نحن البشرَ نزاول كلَّ يوم كثيرًا من الأعمال المختلفة، ونتّخذ العديد من القرارات، لكننا في أغلب الأحيان لا ندري هل الأعمال التي نقوم بها والقرارات التي نتخذها يُقصد بها وجه الله تعالى أم لا؟! فربما تشوب الأنانيةُ أعمالَنا وتخالطها دون وعيٍ منا، نحسب أننا نتحدّث عن الله تعالى والحقيقة أننا نتظاهر بالعلم والمهارة والحذاقة، ونحاول أن ننسب العناية الإلهية في الوفاق والاتفاق بيننا إلى قدراتنا ومهاراتنا، ومن يدري ما الأخطاء الأخرى التي نقع فيها في حياتنا اليومية! فمثل هذه الأخطاء الخفيّة تحيق بمن يرغبون في معايشة الإسلام بحقّ، ومن الصعب للغاية أن يسلم من هذه المخاطر أولئك الذين لا تدور حياتهم في فلك المحاسبة والمراقبة، ولا ينكرون ذواتهم أمام ربهم عدة مرات كل يوم.
إن كنتم واثقين من سلامة السير، فستشعرون بالشفقة على هؤلاء الذين يحاولون اعتراض سبيلكم، ويطلقون ضدّكم الدعايات المغرضة.
والواقع أننا إذا فكرنا قليلًا في وجودنا، وراعينا موقعنا أمام ربنا، وجعلنا ذلك غايةً لنا؛ فلربما نتحاشى الأطوار والعبارات التي تشي بمعنى الشرك الخفي، وكلّما فكّرنا في نعم الله تعالى علينا؛ أنكرنا ذواتنا قائلين: سبحان الذي هدانا لهذا العمل! وأدركنا يقينًا أن عزمنا وسعينا وإرادتنا وجهدنا هو ظلٌّ من ظلِّ ظلِّ مشيئتِه سبحانه وتعالى، فثمّة مسافةٌ طويلة لا بد أن نقطعها في هذا الشأن، حيث إن تحديد طور عبوديتنا وفقًا لوضعنا أمام ربنا سبحانه وتعالى يتطلّب جهدًا جهيدًا، وإلا وقعنا دون وعيٍ منا في خطإ نسبة ألطاف الله تعالى إلى أنفسنا؛ وهذا أيضًا نوعٌ من الشرك الخفي.
عندما تفكرون في الثمن الذي يدفعه هؤلاء الذين يظلمون الناس اليوم أمام المحكمة الإلهية، فستأسفون على حالهم، وتشفقون عليهم.
نعم الله علينا
إننا مظهرٌ لنعم الله تعالى الخارقة التي لا تُعدّ ولا تُحصى، فقبل كلّ شيءٍ خرجنا من العدم إلى ساحة الوجود، ومن الوجود صرنا أحياء، ثم خُلقنا بشرًا، وزُوِّدنا بالعقل والشعور والإرادة، وفوق ذلك شُرِّفنا بالانتساب إلى أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وفي الوقت ذاته تبوّأْنا مكاننا بين المصلحين في وقتٍ يتعرّضُ فيه الإسلام للفساد والانهيار، ولن نستطيع أن نوفّي شكر هذه النعم، حتى لو ظللنا طوال عمرنا ساجدين دون أن نرفع رؤوسنا، ولكن جهلَ قدرِ هذه النعم وقيمتِها والكفرانَ بها؛ يجعل الإنسانَ ينقلب رأسًا على عقب.
والله تعالى يختص بنعمه من يشاء من عباده، فمنهم مَن يُنعم عليه بالمال والثروة، ومنهم من ينعم عليه بالسلطة والنفوذ، ومنهم من ينعم عليه بالصيت والشهرة، فلو أيقن العباد أنه سبحانه وتعالى مصدر هذه النعم، وتوجّهوا إليه بالشكر؛ فازوا وأفلحوا، أما إذا نسبوا النعم إلى أنفسهم، وجحدوا صاحبها؛ خسروا وهلكوا كما حدث مع “بلعم بن باعوراء” و”برصيصا” اللذين أشارت المصادر إلى مواطن الدروس والعبر في حياتهم، ومن يدري ربما ظهر عبر التاريخ الكثيرُ من أمثال بلعم بن باعوراء وبرصيصا؛ أساؤوا استعمال نعم الحق تعالى، فخسروا وهلكوا.
