Reader Mode

“عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ”[1]، كما أن حسناته وعباداته وطاعاته تكسبه أجرًا وثوابًا، فإنّ صبره ومثابرته في مواجهة المصاعب والمتاعب تُكسِبه أجرًا وثوابًا أيضًا، فعلى المؤمن إن أصابه مكروهٌ، أو نزلت به مصيبةٌ أو بليّةٌ تكدّره وتقضّ مضجعه أن يفكّر كيف يضخّ ثوابًا جديدًا في حوض أجره ومثوبته، وأن يسعى إلى الحصول على مرضاة الله. يقول الشاعر التركي “ضياء باشا”:

محكومٌ على كلِّ حيٍّ في هذا العالم تذوُّقُ الآلام
أروني إنسانًا عاش مرتاحًا بلا ابتلاءٍ أو أسقام

فما شَهِدَ التاريخ إنسانًا عاش دون ابتلاء، وكلٌّ يأتيه ابتلاؤه -قليلًا أو كثيرًا- حسب مستواه، ففي الحديث: “إنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءَ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ”[2]، فأحيانًا يعيش الإنسان في وفرةٍ ورغدٍ من العيش، وأحيانًا أخرى يتعرّض للشدائد والمشقّات.. وأحيانًا يسير على الطريق المستقيم في راحةٍ واطمئنان، وأحيانًا أخرى يضطرّ إلى أن يتجاوز الطرق الوعرة والمنحدَرات وأن يعبر بحارَ القيح والصديد التي تعترض سبيله.. وأحيانًا يواصل رحلته في ثقةٍ وأمان، وأحيانًا أخرى يعترض طريقَه الأعداءُ.. الحياة هكذا دواليك، ولا بدّ للإنسان أن يمضي في سبيله وهو على وعيٍ بكلّ هذا.

 فواجبُنا هو الصبرُ في مواجهة الصعوبات التي تعترضنا على طول الطريق، ومواصلةُ السير دون اكتراثٍ لهذه الصعوبات والمشقّات، فقد يواجه الإنسانُ خلال رحلته أحداثًا مفاجئةً تصدمه، فعليه حينها ألا يهتزّ أو يهلع، وليحذرْ من الانزلاق في مسبّة القدر؛ لأن مفخرة الإنسانية صلوات ربي وسلامه عليه يقول: “إنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى”[3]، وهذا يعني أن الصبر الذي يحظى بالقبول عند الله هو الصبرُ في أولى لحظاتِ وقوع المصيبة، حيثُ المشاعر في ذروة فورانها، ولم تُعرَفْ بعدُ أسبابُ الحادثة والحِكْمَةُ منها، فهنا تكمن الصعوبة؛ لأن الإنسان يمكن أن يقنع نفسه بالصبر بعد تأويله للحادث ومراجعته وتقييمه للأجر الذي سيناله نتيجة صبره، هذا أيضًا صبرٌ، ولكنه بالتأكيد لن يعادل الصبر الذي يكون عند الصدمة الأولى.

إن الصبر الذي عرّفه النبي صلى الله عليه وسلم يعود على الإنسان بثوابٍ يفوقُ ثوابَ أعظم العبادات، ويرقى به مرة واحدة إلى أعلى الكمالات وكأنه صاروخٌ انطلق لتوّه من منصّة الانطلاق، وبهذا الصبر أيضًا يجد المرءُ نفسَه في مصافِّ الملائكة الكرام، وبهذا الصبر أيضًا يرتقي الإنسان إلى أوج الكمالات الإنسانية.. وإنّ آهات المبتلين وزفرات أنفاسِ الصابرين لهي أرجى عند الله من أصدق الأدعية وأخلص أشكال التوسّل والتضرّع. يقول الشيخ “محمد لطفي أفندي”:

هل ثمة دواء أعظم من البلاء؟!
هل هناك سبب آخر للثواب والغفران؟!
هل توجد قيمة تُعادِل قيمةَ البلاء؟!
المبتلون يحبهم الرحمن

