الإيمان والإسلام والإحسان والإخلاص والرضا والشوق إلى لقاء الله؛ ألطافٌ ربانية لا يمكن مقارنتها بالعالم المادي؛ حتى ولو وُهب الإنسان الدنيا بما فيها من جمال وسلطنة وملك؛ فكل هذا لا يعادله واحدٌ في الألف من هذه الألطاف المذكورة سلفًا.. وهمُّ المؤمن في هذه الحياة الدنيا هو الوصول إلى الإيمان الخالص، وتوثيقُ الصلة مع الله سبحانه وتعالى، والفوزُ بشعور الإحسان، وتحري الإخلاص في الأعمال، والوصولُ إلى أفق الرضا؛ لأن القدرةَ على الارتحال من هذه الدنيا إلى الآخرة بطهرٍ ونقاءٍ، والثباتَ عند سؤال الملكين في القبر، وإكمالَ الرحلة الطويلة لعالم البرزخ دون تعثّر، والنجاةَ من أهوال يوم المحشر، ثم الظفرَ بنعيم الجنة، والفوزَ برضا الله ورضوانه؛ منوطٌ بهذا.
لا بأس أن يزعجكم السفلة والمنحطون ويقضّون مضاجعكم، طالما أن العالم سيصل إلى الطمأنينة على أيديكم ويلتقط أنفاسه من خلالكم.
فما من نعمةٍ أعظم من سير المؤمن إلى الله طاهرًا مطهّرًا، فلو كانت المشاقُّ التي تصاحب الخدمة في سبيل الله ستتحوّل إلى ألطاف إلهية ونعم أخروية في الدار الآخرة -وهي كذلك لا شك-؛ فعلى الإنسان أن يجعلها غاية أمانيه، ويتقبّلها ويتحمّلها عن طيب خاطر. أجل، إذا قوبِلت هذه المشاق والصعوبات بالصبر والرضا فستتحوّل كلُّ آلام الدنيا إلى ملذات أبدية خالدة في الآخرة، فعلى قدر ملذات النعم الدنيوية تكون آلامها، أما الملذات الأخروية فلا ألم لها.
إذن يجب على الإنسان أن ينسج دنياه وفقًا لآخرته، ويقيّم ما يفعله تبعًا لها، ويعتبر الدنيا طريقًا مختصرًا يصل به إليها، أو حقلًا وبستانًا يؤتي أكله فيها، فإن المهام التي يؤدّيها المسافر في طريقه إلى الجنة، والمشاق التي يلاقيها؛ ستصير زادًا له إلى الآخرة، وذُخرًا خالدًا مخلدًا له في حياته الأخروية، فالمسافات التي يجب قطعها من أجل نعيم الآخرة إنما هي أطول مما يجب قطعه من أجل نعيم الدنيا، كما أن العقبات في طريق الآخرة أقسى من عقبات طريق الدنيا؛ فعلينا أن نُعدّ ونجهز أنفسنا وفقًا لذلك، ونأخذ زادنا بالكامل.
إن الذين وهبوا أنفسهم للخدمة في سبيل الله يعدّون المعاناة التي لاقوها وكأنها لدغة بعوضة، فيلتزمون بالثبات والصمود أمامها.
إن المكسب الحقيقي لمن يؤمن بالله حقًّا وصدقًا هو الفوز برضا الله ورضوانه ورؤيته وإقباله، والتعرّض لنسائم ثنائه، والدخول ضمن من يخاطبهم بقوله: “إني راض عنكم”، فكما يقول بديع الزمان سعيد النورسي: “إن قضاء حياة ألف سنة وسنة بسرور كامل في نعيم الجنة لا يساوي ساعةً من فرحة رؤية جمال الجميل سبحانه”[1]. وفي كتاب “بدء الأمالي” الذي يلخص عقيدة أهل السنة نظمًا يقول الأوشي:
يراه المؤمنون بغير كيف * وإدراك وضرب من مثال
فينسون النعيم إذا رأوه * فيا خسران أهل الاعتزال
إنه سبحانه وتعالى مصدرُ كلِّ جمالٍ نراه في الكون من نظامٍ وانتظامٍ وتناغمٍ ومعنى ومحتوى وجماليات، ولا ننسَ أن قضاء حياة ألف سنة وسنة بسرورٍ في الدنيا لا يعادل ساعةً واحدة في الجنة، فلو أنكم ألقيتم نظرة على مشاهد الجنة في القرآن الكريم لأدركتم أن نعيم الجنة لا يمكن مقارنته بأي نعيم دنيوي.