إذا أردنا دوام الألطاف السبحانية فعلينا أن نعترف بالصاحب الحقيقي للنعم أولًا، وأن نتوجّه إليه بالتقديس والتسبيح، وأن نقول: “إلهي، أنت مصدر كلّ النعم، وأنت الغني، وقد توجهْتُ إليك”.
ولا داعي لأن نذهب بعيدًا في أعماق التاريخ، ففي زماننا الحاضر هناك كثيرون أعطاهم الله السلطة والنفوذ، والصيت والشهرة، والمكانة العالية؛ ثم نسبوا كلَّ هذه الإمكانات إلى أنفسهم؛ فتدمرت حياتهم عندما انخدعوا بإقبال الناس عليهم وتصفيقهم لهم، فلبسوا رداء الكبر والغرور، وجعلوا من أنفسهم محرابًا للجميع، فقد كانوا يرغبون في أن يرتبط كلّ شيء بهم، وتُطرح كل المسائل عليهم، وتُحلّ كل المشاكل على يديهم، ويُصغي الجميع لقولهم؛ فدمروا دنياهم وآخرتهم بعد أن سجّل التاريخ سيرتهم بين أقذر صفحاته.
إن الخسارة كلَّ الخسارة في عدم الحيطةِ من هذه الأمور، والذين نذروا أنفسهم للخدمة الإيمانية والقرآنية أيضًا معرّضون لمثل هذه المخاطر، ولو أنهم ألقوا نظرةً على سيرة حياتهم لأدركوا كمّ النعم غير المتوقعة التي أحاطهم الله بها، لقد خصّ الله تعالى رجال الخدمة في بداية الأمر بنعمٍ لا يتصوّرها عقل، لقد كدنا نطير فرحًا عندما افتتحنا بضعة بيوتٍ للطلاب، وأعظمنا ذلك في أعيننا، ولما تحولت البيوت إلى مساكن طلابية وزاد عددها أصبحنا في عجبٍ أكبر وذهولٍ أعظم، ثم تلا ذلك إنشاء مئات المدارس ليس في تركيا فقط، بل في بلدان مختلفة من العالم، وأعقب المدارسَ افتتاحُ العديد من المحافل الثقافية والمراكز الحوارية، إلى غير ذلك من المؤسّسات.. وإننا لا ندري ما الذي ينتهي إليه هذا الأمر، لكن لا ريب أن الذي تفضل علينا بكلّ هذا أمس سينعم علينا بالمزيد غدًا إن شاء الله.
من الصعوبة بمكان أن يتورع الإنسانُ بعد المدح والثناء الذي يلقاه من الآخرين عن نسبة ألطاف الله وإحساناته إلى نفسه.
فلا يمكن أن تُنسب الخدمات التي تحققت حتى اليوم إلى عبقريّتنا الشخصية وقدراتنا المحدودة، وإلا ظهر تناقضٌ كبيرٌ بين الأسباب والنتائج، ولا يخفى على أحد أن الله تعالى هو الذي أحسن إلينا بكل هذا، ولذلك فإن وظيفة العبودية الملقاة على عاتقنا تقتضي التوجّه إلى الله بالحمد والشكر على نعمائه.
والحق أننا مهما توجّهنا إلى ربنا بالشكر والثناء له فلن نقدر على الوفاء بحق العبودية له، حتى ولو صمنا النهار وأقمنا الليل طيلةَ أعمارنا، وذهبنا للحج كلّ عام؛ فلن نؤدّي شكر النعم التي تفوق الحصر والتي أحسن الله بها علينا، ولذلك فعلينا ألا نقنع بعباداتنا وطاعاتنا.
“لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ”
يجب على الإنسان أن يعيش حياته بين مشاعر العجز والفقر والشوق والشكر، ولو راودت عقلَه فكرةُ أن يعزو شيئًا لذاته فعليه أن يعرض حاله على ربه ويئِنّ بقوله: “مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ يَا مَعْبُودُ، مَا عَرَفْنَاكَ حَقَّ مَعْرِفَتِكَ يَا مَعْرُوفُ، مَا شَكَرْنَاكَ حَقَّ شُكْرِكَ يَا مَشْكُورُ، مَا ذَكَرْنَاكَ حَقَّ ذِكْرِكَ يَا مَذْكُورُ، مَا حَمِدْنَاكَ حَقَّ حَمْدِكَ يَا مَحْمُودُ، مَا سَبَّحْنَاكَ حَقَّ تَسْبِيحِكَ يا مَنْ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ”.
