يخرج الناسُ في يومنا الحاضر لقضاء العطلة في أوقاتٍ معيَّنةٍ من العام؛ بغية أن يتخلّصوا من رتابة العمل، وينعموا بالراحة والمتعة كما يحلو لهم، فيهجرون بيوتهم في أشهر الصيف خاصّةً، ويبتعدون عن أماكن عملهم، ويتوجّهون المصايف والمنتجعات السياحية، وبينما يفعل البعض هذا ضمن دائرة الشرع يغرق الآخرون في الغفلة ويرتكبون المعاصي والموبقات؛ حيث تلهيهم أماكن العطلة والأنشطة التي تُمارس فيها عن دينهم وتُبعدهم عن ربهم، فالبعض يستغلُّ عطلته في تهدئة روحه وإعادة شحن طاقته، بينما البعض الآخر لا تزيده العطلة إلا تعبًا وإرهاقًا.
لا مجال للكسل والخمول في حياة المؤمن، فلقد كان الجدُّ والاجتهاد والحركة الدائبة من المقوّمات التي رفعت المسلمين في عصور الإسلام الأولى إلى الذرى.
والعطلة في أحد معانيها تعني الاستسلام للخمول والكسل، بيد أننا نستخدمها اليوم بمعنى أخصّ، فماذا تعني العطلة بالنسبة للمسلم؟ وكيف للمسلم أن يقضي هذه الشريحة من الوقت؟
شأن المؤمن أن يكون في حركةٍ دائبة، فإذا فرغ من عملٍ نصب إلى عمل آخر، فهو يستريح حين يتعب من عمله، وحين يستريح يشتغل بعملٍ آخر، ولقد أشار القرآن الكريم إلى ضرورة ألا يستولي الكسل والخمول والتوقف والركود على حياة المسلم، يقول ربنا سبحانه وتعالى: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾ (سورة الشَّرْحِ: 94/7-8). وعلى ذلك فإن المؤمن يجد راحته في تبديله لعمله، وانتقاله من عملٍ إلى آخر، وأيًّا كان العمل الدنيوي الذي يشتغل به لا ينسى ربَّه، ولا يبتعدُ عنه، فإذا ما ضاقت نفسه من الأعمال الدنيوية التقط أنفاسه وشغل نفسه بالصلاة والدعاء وقراءة الأوراد والأذكار.
متى ما تخلّى العالم الإسلامي عن السعي والاجتهاد وبدأ يستسلم للنوم والراحة أصبح لعبةً في أيدي الطغاة والمستبدين.
أجل، الإنسان بمقتضى فطرته يملّ ويسأم من عمل الشيء نفسه دائمًا، فإذا ما أصابه الملل من العمل الذي يقوم به انتقل إلى عمل آخر، وتخلص من ملله وضجره بالاشتغال بأمرٍ آخر، فمثلًا حين يرهقه عملٌ ذهني أو فكري ينتقل إلى نشاط بدني، وإذا أتعبه العمل البدني اتجه هذه المرة إلى شيء ينشّط قلبه وروحه، وبذلك يكون قد أدى كلَّ ما تتطلّبه بنيتُه المادية والمعنوية، وأقبل على أيّ عملٍ يعمله بعشقٍ وشوقٍ ونشوةٍ، بلا سأمٍ ولا ضجر.
هذا هو معنى الراحة والاسترواح بالنسبة للمؤمن، فراحته في الوثوب من عملٍ إلى آخر على الدوام، ولا مكان في حياته للدعة والخمول، وهذا يعني أن يعيش المسلمُ الحياةَ بكل جوانبها المختلفة، وأن يزيح عن نفسه التعب في عملٍ ما بالاشتغال بعملٍ آخر، فإذا استوعبنا هذا الملمح اللطيف والسرّ الكبير في هذا الأمر الموجّه -في الآية الكريمة- إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم استطعنا أن نستثمر حياتنا كلها بشكلٍ أكثر بركةً وفاعلية وإنتاجية.
أجل، قد يتعب الإنسانُ من العمل الذي يقوم به، ويصيبه الضجرُ والملل من الاشتغال بالشيء نفسه دائمًا، ويشعر بالحاجة إلى الراحة والاسترواح والخروج إلى العطلة، لكن المسلم لا يقضي وقته سدًى حتى أثناء العطلة، ولا يستغرق في المتعة بلا قيد أو اعتدال، فاستراحته لا تمنعه من الاشتغال بأعمال أخرى في مجالات مختلفة، بمعنى أنه في حركة وعمل حتى في وقت راحته.
فمثلًا مخيّمات القراءة التي ينظّمها الإنسانُ مع أصدقائه لها الكثير من المنافع الذهنية والقلبية والروحية، كما أنها فرصةٌ للراحة والاستجمام، ويا حبّذا لو أقيمت مثل هذه المخيمات في الأرياف واستَنْشَق الإنسانُ الهواءَ النقيَّ الذي تتّسم به الأرياف، وابتعد عن مشاغله الدنيوية، وانزوى في مكانٍ هادئ يروّح فيه عن نفسه، ويتخلّص فيه من تعبه؛ عندها سيأخذ قسطًا من الراحة وسيلبِّي حاجتَه إلى العطلة، ويتغذّى معنويًّا.
