Reader Mode

لا جرم أن من يتوكّل على الله ويستعينُ به ويتشبثُ بالسعي والعمل ويستسلمُ للحكمة الإلهية؛ سيحالفه النصر في نهاية المطاف لا محالة، إن لم يكن اليوم فغدًا، وإن لم يكن في الدنيا ففي الآخرة.. لكن الإنسان خُلق عَجولًا، فهو يستعجل الجماليات التي يرغبها والنعم التي وُعِد بها، وإن لم يتحقّق ما يرغبه على الفور يستولِ عليه اليأس والتشاؤم في كثير من الأحيان، بل يصل الأمر إلى أبعد من ذلك إذا كان ضعيف الإيمان، فيقدّم مراد نفسه على مراد ربه، ويستغرق في أفكار لا تُرضي الله سبحانه وتعالى.

المهم هو أن يسير الذين يتبنَّوْن دعوى إعلاء كلمة الله في طريقهم دون أدنى انحراف أو اعوجاج، وأن يجعلوا مراد الله غايةً لهم في كلّ أعمالهم.

إننا نرجو من أعماق قلوبنا أن يغمر الله المؤمنين دائمًا بالألطاف السبحانية والتوجهات الإلهية زخًّا زخًّا، وألا يقطع عنهم مدده الإلهي، ولا يكلهم إلى أنفسهم طرفة عين، فمثل هذا الرجاء ينشأ عن ثقة المؤمن بالله وتطلُّعِه إلى معونته وعنايته؛ وهذه أمورٌ حسنةٌ، والأحسنُ منها أن نجعل المراد الإلهي هو الغاية في كلّ أمورنا، وأن نقدّمه على رغباتنا وأهوائنا؛ فإن اتخاذ مراد الله غايةً لنا في جميع أمورنا هو تعبيرٌ عن احترامنا لحقيقة “رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَبِيًّا وَرَسُولًا”[1].

يجب على الذين كرّسوا أنفسهم لخدمة الإيمان والقرآن على وجه الخصوص أن يجعلوا المراد الإلهي غاية لهم، وأن يعيشوا حياتهم وفق هذا المنهج.

كم نرجو ونأمل أن تتهلّل وجوه المؤمنين الباكية منذ قرون، وأن ينهلوا هم أيضًا من الرحمة الإلهية مثل السابقين الأولين، وأن ينتهي بأسُهم وشقاؤهم، وأن يجمعوا شملهم ويلملموا شعثهم، وأن يرجع بهم الزمان إلى عهد الخلفاء الراشدين مرة أخرى ولو على مستوى الظلّية، وأن يسود الحق والعدل والحرية وجه البسيطة! هذه هي غايتنا المثلى، فلا بدّ أن نسارع إلى تحقيقها من جهة، وأن نتوسّل إلى الله بالدعاء من جهة أخرى.

في رأيي يجب ألا ينشغل الذين عزموا على إقامة صرح أرواحهم على وجه الأرض بشيء آخر سوى هذا الهمّ.

لكن قد تتدخّل النفس في مثل هذه الغاية التي تبدو بريئة ومنطقية وعادلة، فلربما ونحن ندعو الله بأن يغمر المسلمين بالتوجهات الإلهية والألطاف السبحانية نجعل للنفس نصيبًا من دعائنا فلا يكون خالصًا لوجه الله الكريم، قد تُغرينا النفسُ والشيطانُ بالأعمال التي نعتقد أننا نفعلها من أجل الله، فلا أمان للنفس بحيَلِها وفخاخها، وكيف نأمن لها وحتى النبي يوسف عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام يقول: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾ (سورة يُوسُفَ: 12/53)، معلنًا بذلك أن النفس لا يُوثَق بها ولا يُعتمَد عليها؛ ومن ثم حذارِ أن نثق بأنفسنا، فمن وُكِلَ إلى نفسه هلك وتردّى.

