ركز بديع الزمان سعيد النورسي على ضرورة أن تقوم العلاقة بين الذين وهبوا أنفسهم لخدمة الإيمان والقرآن على التفاني الذي يعرّفه بقوله: “أن يفنى كلٌّ في الآخر؛ أي أن ينسى كلُّ أحد مزاجَه الشخصي ومشاعرَه النفسية الخاصة، ويعيش فكرًا مع مزايا إخوانه وفضائلهم”[1]. ونقول بشيء من الإيضاح: التفاني هو أن ندرك حاجةَ بعضنا للبعض الآخر، وأن نفرح بإنجازات إخواننا، وأن نؤثرهم على أنفسنا عند اللزوم، ولا ريب أن مثل هذا الأفق يشكّل مستوًى متقدِّمًا للغاية في الأخوّة الدينية التي أمر بها الإسلام، ومن يعملون بهذه الروح تترسخ بينهم وبين إخوانهم وحدةٌ كاملة نتيجة تشابكهم وترابطهم القوي فيما بينهم.. فمَثَلُهم كمَثل الحجارة التي تشكّل القبة الواحدة، يتشابكون ويتلاحمون، ويحمي بعضُهم بعضًا من السقوط.
ويلفت القرآن الكريم أنظارنا إلى مسألة الترابط فيقول: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾ (سورة الصَّفِّ: 61/4). وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول معبّرًا عن هذا المعنى: الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كالْبُنْيانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا”[2].
أجل، إن القوة تنشأ عن مثل هذا الترابط القوي، فالذين يعملون معًا ويتعاونون فيما بينهم يحرزون نجاحات تتجاوز قواهم وقدراتهم الشخصية، أما الذين يعملون بمفردهم معتمدين على إمكاناتهم الذاتية دون اعتبار للآخرين؛ فإنهم وإن حقّقوا نجاحًا جزئيًّا فلن يُكتب لهذه النجاحات الديمومةُ والتأثيرُ على نطاق واسع، لكن إذا أضافوا قابلياتهم إلى قابليات الآخرين، ووحّدوا مواهبهم وقدراتهم مع مواهب الآخرين وقدراتهم، وتوجّهوا إلى هدفٍ واحدٍ؛ فسيقهرون الصعاب، ويعبرون الجبال الشامخات التي كان يُظَنّ أنها لا تُقهر.. والتاريخ حافل بأمثلة كثيرة على ذلك.
وإن مثل هذا الترابط من شأنه أن يعزّز قوّتنا المعنوية، ويمكّننا من السير إلى المستقبل دون تعثُّرٍ أو تبعثرٍ، ويشكّل قوة جذبٍ للآخرين، ويجعل من غلافنا الجوي مركزًا للجاذبية، ولا شك أن الذين يجتمعون حول فكر وشعورٍ واحدٍ، ويترابطون فيما بينهم؛ يجذبون انتباه الآخرين، وخاصّة أولئك الذين يتحرّكون وفقًا للمزاج الجماهيري.
الأهم من هذا كلّه أن مثل هذا الترابط يجلب المحبة الإلهية، وبالتالي العناية الإلهية، يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: “يَدُ اللَّهِ مَعَ الجَمَاعَةِ”[3]، فإذا كان الله قيّد عنايته وإعانته بترابطنا وتماسكنا على سبيل الشرط العادي، ثم فشلنا في تحقيق هذا الترابط؛ فهذا يعني أننا سنُحرَم من هذه المعونة. أما إذا ترابطنا فستشملنا العناية الإلهية، ومن شملتهم عناية الله لا يضرهم أحد، بل إنهم بفضل هذه العناية سيسيرون نحو هدفهم دون توقف أو تردد رغم كل المساعي التي تهدف لإعاقتهم.