ومن ثَمّ يقع على عاتقنا أن نتوجّه إليه سبحانه متوسّلين متضرّعين أن يدفع عنا البلاء والمصائب التي نزلت بنا، وأن نعتبر كلَّ كارثةٍ تصيبنا -على الصعيد الفرديّ أو الأسريّ أو الاجتماعيّ- فرصةً للاقتراب من الله عز وجل، وأيًّا كان البلاءُ الذي نزل بنا فعلينا أن نعتبره إحسانًا بمختلف طول الموجات يرسله الله تعالى لحثِّ عباده على التوجّه إليه، فمرادُ الله تعالى من هذه البلايا أن يصل بنا إلى التوحيد الحقيقي، فنقوم الليل من أجله، ونذرف الدموع في حضرته.. إنه سبحانه يريد أن يرانا ونحن نتوجّه إليه بأنّاتنا وآهاتنا، ونتضرّع إليه سبحانه وتعالى بأدعيتنا وخشوعنا.. ولذلك من الضروري أن نحوِّل البلايا والمصائب إلى فرصةٍ للاقتراب من الله بدلًا من التذمّر منها.

ويمكن أن نفكّر على العكس من ذلك: قد تبدو بعض المكاسب الدنيوية التي نتحصّل عليها حلوةً خضرة بالنسبة إلينا، فمثلًا قد نطرب بتصفيق الناس وتقديرهم، ونستغلّ سيكولوجية الجماهير ونجرّهم وراءنا.. وقد نكون أصحاب مقامٍ وسُلطةٍ نتحكّم بهما في القوّة السياسيّة والاقتصاديّة، وننشئ من خلالهما سلطنتنا، لكن يجب أن نعلم جيّدًا أن كلّ هذا لا يَزِن عند الله جناح بعوضةٍ، فهذه كلُّها قد تكون فخاخًا وحيلًا شيطانيّة، فلو لم تستغلّوا الإمكانات والفرص المتاحة لكم في سبيل إقامة صرح روحكم فليس لكم من عملكم إلا المشقّة والتعب، وكلُّ شيءٍ لا يخدم غايتكم السامية عبثٌ وخداع.

ما هي غايتنا السامية؟ ما هي غاية حياتنا التي ينبغي ألا تغيب عن بالنا لحظةً واحدةً؟ أليست هي إعلاء كلمة الله؟! أليس تحبيبُ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إلى الناس هو الغاية التي ألقت بنا في الطرقات وشكّلَت سعينا نهارًا وآهاتنا ليلًا؟! أليست هي تحفيز القلوب على الوصال به سبحانه وتعالى عن طريق كسر الحواجز وإزالة العقبات بين الله والعباد؟! أجل، لا قيمة عند الله للسلطنات الدنيويّة ولا تعدل عنده جناح بعوضة، أما الخدمات الصغيرة التي تؤدَّى في سبيل إعلاء كلمة الله فإنها تفوقُ الجبالَ وزنًا عند الله سبحانه وتعالى.

فإن سلكتم هذا الطريق، وحصرتكم همّتكم على تحقيق هذه الغاية، وبذلتم وسعكم في هذا السبيل؛ فلن تعوقكم التعرّجات، ولن تضلّكم المنعطفات، ولن تنخدعوا بمكر الشيطان ودسائسه، ولن تغرّكم أنفسكم، ولن تستسلموا لأنانيّتكم، ولن تنهزموا أمام رغباتكم ونزواتكم، فإذا كانت حياتكم قائمةً على الغايات والمثل العليا فستكون عاقبتكم على ما حَيِيْتُمْ عليه، ثم تستقبلكم الملائكة بالتحية والترحاب قائلةً: (سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين).. فهل تفضّلون الدنيا وزينتَها وأبّهَتها أم احتفاءَ الملائكة ومباهاتها بكم؟! وهل تفضلون أن تسيروا في طريقٍ ينتهي بكم إلى قبرٍ مظلِمٍ أم في طريقٍ ينتهي بكم إلى أجواء مليئةٍ بالبهجة والسرور؟! هل تريدون أن تتبعوا خطوات الشيطان أم هديَ الحبيب صلى الله عليه وسلّم؟! يجب على الإنسان أن يحسن الاختيار منذ البداية، فينتخب الطريق الصحيح الذي يسير فيه، فإذا ما اختار طريقه أولًا فلن يكون هناك داعٍ للخوف والقلقِ من أيِّ شيءٍ.

