفي للتعبير عن نفسها بنفسها، ترغب دائمًا في أن يكون بجانبها أناسٌ بمثابة أبواق لها، ويتحدثون عنها باستمرار، بل إنهم يؤسّسون مؤسّسات لذلك طالما كانت ظروفهم تسمح.. وإذا لم يُذكَروا في اللقاءات والخطابات أو في المقالات المكتوبة أو في الكتب والمؤلَّفات فلا أهمية لأيٍّ من هذه الأعمال بالنسبة لهم.
إن المصابين بهذه العلّة هم مساكين حسودون وحقودون، إنهم ينزعجون للغاية عندما يجري الحديث عن فضائل غيرهم، وحتى وإن اجتمعوا مع المشارب والشخصيات الأخرى، وتبادلوا عبارات التقدير؛ فإنهم يحفرون لهم الحفر سرًّا، ويبذلون قصارى جهدهم للإطاحة بهم، وينشغل هؤلاء الأشخاص دائمًا بعيوب الآخرين وأخطائهم تعبيرًا عن عظمة أنفسهم.. إنهم يحفرون الحفر فيما حولهم باستمرار؛ حتى يُرَوا في مقام رفيع.. كلّ هذه أمورٌ تؤدّي بالإنسان إلى الخسران، وتسوقه إلى المهالك والمخاطر، ويمكنكم أن تعثروا عند هذه النوعية من الأشخاص على الرذائل ومساوئ الأخلاق كلها.
والحال أن كل ما يفتخر به الإنسان ويستخدمه في سياق الحديث عن نفسه هو من عند الله، وسواء أكان الشخص يعمل في مهنةٍ، أو صاحب علم وحكمة، أو يقتني متاعًا وممتلكات، أو يمتلك مهارات مختلفة، فكلّ هذه الأشياء تتحقّق نتيجة استخدام القدرات التي منحها الله للإنسان وتهيئته تعالى السبيل له، ناهيك عن أن مدى استخدام هذه الأشياء والاستفادة منها بشكلٍ مناسبٍ أمرٌ غير مستثنى من المساءلة. أجل، إن عَزْوَ الإنسان المواهبَ الآتية من الله إلى نفسه متناسيًا إياه سبحانه وتعالى، وتعبيره عن نفسه بواسطتها اغتصابٌ للحقّ.
وواجب الإنسان في هذه الحالة هو أن يستغلّ كل المواهب والقدرات التي منحها له ربه في الحديث عن الله لا عن نفسه، يجب أن ينبعث من صوته وكلامه ونظراته ومواقفه المعاني المتعلقة بالله القدير دائمًا، وأن تتدفّق من كلماته معرفة الله ومحبته تعالى، ينبغي لمن يستمعون إليه أن تقوى علاقتهم بالله، ويزداد شوقهم وحبُّهم له، وتُثار حماستهم، يجب أن يكون كل حديثه مناجاة وتوحيدًا وتضرّعًا.
إن تخلُّصَ الإنسان من آفة الحديث عن النفس مرهونٌ بأن يغرس في طبيعته الأخلاق الإسلامية بشكلٍ عام، والتواضعَ والنزاهة بشكلٍ خاصّ، وبعبارة أخرى غالبًا ما نكرّرها: “تصفيره نفسه” أي جعله نفسه صفرًا، وهذا مستوى يمكن تحقيقه من خلال تربية للنفس طويلة المدى، وحتى ولو لم يستطع الإنسان أن يجعل التواضع والاستقامة جزءًا من طبيعته، فيجب عليه أن يُجبر نفسه في هذا الصدد.. وكما أن الحديث عن النفس فعلٌ إرادي، فإن منع هذا يعتمد أيضًا على الإرادة، فالأشياء الإرادية يمكن منعها بالإرادة أيضًا، وهذه الأشياء تصبح جزءًا من طبيعة الإنسان بعد فترةٍ من الزمن من خلال التمرين عليها، ولكن يجب على المرء استخدام إرادته باستمرارٍ في هذا الاتجاه إلى أن تحين تلك اللحظة.
وعلى المؤمن الحقّ أن يدفن في الأرض كلَّ موقفٍ يمكن اعتباره “حديثًا عن النفس”، ويضع عليه حجارةً ثقيلةً حتى لا يتمرّد من جديد، ويمكن القول: إن هذا هو هدف التصوّف في الأساس؛ فقد كانت الزوايا والتكايا تقدِّمُ مثل هذه التربية الرائعة.. وما هدف الابتلاءات والرياضات والسير والسلوك الروحاني إلّا التزين بالأخلاق الحميدة عبر التخلص من المواقف التي تفوح منها رائحة النفس والأنانية، وتعرُّفُ الناس على الله تعالى تعرُّفًا جيّدًا للغاية عن طريق اتباع أدلة وشواهد معرفة الله، ثمّ انفتاحُهُم على محبة الله.. ومن ثَمَّ يدركون أن كلَّ شيءٍ منه تعالى، ويدركون عظمته عز وجل وصغرَهم أمامه تعالى.
