الدنيا هي دار الامتحان، وعلى الإنسان ألا يَغيب عن ذاكرته أبدًا أنه في امتحانٍ دائمٍ في كلّ لحظةٍ من حياته؛ فالحياة مليئة بالامتحانات من البداية إلى النهاية، ويختلف امتحان كلّ إنسان عن الآخر.. ومن ناحية أخرى الدنيا هي دار الخدمة، أي مكان العمل والجهد؛ وليست دار الأجرة أي ليست مكانًا للمكافأة والأجر، وعلى حدّ قول الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي: “إن هذه الدنيا دار عمل وليست موضعَ أخذ الأجرة، فثواب الأعمال الصالحة وثمراتها وأنوارها تمنح في البرزخ والآخرة، وإن جلب تلك الثمرات الباقية إلى هذه الدنيا وطلبها في هذه الدنيا يعنى جعل الآخرة تابعة لهذه الدنيا، وعندها ينثلم إخلاص تلك الأعمال الصالحة ويذهب نورها”[1].
الدنيا مكانُ الامتحان والخدمة، أما الأجر والمكافأة ففي الآخرة.
والحقيقة أننا قد حصلنا بالفعل ومقدمًا على أجرنا ومكافأتنا التي نعجز عن شكرها، وذلك بظهورنا على ساحة الوجود، وخلقنا بشرًا، وتشرُّفنا بالإيمان، وكوننا من أمة سيد الأنام، وتعرفنا بالقرآن، وقدرتنا على النظر إلى الكون بعدسة القرآن.. وفضلًا عن كلّ هذه النعم التي منَّ الله تعالى بها علينا ولا تُقدَّر بثمنٍ؛ فالذين نجحوا في الامتحان الدنيوي من خلال أدائهم واجباتهم ومسؤولياتهم؛ قد بشّرَهم الله بنعم الجنة الخالدة والذاخرة بجماليّات لا تخطر على بال.
إن الذين يعيشون آمنين دائمًا في هذه الدنيا يجب أن يخافوا من كونهم يحظون بأمان الآخرة في الدنيا.
الامتحان والخدمة وعدم التشوّف لمقابل
ومن ثم فإنه من الجدير بمن يخدمون القرآن الكريم أن يُدركوا حقيقة الامتحان ويسعوا إلى اجتيازه بنجاح، ويخدموا ويبذلوا جهدهم في سبيل تنفيذ أوامر الله تعالى، ولا يتشوّفوا إلى أيّ أجرٍ ومكافأةٍ دنيويّة في مقابل ذلك، ويستفيدوا بطريقةٍ مشروعةٍ وفق الإطار الذي حدّده الله تعالى من النعم والهبات الإلهية، فتلك هي العبودية! الامتحان والخدمة وعدم التشوف لمقابل… ثلاثة أشياء تلخّص العبودية.
إن مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم هو خير مثالٍ لأتباعه في هذا الشأن، لقد عدَّ الدنيا دارًا للخدمة، ووهب نفسه وحياته لتطبيق أوامر الدين وتبليغها، لكنه لم يتشوّف إلى أيّ شيءٍ سوى رضا الله ورضوانه مقابل أداء العبودية الحقّة وتبليغ الرسالة.. لقد نجح في اختباراته على أجمل نحو، وكأنه يبعث لأهل الإيمان من خلال جميع أحواله وأفعاله برسالة مفادها: “أنتم أيضًا استعدوا للامتحانات، واعتبروا من موقفي إزاءها!”.
إن ما يجب على سالكي الطريق النبوي هو ألا ينحرفوا عن قبلتهم، وألا يغيروا موقفهم في مواجهة المشاكل التي يتعرضون لها.
ويمكننا أن ننظر إلى المسألة من هذه الزاوية أيضًا، إذا كان مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم -الذي خلق تشريفًا للوجود، وكُرّم بلقب حبيب الله، وهو الإنسان الكامل بحقّ- قد عانى دائمًا، وتعرّض باستمرارٍ للضغط والقمع والعنف والافتراء في حياته السنيّة؛ فيلزم أيضًا على منْ يسيرون على الدرب نفسه ليكونوا أتباعًا مخلصين له أن يأخذوا بعين الاعتبار أنهم سيتعرّضون لابتلاءاتٍ وفتنٍ مماثلة.. إذا كنتم تؤمنون بالله إيمانًا خالصًا فلن تنقطع ابتلاءاتكم، وستخضعون لامتحانات مختلفة حسب درجة إيمانكم وعمق علاقتكم بالله وانقيادكم للنبي وإخلاصكم لقضية الدين.