ومعلوم لدى الجميع أن الأعداء يشعرون بعدم الارتياح لسير الناس في سبيل الله، ويبذلون قصارى جهدهم لردعهم عن الطريق الذي يسيرون فيه ويضعون لهم العصيَّ في العجلات، ويرونهم حقيقين بكلّ أذًى واضطهادٍ، ويسعون ما استطاعوا إلى الإساءة إليهم.. فما انقرضَ الظالمونَ يومًا، وكما تقول العبارة المشهورة: “إن لكل موسى فرعونًا”، فكم من فرعونٍ ونمرودٍ وقفَ أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم! وكم اضطرّ السلفُ الصالح إلى مكافحة المفسدين والظالمين! وإذا ما نظرنا إلى تضرُّعات المجدّدين العظام فيما بعد -وهم في حالة الاضطرار- فسندرك كم كان هؤلاء أيضًا يعيشون في كربٍ دائمٍ!

إن الوفاء بحقِّ دائرة الأسباب هو ما يقتضيه احترامنا لأوامر الله التكوينيّة، لكن السائرين في طريق الأنبياء لا بدّ أن يتعرَّضوا لما تعرَّضَ له أنبياؤهم من ظلمٍ وطغيانٍ، فواجبُنا بعدَ بَذْلِ الجهد أن نتحلّى بالصبر الجميل إزاء هذا كلّه. يقول الشاعر “إبراهيم تنوري”:

ما أعذب البلاء إن كان من جلالِهْ!
وما أحلى الوفاء إن كان من جمالِهْ!
فكلاهما للروح صفاء
فما أحلى لطفه! وما أعذب قهره!

وثَمَّة حكمةٌ جميلةٌ تقول: “الصبرُ هو المفتاح السرّي للوصول إلى الخلاص وتحقيق المأمول”، فمن ظفرَ بهذا المفتاح نجح في فتح العديد من الأبواب بإذن الله.

الخلاصة: قد يكون هناك غُولٌ يتربّص بنا في كل زاوية، وقد تنهال علينا المصائب والبلايا من كلِّ ناحية، وما يجدرُ بالمؤمن في هذه الحالةِ هو أن يتحلّى بالصبرِ ورباطةِ الجأش والثقة، ويتحمّل الشدائد والمشقّات، وألّا يسمح للذعر بالتسلّلِ إلى قلبه ولا ينكص على عقبيه.. وعلى الجانب الآخر فقد تُظْهِرُ الدنيا مفاتنَها وحلاوتها وخضرَتها؛ فالجديرُ بالمؤمن أن يصبرَ أيضًا على مفاتنها وألّا يتعلّق بلذائذها المؤقّتةِ الزائلة، وأن يواصل سعيه في سبيل إقامة صرح روحه.. فلا بأس في حياةِ الفقر والعَوَزِ، ولا بأسَ في الرحيل عن هذه الدنيا الفانية بلا مالٍ أو مُلْكٍ، أو أن تعترض حياتَنا الشدائدُ والصعابُ، المهمُّ هو أن نخرجَ منها غانمين فائزين.

[1] صحيح مسلم، الزهد والرقائق، 64.

[2] مسند الإمام أحمد، 45/10.

[3] صحيح البخاري، الجنائز، 32، 43؛ صحيح مسلم، الجنائز، 14، 15

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

انظر الرابط التالي: https://herkul.org/alarabi/ajr-alsabr/