إن الأذهان والأفكار اليوم ملوّثةٌ إلى حدٍّ كبير، وإنّ بعضَ من يمسكون زمام القوة في أيديهم يدبرون المؤامرات واحدة تلو الأخرى ضدَّ من يرونهم معارضين ويتصوّرونهم أعداء لهم، فلا يتورّعون عن ظلمٍ، ولا يكفّون عن قمعٍ.. أفكارهم الملوثة تنعكس على ألسنتهم وأقوالهم.. يختلقون الأكاذيب، ويثيرون الافتراءات، ويكيلون الشتائم والإهانات؛ فإذا كان لا محالة من إطلاق اسم عليهم فلنقل: “هم المجتهدون في اختلاق الأكاذيب وإثارة الافتراءات وإكالة الشتائم والإهانات”؛ وهذا ما يجعلنا نتصوّر أنهم ربما يفكرون فيها في حلّهم وترحالهم، ويُشغلون بها أذهانهم، ويعبّرون عنها بألسنتهم.
فلا الأحكام الدينية ولا القيم الأخلاقية، ولا الخوف من الآخرة، ولا المواقع والمناصب التي يتبوؤونها تمنعهم من ممارسة هذه الأفعال المشينة، فلا يكترثون بأيِّ وديان الضلالة يتيهون.. إن الذين يمثّلون الدولة من هؤلاءِ لا يستنكفون عن ذكر الكلام القبيح البذيء الذي يستحيي منه الإنسان العادي أمام الجماهير، ولا أحد يدري ما القدوة التي يمثلونها بهذه الأفعال والسلوكيات غير اللائقة؛ فالأنبياء العظام والعلماء الفخام والأولياء الكرام لم يُسمع أنه صدر عن ألسنتهم الطاهرة ولو واحدٌ في الألف من هذه الكلمات؛ رغم اضطرارهم إلى العيش في أقسى الظروف وأكثرها سوءًا.
فما أشد الأذى الذي لاقاه النبي صلى الله عليه وسلم من قومه! وما أقسى الإهانات التي تعرض لها! وما أكثر الضرر الذي ناله منهم! ورغم ذلك لم يتفوّه بكلمةٍ غير لائقة في حقّ أحدٍ، ولم يُهِنْ أحدًا، ولم يسخرْ من أحدٍ! فإن كانت معاييرنا هي نفس المعايير التي وضعها النبي صلى الله عليه وسلم، فإن ما لا يتوافق مع هذه المعايير يسمى خللًا وانعدام توازن.
ثمة أناس في أيامنا مختلّون ذهنيًّا، مضطربون وجدانيًّا، ملوّثون كلاميًّا؛ لا يمكن التنبّؤ بما يفعلون، ولا بما يقولون ويخاطِبون؛ لأنه عندما تتجرّد الأحوال والتصرّفات من الموازنة والانضباط؛ تُرتكب شتى أنواع المنكرات، لا سيما هؤلاء الذين يمسكون في أيديهم زمام القوّة والسلطة؛ فإنهم يدبرون المؤامرات، وينصبون الفخاخ والمكائد، ويرتكبون من الظلم وينتهكون من الحقوق ما إن رآهم إنسان لا يتمالك نفسه حتى يقول كما قال سيدنا أبو بكر رضي الله عنه: “مَا أَحْلَمَكَ يَا رَبَّنَا”؛ لأن ما يفعلونه شيء لا يُغتفر.
إحالة الظالمين إلى الله جل جلاله
ليفعل الظالم ما شاء، أما المظلوم فجديرٌ به -وخاصة إن كان ذا مروءةٍ وقد استوعب قيمَ الإسلام جيدًا- أن يتضرّع إلى الله قائلًا: “اللهم أصلح حال الظالمين، وارزقهم اللّين، وأرشدهم إلى الحقّ والحقيقة، ووفّقهم إلى العيش بشكلٍ إنساني، وقوِّم ضلال قلوبهم، واغفر لنا ولهم، واقهر من لا يُرجى صلاحُه منهم، اللهم إنا نفوّض إليك أمر هؤلاء المعتدين الذين يتلذّذون بالقمع والاضطهاد”، ومهما حاولنا فالأمر بيد الله، هو الذي سيحبط مؤامراتهم، ويجعل كيدهم في نحورهم، فإن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفلته، فإذا جاء حكم الله، وصدر الأمر الإلهي بمعاقبة الظالمين فلا عاصمَ لهم من أمر الله! فلطالما الأمر مفوض إليه تعالى فلا همّ ولا كرب!
