سؤال: كيف لنا أن نفهم الحديث الشريف الذي يقول: “حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ”[1]؟
الجواب: الحديث الوارد في السؤال هو حديثٌ صحيحٌ رواه الشيخان البخاري ومسلم رحمهما الله، وهو في الوقت ذاته يُعدّ برهانًا ساطعًا على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم؛ أي يتكلّم بالكلامِ الموجزِ، صغير المبنى، ثريّ المعنى.
والمقصود من قوله صلى الله عليه وسلم: “حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ” أن الجنة حُفّت بما تأباه النفس ويشقّ عليها، فمن جاهد نفسه، وصبر على هذه المكاره، أي أدّى تكاليف العبودية؛ فمآله الجنة.. أما جهنم فقد حُفّت بما تحبّه النفس وتميل إليه، فمن اتبع نفسه وهواه؛ فمصيره الغيّ في جهنم.
إذا أردنا أن نتجاوز الحواجز التي تحيط بالجنة ونفوز بالنعيم الأبدي فعلينا أن نعوّد أنفسنا على أداء العبادات، وأن نجعل الفرار من الذنوب جزءًا من طبيعتنا.
ولفهم الحديث جيدًا يجدر بنا أن نتوقّف عند كلمتي “المكاره والشهوات” اللتين خصّهما النبي صلى الله عليه وسلم بالذكر لتوضيح الموضوع، وتحليلهما بإيجاز.. فـ”المكاره” جمع “مكْرَه”، وتتّفق مع كلمة “مكروه” في نفس الجذر، وتشبهها من حيث المعنى، والمكاره هي كل ما يكرهه الإنسان، ويشقّ على النفس الإتيان به، ويتمخّض عن فعله الضيق والحرج، وقد استعمل القرآن الكريم الفعل والصفة المشتقَّينِ من هذه الكلمة في قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ (سورة البَقَرَةِ: 2/216).
الإنسان لا يقدر على كبحِ جماح أهوائِه ورغباتِه ومشاعرِه الشهوانية إلا إذا وفى إرادته حقّها.
فكلّ ما يستلزم الصبر يندرج تحت فئة المكاره؛ بمعنى أن تحمّلَ الإنسانِ لعبء العبادات ومشاقّها، وصبرَه عن المعاصي والذنوب رغم إلحاح رغباته الجسمانية وأهوائه النفسية، وتحلّيه بالرضا وتجمّله بالصبر عند وقوع البلايا والمصائب؛ من أهم السبل التي توصّله إلى الجنة. فالنفس تكره مثل هذه المشاقّ، ويشقّ عليها تحمّلها والتغلّب عليها، ومن ثم يخبرنا الحديث الشريف بأن الجنة قد حُفّت بما تأباه النفس وتكرهه، فإن كان المؤمنون يطمحون في الوصول إلى الجنة فعليهم أن يتغلّبوا على جميع هذه المشاقّ والشدائد.
وكلُّ عملٍ له أعباؤه وصعوباته الخاصّة، فمثلًا يشقّ على الإنسان أن يتوضّأ ويصلّي في البرد الشديد القارس مقارنةً بالأيام العادية، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟” قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: “إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ“[2].
كما أن الذبابة العالقة في وعاء العسل لا تستطيع الخروج منه وتتلوى عبثًا من أجل الخلاص؛ فكذلك الإنسان لا يستطيع الهروب بسهولة من المستنقع الذي سقط فيه.
وركن الحجّ أشدّ مشقّةً من ذلك كله، وخاصة في الأزمنة الماضية التي كان الناس يرتحلون فيها إمَّا سيرًا على الأقدام أو على ظهور الخيول والبعير، ويواجهون في سبيل ذلك المخاطر والمصاعب العظام، لذلك اشتراط القرآن الكريم الاستطاعة المالية والبدنية لأداء فريضة الحجّ لما في هذا الأمر من مشقّةٍ بالغةٍ، يقول الحق تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/97)، ولكن بقدر هذه المشقّة الكبيرة كان الأجر أعظم، فيقول صلى الله عليه وسلم: “مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ“[3].
والمشقّة الحاصلة بسبب الجهاد -عندما تقتضيه الظروف- أعظم من كلّ ما سبق، ولهذا السبب تمّ التأكيد على ثواب الجهاد وفضائله في كثير من الآيات والأحاديث، فمثلًا يقول ربنا تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾ (سورة التَّوْبَةِ: 9/111)، فالآية هنا تؤكد على تكاليف أخرى أمر بها الدين ويشقّ على الإنسان القيام بها، ومن ثم حُفّت الجنة بمثل هذه الأعمال الصالحة التي تشقّ على النفس، ولا يمكن الوصول إليها دون التغلب على هذه المشاقّ وتجاوزها.