وثمة جانب آخر للمسألة، وهو أن الأمة المحمدية لا تجتمع على ضلالة، كما صرحت بذلك بعضُ الأحاديث الشريفة، وهذا هو السبب في جعل الإجماع أحدَ مصادر التشريع الإسلامي، وتكمن الفكرة نفسها وراء تقرير القرآن بأن الشورى هي أبرز صفات المجتمع المؤمن؛ لأن معدل الخطإ بالنسبة للذين يتشاورون ويتذاكرون بعض القضايا هو احتمالٌ بعيدٌ جدًّا مقارنةً بمعدّل خطإ الشخص الواحد، فالحقيقة إنما تبزغ من تصادم الأفكار وتنوّعها، فأحيانًا يستفيد مئات الأشخاص من رأي شخصٍ واحدٍ، حيث إن كلَّ فردٍ من أعضاء مجلس الشورى يدلي بدلوه ويُسهِم بتجربته في الموضوع المطروح.
وقد تكون الإصابة في اتخاذ القرارات لطفًا خاصًّا من الله تعالى لهؤلاء الذين يعملون في إطار الوعي الجمعي نتيجة ترابطهم فيما بينهم وتشابكهم كأحجار البنيان المرصوص؛ بمعنى أن الذين يوحّدون جهودهم ويتعاونون فيما بينهم يظفرون بعنايةٍ وتوجّهٍ خاصٍّ من الله تعالى؛ حيث يوفقهم الله، ويقيهم السقوط في الضلالة والأخطاء الكبيرة.
أما الذين يتصرّفون بمفردهم فهم أكثر عرضةً للخطإ، ولا يتغيّر الوضع حتى لو كانوا دهاةً عباقرةً؛ لأن الإنسان مهما كان عالِمًا ذكيًّا فعِلمُه وفكرُه قاصران لأنهما صادران عن فردٍ واحدٍ لا يستطيع أن يدرك كلّ الأحداث والتفاصيل في آنٍ واحدٍ، فضلًا عن أن الأفراد قد يخضعون في قراراتهم واختياراتهم لأهوائهم ورغباتهم، وعلى ذلك فيجب أن نثق بالنتائج التي توصّل إليها الذين حصروا همتهم حول غاية سامية في ضوء الشورى، لا الخطط التي وضعها أحد أصحاب القدرات الكبيرة منفردين.
لقد بدأنا موضوعنا بالحديث عن التفاني والترابط والأخوة، وكل هذه أوصافٌ مهمّة وضوابط ضرورية للوصول إلى النجاح في الخدمات المبذولة، لكن تشكيل مثل هذا الترابط، وتكوين مثل هذه الأخوّة الصادقة، وحفظ روح الوحدة التي تتشكّل فيما بعد؛ يستلزم جهودًا مضنيةً، من أجل ذلك لا بدّ من خضوع الأفراد لتدريب جاد، وإن لم يُتوخَّ الحذر فربما تدخل مشاعر الحسد والغيرة في العمل بمرور الوقت، وتتعارض الأنانيات، وتنشأ النزاعات والصراعات، فترى الذين يرنون بأبصارهم نحو مقامات ومناصب معينة تحدوهم الرغبة في الظهور والشهرة والتعبير عن الذات، بل ويحاولون التأثير في الناس من خلال لفت أنظارهم إلى نجاحاتهم، وكما ينشأ هذا كثيرًا بين أهل الدنيا فكذلك قد يحدث بين أرباب الخدمة الإيمانية والقرآنية، وهذا أكثر ما أخشاه.
ينبغي للمؤمن أن يصرّ على دفن مزاياه وفضائله في تراب الخفاء، وأن يقدِّر ويبارك أصغرَ الخدمات التي تصدر عن الآخرين، وإذا كان لا بدّ من وضعِ أحدٍ في مكانٍ تستهويه نفسه فعليه أن يقدّم غيره وليس نفسه، وأن يؤثِر أخوانه على نفسه دائمًا في المقامات المادية والمعنوية.
فمن أجل أن نقي أنفسنا من الحسد، وما ينشأ عنه من حقدٍ وغلٍّ وعداءٍ فلا ينبغي إثارة عرق الحسد لدى الناس، ولا نحاول إبراز فضائلنا ومزايانا؛ فإنكم عندما تقولون: “لقد قلت هذا، وكتبتُ ذاك، وفعلت ذلك” فإنكم تحرّكون مشاعر الحسد في أعماق قلوب الآخرين؛ لأن إظهار النفس ولو بقدر ضئيل يُشعر الآخرين بالانزعاج وعدم الارتياح، وهذه هي إحدى نقاط الضعف الشديدة لدى الإنسان الذي يرغب دومًا في إبراز نفسه، وينزعج من إبراز الآخرين لأنفسهم، وقليل ما هم الذين لا ينزعجون من ذلك، ويتمكنون من قمع مشاعر الغيرة لديهم.
