الروضة هي البناء الوحيد الذي يُسمعنا روح وجودنـا في الدنيا. إن علاقاتنا بهذه البناية المباركة، وروابطنا القلبية معها تثير في قلوبنا مشاعر قدسية مرهفة إلى درجة أننا عندما نريد ذكر شيء عنها نرتجف خوفا وكأننا نتكلم عن رمز للعفة والطهارة ونخشى أن تبدر منا كلمة غير مناسبة يساء تفسيرها. وكل روح يلتجئ إلى عالمها المضيء يسمع في أعماق وجدانه قول الشاعر:
إياك أن تغفل هنا…
عن الأدب والتوقير…
هنا مقام حبيب الله…
مقام المصطفى…
محط النظر الإلهي…
يسمع صدى هذه الكلمات في وجدانه فيرتجف. كانت مكة طوال التاريخ البشري -عدا فترات استثنائية قصيرة- محراب الإنسانية. وترجع هذه الميزة لمكة المكرمة إلى وجود الكعبة فيها. لذا فالكعبة هي محراب… بل سلطان المحاريب. ولهذا المحراب المجيد منبر -على صاحبه الصلوات والسلام بقدر ذرات أجسادنا- وهو الروضة المطهرة التي هي أطهر من رياض الجنة وبساتينها.
تأتي الروضة بمعنى الحديقة الزاهرة. وهي بالنسبة للمؤمنين الذين يحسون بعلاقات معينة مع الأشياء المباركة، وما ينتج عن هذه العلاقة من مشاعر وأفكار وتصورات وتلقيات مختلفة ومتغيرة على الدوام ضمن دائرة “الفن – المعبد” ومطاف الأرواح المقدسة، تشكل حظيرة القدس.
تغير المظهر الخارجي لهذا المكان الطاهر من الناحية المعمارية والفنية عدة مرات وتبدلت نقوشه الخارجية، ولكن لم تمتد أي يد لتغيير ما يتعلق منه بعالم القلوب، ولا يمكن أن تمتد.
هناك أبواب كثيرة تنفتح نحو صـاحب الروضـة الطاهرة مثل انفتاح القلوب والصدور المتمزقة بحبه، ومنافذ كثيرة كالمنافذ الكثيرة التي تفتحت من روحه للإنسانية كلها. وأشهر هذه الأبواب هو “باب السلام” الذي قال فيه الشاعر “نابي”:
هذا الهلال في السماء…
عاشق ولهان لباب السلام…
فالذين يسلمون عليه وهم يلجون من هذا الباب يدخلون إلى جو وعالم من الروح وكأنهم سيلاقون سيد القلوب بعد خطوتين… يحسون بهذا ثم يدعون أنفسهم في مهب نسائم خاصة ومختلفة.
الذين يصلّون ويتعبدون بالوقار الذي يحتمه وجودهم في حضرة النبي الكريم وبالجد والمهابة اللازمة ويدعون ويصلون عليه يرون أنفسهم وكأنهم يمشون في ممر نوراني بين أصحاب القلوب المتولهة بحب الله ورسوله الكريم. وبهذا الشوق واللهفة يتقدمون نحو “المواجهة”،( ) وهم يتوقعون في كل خطوة مفاجآت لا تخطر على البال ولا على الخيال. وآه عندما يصل إلى “المواجهة”!! آه!! لا ترى عيون أصحاب الأرواح النـزيهة هنا شيئا غير ذكراه… يذكره كل منهم ويئنّ!.. ولا يجد السلوان إلا في ذكراه. فإن كان قد تهيأ مسبقا، ووضع في الخيال رأسه فوق تلك العتبة وجاء إلى ذلك المكان بعمق وجدانه ووسعة قلبه فلا تسأل عن حاله. هنا يعجز البيان عن التصوير وتخرس الألسنة عن التعبير، ولا يجد الإنسان كلمة واحدة غير التعبير عن هذا العجز.
عندما يصل الإنسان إلى سُترة المرقد -الذي تتخيل بسمة حزينة عليها- من جهة القبلة يواجه المئات من أصحاب القلوب العاشقة التي تنبض نبضا بالأمل والرجاء. فيحس أنه في جو سـاحر من إقليم النور الذي يفتح أمامه باب عالم آخر حسب درجة كل إنسان. وكل من يصل إلى “المواجهة” من أصحاب القلوب العاشقة يحس بأنه سيلاقي حبيبه بعد خطوة أو خطوتين وسيحتضنه، فيثور قلبه في ظل هذه المشاعر، ويسمع في أعماق قلبه أنغاما لمشاعر شوق وعشق لم يخطها قلم ولا سـال بها حبر على ورق. ثم إذا بتداعيات ذلك الجو والإقليم الذهبي تلف كل كيانه بأصوات وكلمات وخيالات لا تعد ولا تحصى، وتجذبه إلى عالم آخر فوق الزمان. وكل من يصل إلى هذا العالم يجمع يومه مع أمسه وأمسه مع عصر النور للحبيب، ويثمل من أخفى همسات مجلسه، فيكاد يغيب عن وعيه.