والواقع أننا لسنا فقط من يعاني المآسي والآلام، فلقد عانى الكثيرون وعلى رأسهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من مثل هذه الأمور، فرغم أنه تاجُ الرؤوسِ، صاحبُ العزة والشرف، وتقف له الملائكة احترامًا وتبجيلًا؛ ؛ فقد تعرّض للكثير من الأذى والاضطهاد من قومه؛ حتى إن سيدنا أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يتساءل كيف يمهل الله هؤلاء الظالمين ولا يعاقبهم قائلًا: ما أحلمك يا ربنا! وهذا يعني أنه كان يجد صعوبة في تفسير ما يحدث، وكأنه يقول: كيف يحدث هذا لنبيٍّ جاء يرشدنا إلى الفلاح الأبدي، وينير عالمنا، ويفتح أعيننا وآذاننا على الحقائق، ويقوّي أحاسيسنا ومشاعرنا؟! وإزاء ذلك القهر والاضطهاد كان يواسي نفسه: ما أحلمك يا ربنا!
أجل، مهما كان الوضع فعلينا أن نقوم بما تقتضيه شخصيَّتُنا وطبيعتنا، فلنفوضْ أمر الظالمين إلى الله، ولنسلِّم له الأمر خاضعين لحكمته، ولا نلوِّث عالمنا القلبي والروحي بمشاعر الحقد والانتقام، ولا ندنّس ألسنتنا بالكلام السيئ، ومهما كانت الصعوبات والمشاكل التي نعيشها فلا يجب أن نتخلى عن الرفق واللين، ولا نحرم غيرنا من صدقة التبسّم، يقول الشاعر “تُوقادي زاده شكيب”: ” أبكي من داخلي وإن كنتُ أضحكُ، قلبي يئنّ ويتوجع وإن كان وجهي يتهللُ”.. فرغم أن مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم كان مهمومًا ويحمل من الأعباء أثقلَها ويتلوّى حسرةً وألـمًا؛ فما ضنّ بالابتسامة على من كانوا يتلهّفون إلى رؤية الابتسامة على وجهه.. لقد أعطى صلى الله عليه وسلم إرادته حقّها، وعرف كيف يستر الآلام التي تتأجّج في داخله، ولم يكشف عنها لمخاطبيه.
وإن قيلَ: ما سبب معاناته؟ وما الذي كان يقض مضجعه ليلًا ويزيد من همومه نهارًا؟ فالجواب هو: إن ما كان يؤرّقه هو اندفاعُ البشرية نحو الجحيم كما لو كانت عالقةً في فيضانٍ لا يمكن إيقافه، وافتقادُها الطرق المؤدية إلى الجنة، وابتعادها عن الخير والجماليات، وانفتاحها على القبائح والسيئات.. لقد كاد النبي صلى الله عليه وسلم أن يهلك نفسه حتى يعود الناسُ إلى رشدهم، لكنّه ومع ذلك كلّه لم تفارق الابتسامة وجهَه، ولم تودِّع البشاشةُ قسماتِه، كان دائمَ البِشْرِ، يمنح الأعيُنَ سرورًا، والقلوبَ انشراحًا وحبورًا.
الأرواح المهمومة
ثمة عوامل كثيرة اليوم تُغرق الإنسانَ في المآسي والمعاناة! وفي ذلك يقول الأستاذ “نجيب فاضل”: “كيف لا تهتمون أمام انقلاب القيم وتدهورها في المجتمع! وكيف لا تشعرون بالألم والمعاناة إزاء انغماس الكثيرين في الملذّات رغم ما يحدث حولهم من شدائد وأهوال وكأنه لا يوجد شيءٌ آخر في العالم!