إن الحكمة من وجود الإصرار والصمود هو رسوخ القدم والثبات على الحق والعدل.
أجل، كما تُمحى الجنة تمامًا في أعين مَن يظفرون برؤية الله تعالى في الآخرة؛ فكذلك تُمحى الدنيا بكل جمالها وأبهتها في أعين مَن شرفوا بدخول الجنة.. ستَسحرُ النعمُ الأخروية أعينَ الناس، وتسلب عقولهم؛ حتى إنهم ليقولون حينها: “هذه هي الحياة حقًّا!”، وأما سبيل الفوز بهذه الحياة فهو الإيمان والعبادة والإحسان والإخلاص والارتقاء في مدارج حياة القلب والروح كما ذكرنا في البداية، وكما يقول الصوفية: القدرة على السياحة في آفاق السير إلى الله، والسير في الله، والسير مع الله، والسير عن الله، وجعْلِ الدنيا مكانًا للفوز بالآخرة دون الانخداع بوجه الدنيا الفاني.
إن كنتم تؤمنون بعدالة المسار الذي تسلكونه فلن تتمكن ألف عاصفة من أن تحرككم، فعليكم أن تظلوا ثابتين مثل شجرة الدلب التي تأصّلت جذورها.
تشوّه صورة الإسلام
لكن ابتعد مسلمو اليوم كثيرًا عن مثل هذه الأفكار، وتركوا اللبّ والجوهر، وانخدعوا بالصور والأشكال، ويقع على عاتق من يتولّون الإدارة مسؤولية كبيرة في هذه الانتكاسية؛ لأنهم لم يحسنوا التطبيق والتمثيل، فشوهوا بأفعالهم وتصرفاتهم صورةَ الإسلام المشرقة، ورغم أنهم يدّعون أنهم مسلمون، ويتظاهرون بأنهم حماة الإسلام؛ فقد انغمسوا في مستنقع الظلم، وانتهكوا حقوق الأمة، وارتكبوا جرائم السرقة والفساد، ورشوا وارتشوا، وحاولوا التفريق بين الناس على أساس الدين واللغة والعرق والمذهب، وقمعوا مخالفيهم ومعارضيهم، وارتكبوا كلّ القبائح والفظائع باسم الإسلام، كلُّ هذا تسبب في تشويه وإفساد الدين، حتى إن الدمار الذي أحدثه ألدُّ الأعداء في القرون السابقة لم يكن في الغالب بهذا القدر من الفظاعة والشناعة؛ لأن المتصدي لهم آنذاك كان من أمثال آلب أرسلان، وملك شاه، وقليج أرسلان، وصلاح الدين الأيوبي، ونور الدين زنكي، وشريكوه، لقد كانوا جميعًا بمثابة النور الذي يثور على الظلمات، فتصدوا لمن يضمرون العداء للدين الحق، وحافظوا على عزة الإسلام وكرامته.
إن مما يؤسف له في عصرنا الراهن أن تدمّرتْ صورةُ الإيمان والعبادة والدين، ولم تعد الأسرة أو المدرسة أو المسجد تلبي حاجة الناس إلى الإسلام الحقيقي.
أما المشهد الحالي فمختلف تمامًا، فالأشخاص الذين يتوجب عليهم نصرة الإسلام يستخدمون الإسلام عمدًا وقصدًا في خدمة خططهم ومصالحهم، فيغيِّرون في أحكام الدين، ويفعلون ذلك بالأكاذيب وهم يحدّقون النظر في أعين المسلمين، نتيجة لذلك تشكّل في أذهان الناس مفهوم خاطئ، وكأن الإسلام -حاشاه- يسمح بكلّ الأدناس والخبائث، وخُيّل إليهم أن المرء يمكن أن يكون مسلمًا دون إقامة الصلوات وأداء العبادات، والأدهى من ذلك أنهم قد باتوا يعطون غطاءً شرعيًّا لكل ما يُمارَس من ظلمٍ وجَورٍ وفسادٍ، ومن يعارضون هذا المفهوم يُتهمون بالكفر والضلال.