يمر الزمان أمام الروضة المطهرة مرور حلم أو خيال. ويكاد كل روح لم يدر ظهره تماما لصاحب الروضة قد شرب من كوثر شراب عشقه فثمل فلا يود أن يفارق هذا المكان. هنا تتوقف الأفكار وتصمت، وتدخل الأرواح تحت ظلال الأحاسيس، ويلف القلوبَ الشوقُ إلى الوصال. هنـا تتفتح خيالات كالورود في أعماق الإنسـان لا تقبل دخـول أحد حريمها… خيالات يكاد يذوق منها صاحبها أذواق حدائق الجنة، وأذواق أصحاب الجنة واطمئنانهم ونشوتهم. كأن هذا المكان في الدنيا امتداد لمكان من وراء الفضاء صمم بيـد القدرة منذ الأزل لتهييج خيـالات الأرواح الحساسة وتصعيدها، وشحذ مشاعر المحبة فيها، ووضع أعذب ألحان المحبة والشوق فيها. والذين يدعون ويسلمون أنفسهم إلى الأعماق الملونة والغنية لإقليم الإيمان سيجدون أنفسهم في بحار واسعة وغنية من التصورات، ويدركون أن هناك في الحياة التي يسلكون دروبها جانبا مجهولا من النفس، أي “أنا” آخر هو هدف بني الإنسان في الحياة، يتماوج فيها “الخفي” و”الأخفى”. كأن الستار الرقيق لعالم الشهادة قد ثقب فظهرت حقيقة الإنسان كما هي مثل ظهور حقائق الأشياء الأخرى. لذا يحس كل إنسان كأنه يعيش في الحياة الآخرة، فيتبع تناغم ذلك العالم ويحس بنشوة الفردوس.
يلفنا جو العبادة في الكعبة وجو العشق والهيام في الروضة المطهرة. في الأولى نحاول الحصول على جواب لسر العبادة وفهمه، ونحتضن الأخرى بصدق ووفاء. ومع أننا لا ندرك تماما ما نحسه من أمور وأشياء هنا تمام الفهم، إلا أننا بمشاعر وجد يجل عن الوصف، وبعواطف عميقة تتلاطم في جوانبنا نحس أننا قد انتشينا في عالم سحري وشاعري خاص فنجد أنفسنا وقد انحنينا راكعين ساجدين بمشاعر لا نستطيع التعبير عنها.
تمر أيام هذه الحياة التي نعيشها هنا بين أمواج عواطف العشق والشوق الضاربة في سواحل قلوبنا كعهد وصال ولقاء. كل صرخة مكتومة وكل أنين خافت يبعث رجفة في القلوب كرجفتها عند سماع صرير الباب المفتوح على الحبيب. يئن الروح قائلا: “أنا أريد اللقاء… أنا أريد الوصال”. أحياناً يبدو ثم يتلاشى خيال الحبيب من وراء عصره أمام خيال العيون المغمضة للواقفين وقفة توقير واحترام أمام باب الحبيب، الباحثين عن منفذ خيال يوصلهم إليه. هذا الباب يشوقهم على الدوام ويجدد أملهم برقة ولطف.
الجدران هنـا والأعمدة والقباب التي تبـدو وكأن مثاقب العشق قد حفرتها، بل حتى الأرضيات ومفروشاتها وكل شيء تقريبا لوحات جمال تذكر بألوانها الزرقاء والخضراء والصفراء ألوان الزهور الرقيقة.
والقبة الخضراء والمرقد الطاهر الذي نستطيع تشبيهه على الدوام بروح طاهر عندما يتمازج مع أعماق عالم الفكر لدى العاشقين يتحول إلى نوع من عالم تلفه الأسرار حتى إن الإنسان يحسب هناك أن مكانه قطعة اقتطعت وجلبت من الجنة.
لقد رأيت حتى الآن العديد من الأماكن المباركة التي تحمل ذكريات روحية ومعنوية. ولكن الروضة الطاهرة للرسـول r كانت وستبقى إلى الأبد صاحبة أعمق الآثار في قلبي. فقد احتضن روحي تلك البلدة على الدوام بحسرة مَنْ هدّه الشوق للوصال. وكلما احتضنها يرتفع صوت من أعماقي يقول: “هذه هي البلدة التي لن أستبدل بحفنة ترابها العالم كله”.
هذه أحاسيس روح فج لم ينضج بعد. أما ما يشعر به أصحاب الأرواح السامية بالعرفان والمحلقة عاليا بالعشق فيجب أن نستمع ذلك منهم ونتعلم. وما أحاول هنا قوله هو أنني -بقابلياتي المحدودة القاصرة- أحاول فقط إثارة أهل الحمية… فإن استطعت هذا عددته وسيلة لإحراز رضا روح سيد الأنام، فأقبل لألمس مطرقة بابه متوسلا ومتضرعا: “اقبلني يا رسول الله!.. اقبلني بأبي أنت وأمي!”