ولو أُتيحت الفرصة يمكن أن تُقام هذه البرامج بين الأسر، ويُشجّع الأطفال على الاشتراك فيها، ويمكن للذين يشعرون بالملل والضيق من بيوتهم وأعمالهم واشتغالهم بنفس الشيء طوال الوقت أن يجدوا راحتهم في القيام بالأنشطة المتنوعة في هذا الجوّ المتميّز، وإلى جانب الأنشطة الترفيهية يمكن مثلًا تعليم تلاوة القرآن، ومطالعة الكتب، وقراءة الأذكار والأوراد، وتنظيم البرامج النافعة.
المؤمن لا يفعل شيئًا لمجرّد أن الآخرين يقومون به، فلديه مقوّماتٌ خاصّةٌ بحياته، ومن ثم لا يركن إلى الدعة والخمول، لا في وقت العمل ولا في وقت العطلة.
لقد ازدادت المشاغل والأعمال واشتدت ضغوطات الحياة في عصرنا إلى أن أصبح الناس لا يستطيعون أن يخصّصوا وقتًا كافيًا للقراءة والعبادة والغذاء الروحي، وربما تكون أوقاتُ العطلة فرصةً للقيام بمثل هذه الأعمال التي لم تحن الفرصة للقيام بها في أيام العمل، فبفضل الأنشطة المختلفة ننعم بالراحة ونستثمر وقتنا بشكلٍ جيّد، فضلًا عن ذلك فإن مثل هذه الأنشطة تُبعدنا عن الجوّ الخانق المملّ للحياة اليومية، وتخلّصنا من الإلف والتعوّد، وتتيح لنا الفرصة لنعيش حياتنا بشكل أكثر حيويّة وفاعليّة.
المؤمن إذا ما ضاقت نفسه من الأعمال الدنيوية التقط أنفاسه وشغل نفسه بالصلاة والدعاء وقراءة الأوراد والأذكار.
قد يمكن للإنسان أن يقرأ وحده الكتب، ويشغل نفسه بالدعاء، وقراءة الأوراد والأذكار، ولكن إذا اجتمع عددٌ من الناس في مكانٍ ما تحملهم على ذلك النوايا الحسنة والمقاصدُ العالية، وكان مدارُ حديثهم حول الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ فسيتشكّل من خلال هذا التجمّع عالمٌ خاصّ بهم، ويتهيّأ جوٌّ مختلف لهم، ويتوطّد التآزر والتفاعل فيما بينهم.. كما أن تنفُّسَ هذا الجوِّ يخلق تأثيرًا مختلِفًا في عالم الإنسان القلبيّ والروحيّ والعاطفي، حيث ينفتح في هذا الجوّ على عوالم أخرى، وينفعل بمشاعر مختلفة، ويشعر وكأنه يسير في أروقة الجنة، ويخرج من هنالك وقد استراح ذهنيًّا وبدنيًّا، وتنشّطَ روحيًّا، وبهذه الطاقة التي استمدّها من هذا الجو يحافظ على حيويته لفترة طويلة من الوقت.
أجل، لا مجال للكسل والخمول في حياة المؤمن، فلقد كان السعي والجدُّ والاجتهاد والحركة الدائبة من المقوّمات التي رفعت المسلمين في العصور الأولى للإسلام إلى الذرى، أما ما أهلكَنَا فهو الولع بالراحة، والحرص على متعة النفس، والركون إلى الدعة والخمول، ومتى ما تخلّى العالم الإسلامي عن السعي والاجتهاد وبدأ يستسلم للنوم والراحة أصبح لعبةً في أيدي الطغاة والمستبدين.
شأن المؤمن أن يكون في حركةٍ دائبة، فإذا فرغ من عملٍ نصب إلى عمل آخر، فهو يستريح حين يتعب من عمله، وحين يستريح يشتغل بعملٍ آخر.
الجميع يخرج للعطلة كما يحلو له، ويطوِّر من نظام حياته وفق ذلك، ويجدّ ويكدح طوال العام من أجل قضاء عطلة جميلة فقط.. هذا ما يفكر فيه الجميع.. أما المؤمن فلا يفعل شيئًا لمجرّد أن الآخرين يقومون به، فلديه مقوّماتٌ خاصّةٌ بحياته، ومن ثم لا يركن إلى الدعة والخمول، لا في وقت العمل ولا في وقت العطلة، لا سيما الذين نذروا أنفسهم لخدمة الدين وجعلوا فلسفتهم في الحياة العيشَ من أجل إحياء الآخرين، عليهم أن يعيشوا ضمن الدائرة التي حددت إطارها المصادرُ الرئيسة في تراثهم الثقافي، وأن يكون لديهم إرادة وتصميم على العمل على نحو لا يسمح بتسرّب الكسل والخمول إلى حياتهم، فإن شعروا بالحاجة إلى الراحة بمقتضى طبيعتهم البشرية قاموا بعطلتهم وهم يحافظون على معالمهم الذاتية.