لقد تعرض الدين لدمارٍ كبير، وأُريد بالإسلام أن يتدنّى إلى مستوى النفاق، ولو اجتمع العباقرة، وذوو العقول النادرة، وأصحاب الفطانة والحذق والمهارة في العالم الإسلامي، واستخدموا أفضل وسائل التقنية والتكنولوجيا في عصرنا، وحاولوا تبليغ أصواتهم إلى جميع أنحاء العالم؛ فلن يستطيعوا تغيير وإصلاح الوضع الحالي ما لم يوجد مددٌ إلهيّ إضافيّ.
لقد أصبح كلُّ شيءٍ مرتبطًا بعرَض الدنيا الزائلِ، والمصالحِ الدنيوية، والمنافعِ الشخصية، واستُغلّ حتى الدين في سبيل تحقيق ذلك.
إن مما يؤسف له في عصرنا الراهن أن تدمّرتْ صورةُ الإيمان والعبادة والدين، ولم تعد الأسرة أو المدرسة أو المسجد تلبي حاجة الناس إلى الإسلام الحقيقي، فكلُّ شيءٍ أصبح مرتبطًا بعرَض الدنيا الزائلِ، والمصالحِ الدنيوية، والمنافعِ الشخصية، واستُغلّ حتى الدين في سبيل تحقيق ذلك.. أما عن المسؤولين الذين يمسكون بزمام الأمر في أيديهم فهمّهم الوحيد هو المحافظة على مناصبهم، ودوام سلطانهم، ولتحقيق ذلك لجؤوا إلى كل سبيل، فلم يدَعوا شخصًا إلا وعابوه وشوهوا صورته، ولجؤوا إلى شتى صنوف الكذب والافتراء للوصول إلى أهدافهم الخبيثة، ولم يتوانوا في ارتكاب أبشع الذنوب والجرائم، فأضلّوا بسياساتهم القذرة الجماهيرَ وخدعوهم، وسمّموا قلوبهم وعقولهم، ومن ثم فقد ابتعد الكثيرون فراسخ عن الإسلام الحقيقي، والعبوديةِ الصادقة، والحياةِ القلبية والروحية، وشعورِ الإحسان.
لم يتعرّض الإسلام لمثل هذا الإهمال وسوء الطالع الذي تعرّض له في القرن الحادي والعشرين، فقد تعرض في أزمنةٍ مختلِفةٍ لهجمات متنوعة من قِبل أعدائه، وجاء المحتلون وهاجموا حصنه المنيع، وحاول المنافقون أن ينخروا عظامه ويقطّعوا أوصاله، وتسلّط عليه الظالمون والمستبدّون، لكنهم لم يستطيعوا أن ينالوا منه مثل ما نال هؤلاء اليوم، ولقد أُحبطتْ هذه الهجمات بفضل النضال الصادق من أصحاب القامات العالية، إلا أن الدمار كان هائلًا في القرون الأخيرة؛ حيث كان الاضمحلالُ والتعفُّنُ قد بدأ من الداخل، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (سورة الرَّعْدِ: 13/11).. هذا هو وعد الله، أما إذا حدث التغير والتشوّه في الداخل؛ أي إذا ابتعد المسلمون عن جوهر الدين وروحه؛ فإن الله سيسلب النعم التي وهبها لهم، ويُذهبهم، ويأتي بقوم آخرين.