لقد حفلَ التاريخ بشخصيّاتٍ عظيمةٍ جعلَت همَّها الأوحدَ أمّتَها؛ فعاشت مثلَ هذه المآسي والمكابدات.. وهذه هي “المكابدة النبوية”، أو ما يمكن أن نسميه بـ”المعاناة المقدسة”؛ لأن دقيقةً من مثل هذه المعاناة الداخلية إزاء الأحوال العامة للإنسانية، بل ثانيةً منها؛ تعادل يومًا مشحونًا بالعبادات.
إن التلوّيَ وانقصامَ الظهر من أجل إعانةِ الإنسانية، ورفعِ الغشاوة عن أعينها، وإرشادِها إلى الحقائق، وفتحِ آذانها، وإشعارِها بالحقّ والحقيقة؛ له قدرٌ كبيرٌ عند الله، وهذا ما دفع “سفيان بن عيينة” إلى أن يقول: “لو أن محزونًا بكى في أمّةٍ لرحم الله تعالى تلك الأمة ببكائه”[1].
إننا في حاجّة ماسّةٍ اليوم إلى هذه الأرواح المضحّية المهمومة التي تهتمّ بِهَمّ غيرها، وتدرك ما يقع في المجتمع من انهيارات وانقلابات أخلاقية، فتتألّم لما يحدث في أعماق روحها، وتتجافى جنوبها عن المضاجع، فتنهض من فراشها وتتجوّل في الدهاليز كالمجانين متسائلة: “ما هذه الحال التي آلت إليها الأمة؟ متى سينتهي هذا الهذيان؟ متى سينتهي هذا التشرذم والانفصال؟!” إنها ومع كلِّ ذلك تحافظ على ألّا تقع في ذمّ القدر.
أجل، إنها -من جهةٍ- ترى ما يجري داخل المجتمع من انكسارات، وتتألّم لها، و-من جهةٍ أخرى- لا تحيد عن أفق الرضا، ولا تضطلع بتصرّفات وسلوكيّات تذمّ القدر.. تقول دائمًا: “رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا وَرَسُولًا”، مبديةً احترامها لقدر الله؛ فهي تعلم جيّدًا أن المراد الإلهي هو الأساس في تحصيل الجماليات المنشودة، والله تعالى لا يسيّر إجراءاته الإلهية وفقًا لأهوائنا، بل يفعل ما تقتضيه سننه الكونية.
أجل، إن كل شيءٍ بأمرِ الله تعالى، وما يقع علينا نحن العباد على سبيل الشرط العادي -بعد استنفاذ الأسباب- هو: “التحسُّر، والأنين، والتلوّي، والدعاءُ إلى الله والتضرع إليه من أجل إسكات الأفواه الشريرة بالعقاب الإلهي ودحر الظالمين الجائرين”.. يقول الله تعالى: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾ (سورة النَّمْلِ: 27/62)، فإن بلغ الدعاءُ أفقَ القبول أجرى اللهُ تعالى على عباده أفضالًا مفاجئةً من حيث لم يحتسبوا، وجعل للمؤمنين الصادقين صدًى حسنًا يدوّي في كلِّ أرجاء الأرض.
حاصل القول: إن ما يقع على عاتق الأرواح السامقة التي تهتمّ بهموم الإنسانية هو أن تحصر كلَّ همّتِها وجهودِها في حلِّ المشاكل التي تعانيها البشرية وترميمِ قلاعها المتهدّمة، وفي الوقت ذاته تبث شكواها إلى الحق تعالى، وتشعر في وجدانها بالسلبيات المتشابكة التي تتخبّط فيها الإنسانية، وتتوجّه إلى الله قائلةً في أنين وأسًى: “اللهم أنت الملجأ والملاذ، فلا تكلنا إلى غيرك!”.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] القشيري: الرسالة القشيرية، 1/268.