لا يمكن أن تُنسب الخدمات التي تحققت حتى اليوم إلى عبقريّتنا الشخصية وقدراتنا المحدودة، وإلا ظهر تناقضٌ كبيرٌ بين الأسباب والنتائج.
فإذا تمكنا من العيش على هذا النحو وتعاملنا مع هذه النعم بشعور الشكر والامتنان؛ زادنا الله من نعمه، لأنه تعالى يقول في كتابه الكريم: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾ (سورة إِبْرَاهِيمَ: 14/7)، وإلا فسنُحرم من الألطاف السبحانية..
البعض يقول: “نحن أحفاد عرقٍ يصنع الأبطال”، فلو قلنا مثلهم: “نحن أفراد جماعة فتحت العديد من المؤسسات التعليمية في كل أرجاء العالم”، ونسبْنا كلَّ الجماليات إلى الأنانية الجماعية، وعزوناها إلى أنفسنا؛ فسنتعرّض للوعيد الإلهي الذي جاء في ختام الآية السابقة: ﴿وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ (سورة إِبْرَاهِيمَ: 14/7)، فإذا أردنا دوام الألطاف السبحانية فعلينا أن نعترف بالصاحب الحقيقي للنعم أولًا، وأن نتوجّه إليه بالتقديس والتسبيح، وأن نقول: “إلهي، أنت مصدر كلّ النعم، وأنت الغني، وقد توجهْتُ إليك”.
من الصعوبة بمكان أن يتورع الإنسانُ بعد المدح والثناء الذي يلقاه من الآخرين عن نسبة ألطاف الله وإحساناته إلى نفسه، هذه مسألةٌ تتطلّب الحيطة والحذر؛ فقد تتلوّث أفكاركم ومشاعركم بمدح الآخرين لكم ببعض فضائلكم ومزاياكم، فتنسون الله، وتنسبون المزايا المذكورة إلى أنفسكم، ورأيي أنه لا ينبغي أن تكون مثل هذه الأفكار -التي يُشمَّ منها رائحة الشرك- موضعَ ترحيبٍ حتى في أخيلتكم، بل أقول ما هو أبعد من ذلك لا بدّ أن تتجنّبوا رؤية هذه الأشياء حتى في منامكم؛ لأننا إذا نظرنا إلى المسألة من وجهة نظر “فرويد” فسنجد أن بعض الأحلام هي تعبيرٌ عن مكتسبات العقل الباطن.
كل هذه الأمور هي متطلبات طريق العجز والفقر والشوق والشكر التي بيَّنها الأستاذُ سعيد النورسي رحمه الله استنادًا إلى المبادئ الأساسية في القرآن والسنة، فليس تفضّلًا من الإنسان إدراكُ عجزهِ وفقره، ولكنه اعترافٌ منه بالحقيقة وبموقفه العام، ولا يُتصوَّر من إنسانٍ حدّد موقفه أمام الله جيّدًا أن يكون تفكيرُه خلاف ذلك.
ومَن يرى ألطافَ الله تعالى التي تتنزّل عليه زخًّا زخًّا لا يتملكه اليأس والقنوط، فبما أن مقاليد كل شيء بيده، وطالما أن كل شيء يأتي منه ويعود إليه؛ فلماذا أستسلمُ لليأس؟! قد يكون المنظر في ظاهره محبِطًا، ولكن ما دمتُ أوقن بأنه هو الذي يمهِّد الطريق، ويهدينا إلى سواء السبيل، ويكفل لنا سلامة السير بالقضاء على الغيلان التي تترصدنا فلماذا ينتابني هذا الإحباط؟! وما دمتُ أومن يقينًا بأن الله هو الواهب والآخذ، وهو الواهب مرّةً أخرى فلِمَ أقع في مستنقع اليأس؟! بالعكس يجب أن أتمسك بالعزيمة، وأسلك طريق الشوق وهو أساس آخر في المسألة.