ومع ذلك لا ينبغي نسيان أنه: إذا أمكن النظر إلى الدنيا على أنها دار خدمة واستوفيت متطلّبات ذلك، وأمكن الصمود في مواجهة الامتحانات والابتلاءات؛ فإن الحقّ سينتصر على الباطل بكلّ تأكيدٍ، إن لم يكن اليوم فغدًا، ذلك أن الله وعد في هذا الشأن فقال: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/139)، والذين يؤمنون بالله إيمانًا صادقًا تكمن لديهم القدرة على التفوّق، وقدرتُهم هذه ستظهر وتتكشّف، إن لم يكن اليوم فغدًا بكلّ تأكيدٍ.
مهما كانت الامتحانات شديدة، فلا ينبغي لأحدٍ أن ينتقد القدر أو يتصرّف وكأنه يشكو الله إلى الناس.
وعندما سئل النبي صلى الله عليه وسلّم: أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ: “الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ البَلَاءُ بِالعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ”[2].
لماذا يعاني صفوةُ البشر أشدَّ الأزمات؟ ﴿لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ (سورة الأَنْفَالِ: 8/37)، ومثلما يُفصَل الحديد عن صدئِهِ بالنار، فالأزمات والابتلاءات التي يعيشها الإنسان تلعب دورًا كبيرًا في تنقيته وصقلِه، وضعفِ تعلُّقه بالدنيا وتوجيهِ نظره إلى العقبى، وتقريبه من ربّه، وكما قال بديع الزمان سعيد النورسي: “إن العاملين في خدمة القرآن إما أن يُعرضوا عن الدنيا أو الدنيا تعرض عنهم، كي ينهضوا بالعمل بجد ونشاط وإخلاص”[3].
لما كانت الدنيا التي نعيش فيها دارًا للامتحان فسيعاني الجميع من أزمات ومحن بقدر معين بلا ريبٍ، وسيعاني أعاظمُ الناس أقساه.
أجل، لو أن الأزمات التي تعرض لها نبيُّنا صلى الله عليه وسلم وُضِعَتْ على الجبال لاستحالت الجبال غبارًا ونقعًا؛ فقد تعرّض لكلّ أنواع البلاء، ولاقى أقسى الإهانات، واستهزئ به، وقُوطع، وهُدِّد، وعانى من الظلم، وأُجبر على الهجرة، وخطّطوا لاغتياله، وصُودرت ممتلكاته، وخاض بدرًا، وأحدًا، والخندق.. لقد لجأ الظالمون -الذين أعرضوا عن الحقائق الإلهية وعميت بصائرهم بسبب الطمع الدنيوي- إلى كل الطرق ليقضوا عليه وعلى من آمنوا به، لكنه لم يهتزّ، ولم يستسلم، ولم يقنط، ولم يغيّر الطريق ولم يبدّل المسار؛ فعلَّمنا بموقفه وصبره ومتانته كيف يلزم أن نصمد في وجه البلايا والمصائب.
الموقف الإيماني في مواجهة الابتلاءات
إن ما يجب على سالكي الطريق النبوي هو ألا ينحرفوا عن قبلتهم، وألا يغيروا موقفهم في مواجهة المشاكل التي يتعرضون لها، ومهما كانت الامتحانات شديدة، فلا ينبغي لأحدٍ أن ينتقد القدر أو يتصرّف وكأنه يشكو الله إلى الناس، لا ينبغي أن نردّ على ذلك بعدم الرضا عن القضاء والقدر الذي قدّره الله لنا.. وعلاوة على الحديث عن ذلك فمثل هذه الأشياء لا ينبغي أن تمرّ حتى بأحلامنا.. صحيحٌ أننا بشرٌ، وقد نهتز في مواجهة الصعوبات، وقد نجد صعوبة في تجاوز الإهانات والأكاذيب والافتراءات التي نتعرّض لها؛ ولكننا نعُدُّ ذلك كله جزءًا من الامتحانات، ولا ننخرط أبدًا في أفعال وتصرفات يمكن اعتبارها تمرّدًا على الله لمجرّد حدوث ذلك، ماذا قال مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم، الذي ذرف الدموع عند موت ابنه: “إِنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، وَالقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ”[4].
إذا لم يُصفع الإنسان في الدنيا بسبب دينه وديانته ومعتقده ودفاعه عن الحق والحقيقة، فيجب عليه أن يقلق على وضعه.
وبعد أن أشار الله تعالى بقوله ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ﴾ (سورة الْحِجْرِ: 15/97) إلى الحزن والكدر الذي أحسّه رسول الله بسبب المصاعب التي تعرض لها، أمره قائلًا: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ (سورة الْحِجْرِ: 15/98-99).
وبعد أن ذكر الله تعالى الحزن العميق الذي شعر به سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إزاء ما قاله وفعله الكفار والمشركون، أمره بالتسبيح والتقديس والثبات على العبودية لله تعالى حتى آخر أنفاسه.