ومن المؤسف أن الناس في يومنا الحاضر لا يتلقّون مثل هذه التربية الروحية، كما لم يتسنّ إخضاع النفوس لتزكية حقيقية، وتعذَّرَ تطهير القلوب؛ لذلك تأتي الأنانيات في المقدمة، ويبحث الكثيرون عن فرصةٍ للحديث عن أنفسهم وسحب الكلام إلى أنفسهم، حتى إن هذا صار طبيعةً لدى البعض، ومنْ لا يستطيعون كبح جماح أنفسهم بإلجامها وإسراجها وجعلها خاضعةً مطيعةً يتحدّثون دائمًا عنها.. ولأن الحبل أُطلق لها على غاربه، فقد صار بإمكانها أن تثور وتتمرّد بسهولةٍ وتتحرّك كما يحلو لها، وأصبح الكثيرون مطيةً لنفوسهم، ينسحقون تحتها.
وخاصة إذا كانت البيئة التي نشأ فيها الإنسان مواتيةً لذلك؛ أي إذا رأى منْ في هذه البيئة أنفسهم “أحفاد عِرق يصنع الأبطال”، وكانوا ينسجون باستمرارٍ ملاحم بطولية للأمة التي ينتمون إليها وينظرون إلى غيرهم باحتقار؛ فهذا يعني أن آفة الحديث عن النفس ستنتقل إلى الجميع في مثل هذه البيئة، وسيتأثر الناس بهذا الجوّ السلبي حتى وإن لم يدركوا ذلك، بل إن كون المرء منتميًا إلى مذهبٍ أو جماعةٍ أو مؤسّسةٍ أو مهنةٍ أو جامعةٍ ما في دائرة ضيقة يمكن أن يجعله هو وَمَن معه من الناس يرون أنفسهم مختلفين ومتفوقين، ويُضخِّم أنانيتهم، ومن ثم يتحدّثون عن تفوّقهم ومزاياهم في كلّ فرصةٍ، وأحيانًا يتعاظم هذا الفخر والأنانية لدرجة أن أفراد دولةٍ بأكملها، أو أمّةٍ أو مجتمع يمكن أن يصابوا بجنون العظمة، بيد أنه لا أحد يفطن إلى خطورة ما هم فيه؛ إذ يكون الجميع مبتلين بالمرض نفسه.
إن رؤية المرء نفسه متفوّقًا على الآخرين، وتصديرَه نفسه في كل فرصةٍ يشير في الواقع إلى مرض في النفس، إذ يمكن للنفس أيضًا أن تمرض مثل الجسد تمامًا.. ولسوء الحظ، فإن فئة كبيرة من الناس اليوم مبتلون بالأمراض النفسية، وعلاجُ الأمراض النفسية أصعب مقارنة بالأمراض البدنية، ويتطلّب وقتًا أطول وجهدًا أكبر، وكما تلزم مراجعة المتخصصين النفسيين من أجل علاج هؤلاء، تجب أيضًا مراجعة المرشدين الكاملين الذين يعرفون الطبيعة البشرية جيدًا ويجيدون توجيهها، ومع أن الأشخاص المبتلين بالمرض نفسه قد لا يستطيعون رؤية المشكلة الموجودة لدى بعضهم البعض؛ فإن المؤمنين أصحاب الفراسة الذين ينظرون بنور الله قد يمكنهم أن يلاحظوا التصنع والتكلف والرياء والسمعة الكامنة في مواقفهم وسلوكياتهم.
والواقع أن كل إنسان خُلق قابلًا لأن تتطوّر فيه عواطف مثل الرياء والسمعة والكبرياء والفخر والحديث عن الذات.. وهذا امتحان له من ناحية، ومن ناحية أخرى فالأحاسيس التي هي مصدرٌ لهذه المشاعر منفتحةٌ على الخير والشر، والمطلوب من الإنسان أن ينتبه دائمًا للمشاعر السيئة التي قد تتكوّن بداخله، وأن يكون قادرًا على أن يقمع بإرادته ما أصابه منها، وأن يوجِّه إلى الخير كلَّ شيءٍ مفطور في طبيعته، ومن لا يستطيع أن يعطي إرادته حقّها، ويصفر نفسه بإخضاع روحه لعملية تطهير جادةٍ؛ فقد باء بالخسران.