فلا حرج إطلاقًا أن ننظر بهذه النظرة إلى الأعمال التي نقوم بها، فالله تعالى بيده التقدير والتدبير، أما نحن فنشبه الأشخاص الذين كُلِّفوا بتعمير مبنى أصابه الخراب والدمار، فلو أننا نظرنا إلى المسألة هكذا، فسنتوجه بالحمد والشكر إلى الله تعالى على استعماله لنا في الأعمال الجميلة، ونحاسب أنفسنا قائلين: “يا تُرى هل أستطيع أن أستوفي حقّ الأعمال التي كلفني بها ربّ العباد سبحانه وتعالى؟ وهل أستطيع أن أستغلّ موقعي بشكلٍ مثمِرٍ؟
وكما أن ادعاء ملكية الألطاف الإلهية شركٌ خفي واغتصابٌ للحقوق الإلهية، فإن من الجحود أيضًا تجاهل كل هذا، فكلاهما خطأ، والأفضل هو إدراك ألطاف الله علينا، والتنويه بها من باب التحدّث بنعمة الله علينا، والتوجه إلى الله بالحمد والثناء على استخدامه لنا في مثل هذه الخدمات الجليلة.
استقامة الفكر
ليس من اليسير مطلقًا الحفاظ على استقامة الفكر في مثل هذه المسائل كما أوضحنا سلفًا، فهذا لا يتأتى إلا بسلوك الطريق المستقيم، ولكن قد يتعذّر الحفاظُ على سلامة الطريق بعد الدخول فيه، فتحدث بعض التعرّجات والانزلاقات، وقد لا تُراعى آداب الطريق، ولا يُستوفى حقّ هذه النعم، وبناء على ذلك قد يتلقى الإنسان صفعات الشفقة، ويتعرّض لبعض الابتلاءات من قبيل الإنذار والتحذير، فقد يُسلّط اللهُ عليه بعض الظالمين، ويتعرّض للتهجير والتهديد والظلم والقمع والإدانة والاعتقال والتنكيل، فإذا نظرنا إلى كلّ هذا على أنه صفعةٌ من صفعات الشفقة فإن المتاعب التي نلاقيها ستدفعنا إلى الرجوع إلى ربنا تائبين منيبين أوّابين، فإذا كانت تصرفاتنا لا ترضي ربنا فعلينا أن نستغفر الله ألف مرة وليس مرة واحدة.
فإذا قُيّم الظلم والقمع على أساس هذه الملاحظات فإن المشاعر التي تنتاب المرء إزاء الآلام التي يتذوّقها تتحوّل فجأةً من الكراهية والاستياء ومن القاعدة الظالمة “المقابلة بالمثل” إلى رحمةٍ وشفقةٍ، فلا يؤسف في ذلك إلا على من يكونون نقطةً سوداء في صفحات التاريخ.
إن تحديد طور عبوديتنا وفقًا لوضعنا أمام ربنا سبحانه وتعالى يتطلّب جهدًا جهيدًا، وإلا وقعنا دون وعيٍ منا في خطإ نسبة ألطاف الله تعالى إلى أنفسنا.
إن الله تعالى قد استعمل رجال الخدمة الإيمانية والقرآنية حتى اليوم في خدماتٍ جليلة، وهيّأ لهم الكثير من الإمكانات مثل: التطهير -ولو جزئيًّا- للقطران المتناثر على الوجه الوضيء للإسلام، وتغيير الأحكام المسبقة ضدّ الدين، وإقامة جسور السلام بين الناس عن طريق الحوار والتعليم، وحتى اليوم يواصلون السير في الطريق نفسه، أملنا في الله تعالى أن تتضاعف هذه الخدمات وتستمرّ في المستقبل! فإن كنتم واثقين من سلامة السير، فستشعرون بالشفقة على هؤلاء الذين يحاولون اعتراض سبيلكم، ويطلقون ضدّكم الدعايات المغرضة، لأنه في اليوم الذي تُمسّ فيه غيرة الله ستعرفون كيف يخيّب المولى عز وجل مسعى هؤلاء الظالمين ويردّ كيدهم في نحورهم، وعندما تفكرون في الثمن الذي يدفعه هؤلاء الذين يظلمون الناس اليوم أمام المحكمة الإلهية، فستأسفون على حالهم، وتشفقون عليهم.