الحكمة من الثبات والصمود
من الأهمية بمكانٍ أن يتجشّم أبطال الصلح والإصلاح كلَّ المصاعب، ويثبتوا أمام كل التحديات، وتتشوّف نفوسهم إلى الإيمان والإسلام والإحسان والإخلاص.. لكن مع الأسف لم يستطع الذين حصروا همّتَهم على الدنيا فحسب أن يفهموا ذلك أو يستوعبوه، فجعلوهم يقاسون شتى الآلام والمحن، ورغم ذلك ركّز هؤلاء الأبطال على الجوانب الإيجابية في البلايا والمحن التي تعرضوا لها، وحوّلوها إلى فرصة للاقتراب من الله، والاستعداد للآخرة بشكلٍ أفضل.. وبسبب الآلام التي عايشوها تلاشت الدنيا وما فيها من أمام أعينهم، وفضلوا السعادة الأبدية على الأبهة والعظمة الفانية.
لو أنكم ألقيتم نظرة على مشاهد الجنة في القرآن الكريم لأدركتم أن نعيم الجنة لا يمكن مقارنته بأي نعيم دنيوي.
إن الذين وهبوا أنفسهم للخدمة في سبيل الله يعدّون المعاناة التي لاقوها وكأنها لدغة بعوضة، فيلتزمون بالثبات والصمود أمامها، فإن كنتم تعتقدون أن الأرضية التي تقفون عليها تقوم على العدالة والإنصاف فلا بد من المثابرة والإقدام، فإن الحكمة من وجود الإصرار والصمود هو رسوخ القدم والثبات على الحق والعدل، لقد وهب اللهُ الإنسانَ صفةَ الإصرار والصمود من أجل هذا، فإن كنتم تؤمنون بعدالة المسار الذي تسلكونه فلن تتمكن ألف عاصفة من أن تحرككم من مكانكم، فعليكم أن تظلوا صامدين ثابتين على أقدامكم مثل شجرة الدلب التي تأصّلت جذورها في التربة منذ عدة قرون.
إن المكسب الحقيقي لمن يؤمن بالله حقًّا وصدقًا هو الفوز برضا الله ورضوانه ورؤيته وإقباله، والتعرّض لنسائم ثنائه.
وإن الأرواح المبتلاة بداء العظمة التي لا همّ لها سوى تأسيس نظام عالمي يخدم حساباتها ومصالحها، وتوريثِ هذا النظام لأبنائها؛ لم يمنحوا المؤمنين الصادقين الذين ما زالوا يركضون حتى الآن في سبيل الله الفرصة لالتقاط أنفاسهم، فاضطروا أولي العزم من الرسل -مثل سيدنا إبراهيم وسيدنا موسى عليهما السلام والكثير غيرهم- للخروج من بلدانهم وأوطانهم، فقد ترك كثير من الأنبياءِ والأولياءِ أوطانَهم، وهاجروا إلى الديار الأخرى، بسبب ظلم واضطهاد أهل الفساد والنفاق، ولكنهم نثروا البذور حيث رحلوا، وأقاموا الحدائق والبساتين.
بعد ذلك ستظهر أيضًا صنوف من مثل هذا الظلم والجفاء، فعليكم أن تنظروا إليها على أنها امتحان من الله وأن تفرحوا وتسروا من ناحية ما، لأن طريقكم هو طريق سيد الأنام صلى الله عليه وسلم، وخلفائه الراشدين، وسِبْطيه الحسن والحسين المطهرين.. فلا بأس من الشهادة ما دامت على طريق الحسين رضوان الله عليه، المهم هو أن يحفظنا الله من السير على طريق يزيد أو الحجّاج.
الإيمان والإسلام والإحسان والإخلاص والرضا والشوق إلى لقاء الله؛ ألطافٌ ربانية لا يمكن مقارنتها بالعالم المادي.
فلو كانت مهمتكم الأخذ بأيدي الناس إلى الحق تعالى، وإزاحة العوائق بين الله والقلوب، فأعتقد -وأنا أحسن الظنّ بالله- أن ساكني الملإ الأعلى سيُقبلون عليكم بالتهاني والتبريكات، ويزفون إليكم البشارات، فلا بأس أن يزعجكم السفلة والمنحطون ويقضّون مضاجعكم، طالما أن العالم سيصل إلى الطمأنينة على أيديكم ويلتقط أنفاسه من خلالكم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] بديع الزمان سعيد النورسي: المكتوبات، المكتوب العشرون، ص 278.