ولما كانت الدنيا التي نعيش فيها دارًا للامتحان فسيعاني الجميع من أزمات ومحن بقدر معين بلا ريبٍ، وسيعاني أعاظمُ الناس أقساها، إذ إن أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل.. لقد تعرّض الأنبياء إلى أصعب وأشد أنواع البلاء، فمنهم مَن قُتِلَ، ومنهم مَن قُطِّع بالمناشير، ومنهم مَن تعرَّضَ للصلب، وعُذِّب بعضُهم ورجم بالحجارة، واستُكثر على البعض الآخر حقُّ الحياة على الأرض الذي منحه الله إياهم.. ويُفهَمُ من قوله: “ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ”؛ أن عبادَ الله الصالحين من بعد الأنبياء سيُمتَحَنون حسب درجة قربهم من الله.. وربما لهذا السبب، استُهدف سيدنا أبو بكر من قبل أعوان الشيطان، وأُسقط سيدنا عمر شهيدًا في أثناء الصلاة على يد عبدٍ ناقمٍ، واستُشهد سيدنا عثمان بوحشيّة على يد بعض الطائشين الّذين حرَّكَهم الشيطان، واستُهدِف سيدنا علي من قبل شخصٍ منافقٍ، ثم تسمم سيدنا الحسن، وقُتل سيدنا الحسين وأقاربه على يد جيش “يزيد” في “كربلاء”، وبسبب هذه العظمة أيضًا تعرض لأصعب الامتحانات كل من السيدة “مريم” وأمّنا السيدة “عائشة” رمزي العفة اللتين لم يخطر الحرام ولو حتى في منامهما.
الدنيا هي دار الخدمة، أي مكان العمل والجهد؛ وليست دار الأجرة أي ليست مكانًا للمكافأة والأجر.
إن تقتفوا أثرهم، فسوف تمرون أنتم أيضًا من غرابيل دقيقة، ووفقًا للحديث الشريف: “يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ”، إلى أن يُفصل الماسُ عن الفحم.. إذا لم يُصفع الإنسان في الدنيا بسبب دينه وديانته ومعتقده ودفاعه عن الحق والحقيقة، فيجب عليه -إلى جانب تقديم الشكر لربه- أن يقلق على وضعه أيضًا، ويحاسب نفسه قائلًا: “لقد تعرّض السائرون قبلي على هذا الطريق إلى شتى أنواع المصائب؛ فلماذا لا ينشغل بي الشياطين وأعوانهم؟! ألستُ مثل أسلافي يا ترى؟!”.
إن الذين يعيشون آمنين دائمًا في هذه الدنيا يجب أن يخافوا من كونهم يحظون بأمان الآخرة في الدنيا، وقد بيّن الله تعالى في حديثٍ قدسيّ: “وَعِزَّتِي لَا أَجْمَعُ عَلَى عَبْدِي خَوْفَيْنِ وَأَمْنَيْنِ، إِذَا خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِذَا أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا أَخَفْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ”[5]، وهذا يعني أنه لا يمكن للإنسان أن يعيش حياة في أمان وراحة تامّين، وتشير إلى الأمر نفسه آية: ﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا﴾ (سورة الأَحْقَافِ: 46/20).
الدنيا هي دار الامتحان، وعلى الإنسان ألا يَغيب عن ذاكرته أبدًا أنه في امتحانٍ دائمٍ في كلّ لحظةٍ من حياته.
وكما أسلفنا فإن الدنيا مكانُ الامتحان والخدمة، أما الأجر والمكافأة ففي الآخرة، ولا ينبغي للإنسان في الدنيا أن يفرط فيما حظي به من النعم، بعدم المبالاة بأوامر الله ونواهيه، والإفراط في التمتّع بالرفاهية والأبهة.. ينبغي له أن يبرمج الدنيا وفقًا للآخرة، وألا يذهب إلى الآخرة بحسابات متراكمة.. عليه أن ينظر بمنظار الخواص فيعُدَّ الامتحانات الصعبة التي تعرض لها شرطًا من شروط العبودية، فيغتنمها ويحوّلها إلى رأسمال للآخرة من خلال مقابلته إياها بالصبر والرضا.. إلى جانب ذلك لا ينبغي لأيِّ قلب مؤمن أن يسيء إلى أحد لكونه تعرض للافتراء والظلم، ولا أن يولي ظهره للقضية التي آمن بها، ولا أن يخسر في وقت هو أدعى للكسب.. عليه كلّما تعرض لمثل هذه الامتحانات أن يقول: “رَضِيتُ بِاللهِ رَبًّا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا”[6]، ويواصل طريقه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] بديع الزمان سعيد النورسي: الملاحق، ملحق قسطموني، ص 141.
[2] سنن الترمذي، الزهد، 57؛ سنن ابن ماجه، الفتن، 23.
[3] بديع الزمان سعيد النورسي: اللمعات، اللمعة العاشرة، ص 61.
[4] صحيح البخاري، الجنائز، 42؛ صحيح مسلم، الفضائل، 62.
[5] عبد الله بن المبارك: الزهد، ص 50؛ ابن حبان: الصحيح، 2/406.
[6] صحيح مسلم، الصلاة، 13.