وهذا لا يعني ألا نكشف عن رغبتنا في نفْعِ الإنسانية والأمة المحمدية، لا ريب في أن المؤمن يتمنّى لإخوانه من المسلمين الذين يعتلج في صدورهم الألم منذ قرون أن يتخلّصوا من الآلام التي تعرضوا لها حتى اليوم، ويرجو أن يطلع الفجر وتشرق الشمس لينير عالم المضطهدين والمظلومين والمهجّرين، ويلحّ في الدعاء والتضرع إلى ربه من أجل هذا الأمر، وإنه ليسأل الله ما يسأل؛ ثقةً في سعة رحمة ربه وعظيم فضله، وهو على يقينٍ بأن الله سيستجيب دعاءه يومًا ما، فما من ليل إلا ويعقبه نهار، وما من شتاء إلا ويعقبه ربيع، ومع ذلك لا ينسى أن مراد الله هو الغاية، ولا يتوانى عن انقياده لتجلّيات الله وتصرّفاته سبحانه وتعالى.

نرجو ونأمل أن تتهلّل وجوه المؤمنين الباكية منذ قرون، وأن ينهلوا هم أيضًا من الرحمة الإلهية مثل السابقين الأولين، وأن ينتهي بأسُهم وشقاؤهم.

ومن هذا المنطلق يجب على الذين كرّسوا أنفسهم لخدمة الإيمان والقرآن على وجه الخصوص أن يجعلوا المراد الإلهي غاية لهم، وأن يعيشوا حياتهم وفق هذا المنهج.. أما بالنسبة للمصدر الوحيد الذي يمكننا من خلاله معرفة مراد الله سبحانه وتعالى فهو الوحي الإلهي؛ أي القرآن الكريم أولًا، ثم السنة النبوية الشريفة..

إن الوظيفة الأهمّ بالنسبة لهؤلاء هي فهم هذه الرسالة الإلهية ومعايشتها وتبليغها للآخرين، فالدنيا بالنظر إلى وجهها الدنيء لا تزن عندهم جناح بعوضة كما ذكر في الحديث[2]، فما قيمة الدنيا أمام رضا الله ورضوانه ورؤيته والنعيم الأبدي الذي أعده للمؤمنين! ولذلك تراهم يواظبون في دعائهم على قول: “اللهم أشبِع قلوبنا طمأنينةً وشوقًا واشتياقًا إلى لقائك ولقاء حبيبك وأحبائك!”.. وفي رأيي يجب ألا ينشغل الذين عزموا على إقامة صرح أرواحهم على وجه الأرض بشيء آخر سوى هذا الهمّ.

لا جرم أن من يتوكّل على الله ويستعينُ به ويتشبثُ بالسعي والعمل ويستسلمُ للحكمة الإلهية؛ سيحالفه النصر في نهاية المطاف لا محالة.

ورغم ذلك يعتقد أهل الدنيا الذين يجهلون نيّتكم الحقيقية وغايتكم السامية أنكم تلهثون وراء عرضٍ دنيوي زائل، ويقولون: عجبًا هل يطمع هؤلاء في السلطة؟! أم يجرون وراء الصيت والشهرة؟! أم يرغبون في حياة مترفة في القصور؟!… إلخ. فلا تحزنوا، وانسِبوا أحكامهم الخاطئة إلى جهلهم، واعذروهم، واسألوا الله الهداية لهم، وفوِّضوا أمرَ مَن ليس لديهم استعدادٌ للهداية إلى الله تعالى، ولا تشغلوا أنفسكم بهم.. المهم هو أن يسير الذين يتبنَّوْن دعوى إعلاء كلمة الله في طريقهم دون أدنى انحراف أو اعوجاج، وأن يجعلوا مراد الله غايةً لهم في كلّ أعمالهم، وحتى ولو تعثّر هؤلاء الذين ضعفت قابلياتهم واستعداداتهم، وساروا في المنعطفات، وتخبطوا يمنة ويسرة في الجداول والتلال؛ فلا بد إلا وأن يأتي يوم ينهضون فيه للسير في طريق سيد الأنام صلى الله عليه وسلم.

[1] صحيح البخاري: العلم، 29؛ صحيح مسلم: الصيام، 36؛ سنن أبي داود، الأدب، 110.

[2] “لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ”. (سنن الترمذي، الزهد، 13)