ولكن إذا كان علينا تقدير الناس، ولفت الأنظار إلى نجاحاتهم، والتصفيق لهم، وتشجيعهم على عمل المزيد من أعمال الخير؛ فعلينا أيضًا ألا نكلّفهم فوق ما يطيقون؛ بأن نزكّيهم أمام الله، أو نمدحهم بما يُغريهم ويُطغيهم، فإذا تكلمنا لا نبالغ فيما نقول، ولا نمدح أحدًا بما ليس فيه، ولا نقدِّره بقدرٍ فوق قدره، وأن نعمل على أن يكون كلامُنا مطابقًا للواقع، فإن تحرّكنا ضدّ هذه المعايير التي وضعها دينُنا فسننال صفعةً تنافي مقصدنا.
فالاستقامة هي من أهم آليات الأخلاق والحياة الإسلامية؛ وتعني تجنب الإفراط والتفريط، والابتعاد عن كلّ أنواع الغلو، وإظهار الأهمية اللازمة لكل شيءٍ، وبهذا المعنى يضع أربابُ الصراط المستقيم كلَّ شيء في نصابه، فيتجنبون المبالغات ومدح الناس على النحو الذي لا يطيقون، ويرون الجماليات المبذولة، ويقدرون قدر أصحابها دون الإخلال بالموازين المذكورة آنفًا؛ لأن الحديث عن الخدمات التي بذلها الآخرون، والثناء على أصحابها، والشعور بالامتنان لهم، والدعاء لهم؛ هو مقتضى الاعتراف بالجميل لهم، فالاعتراف بالجميل يشجِّع الناس ويحفزهم أكثر على فعل الخير، كل هذه مقاييس مهمّة لدرْءِ الحسد، والحفاظ على الأخوّة.
لنفترض أن لنا إخوةً يعملون في مكانٍ ما في سبيل إعلاء كلمة الله، وقاموا بأعمال عظيمةٍ ترسم البسمة على وجوهنا جميعًا، فلا بد أن نجد وسيلةً نتكلّم من خلالها عن مزاياهم حتى لا نحوجهم إلى الحديث عن أنفسهم؛ فلربما كانت تراود أحدَهم رغبةٌ في الحديث عن نفسه وأعماله، أو نوى هذا وخطّط له من قبل، فإن تداركْنا الأمر، ولفتْنا الأنظارَ إلى أعماله فلن ندع له شيئًا يتحدّث عنه.
عندما كان بديع الزمان سعيد النورسي يعدّد دساتير الإخلاص ركز على مبدإ: “الافتخار بمزايا إخواننا وشكرنا لهم”. أجل، إذا كان لا بد من إبراز مزيّةٍ أو الافتخار بها فلا بدّ أن تكون مزايا إخواننا، وليست مزايانا نحن، وبدلًا من الحديث عن أنفسنا نتحدّث عن إخواننا، وإذا كان لا بدّ من تفضيل أحدٍ فليكن إخواننا وليس أنفسنا، فمثلُ هذا الأمر يحول دون الحسد، ويقينا الكبر والغرور، ويرسِّخ روح الأخوّة فيما بيننا.
فإن لم ننتبه لذلك فلن نستطيع التغلّب على الحسد والغرور والشقاق والخلاف، ولن نحافظ على الوحدة والاتحاد فيما بيننا، ولن نعمل في وئامٍ ووفاقٍ؛ وهذا كله يحطّ من ثوابنا، ويحبط من أعمالنا، ويجعلنا نسير ونسير، ولكن دون أن نحرز تقدُّمًا فعليًّا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] بديع الزمان سعيد النورسي: اللمعات، اللمعة الحادية والعشرون، ص 224.
[2] صحيح البخاري، الصلاة، 88، المظالم 5؛ صحيح مسلم، البر، 65.
[3] سنن الترمذي، الفتن، 7.