ويكمن عدم إقبال النفس على مثل هذه الأوامر الدينية في أن النفس تميل إلى المتع والراحة، وتتوق إلى الملذّات الحاضرة، ولا تقدر على رؤية العاقبة، ولا تستوعب الحِكم والمنافع الكبيرة التي تكمن وراء التكاليف المأمور بها، والواقع أن كلّ العبادات مثل الوضوء والصلاة والصيام والزكاة والحجّ تنطوي على حِكمٍ دنيوية وثمراتٍ أخرويّة أدرجها علماءُ الإسلام في مؤلّفاتهم، وإن من أهمّ هذه الحِكَم أنها تقرّبنا إلى الله، وتجعلنا ننال رضاه، وتهيّئنا للآخرة، وتؤهّلنا للفوز بالنعيم الأبدي.. فالعبادات بالنسبة لمن ينظر إلى كلِّ هذا بعين الاعتبار تخرج عن كونها مكاره، ولكن لا يمكن غضّ النظر عما تنطوي عليه من مشاقّ وأعباء في ظاهرها.
ولا ننسَ أن المكاره تختلف من إنسانٍ لآخر، ومن وقتٍ إلى آخر، فمثلًا قد تبدو العبادات شاقّةً على الإنسان في بداية الأمر، لكن إذا اعتاد عليها بالتمرّن والممارسة، وجعلها جزءًا من طبيعته؛ أخذت الصعوباتُ تَسْهُل عليه حتى إنه يشعر بالأسف والحزن عندما تفوته إحدى هذه العبادات التي ألفها، بل إن الإنسان بعد مستوًى معيّنٍ يتلذّذ بالعبادة والطاعة كما يتلذّذ بالمأكل والمشرب والأهل والأولاد، ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يتلذّذ بالصلاة كما يتلذّذ أحدنا بمأكله ومشربه، ولكن هذه اللذّة يحظى بها الذين بلغوا ذرى الكمال، ولا تتيسّر لكل إنسانٍ.
أما الكلمة الثانية في الحديث فهي “الشهوات”، والشهوات جمع شهوة؛ وهي كلُّ ما تشتهيه النفسُ وترغب فيه وتميل إليه، وعلى هذا فالمكاره والشهوات متناقضان من حيث المعنى.. فالذنوب التي حرمها الإسلام تجذب النفسَ وتستهويها؛ فالنفس تريد أن تأكل وتشرب كما تشاء دون اعتبارٍ لحلالٍ أو حرام، وأن تفعل ما تشتهيه، وأن تنال أكبر قدرٍ من اللّذّة والمتعة من الحياة الدنيا، وفي سبيل تحقيق هذا الهدف تجعل الإنسانَ يتعلّق بها وتجرّه نحو الذنوب، فإذا ما وقع الإنسانُ مرّةً في مستنقع الآثام صعُب عليه أن يوفِّي إرادته حقّها، فكما أن الذبابة العالقة في وعاء العسل لا تستطيع الخروج منه وتتلوى عبثًا من أجل الخلاص؛ فكذلك الإنسان لا يستطيع الهروب بسهولة من المستنقع الذي سقط فيه.
والحقُّ أن الإنسان لا يقدر على كبحِ جماح أهوائِه ورغباتِه ومشاعرِه الشهوانية إلا إذا وفى إرادته حقّها، فإن أصرّ على أداءِ العبادات، ومنع نفسَه من الحرام، وحافظَ على موقفه؛ سهل عليه الأمر بعد ذلك مع مرور الوقت، بل إنّ مَن تجاوز النفسَ الأمّارةَ إلى النفسِ اللوّامة والنفسِ المطمئنّة، ووصل إلى مستوياتٍ أبعد من ذلك؛ استطاع التحكمَ في نفسِه كلّيّةً، وبعد نقطةٍ معيّنةٍ تضطرّ النفسُ إلى أن تسلس له قيادها، ولا تخرج عن العقل والإرادة.
الجنة حُفّت بما تأباه النفس ويشقّ عليها، فمن جاهد نفسه، وصبر على هذه المكاره، أي أدّى تكاليف العبودية؛ فمآله الجنة.
ولذلك فإنّنا إذا أردنا أن نتجاوز الحواجز التي تحيط بالجنة ونفوز بالنعيم الأبدي فعلينا أن نعوّد أنفسنا على أداء العبادات والطاعات، وأن نجعل الفرار من الذنوب جزءًا من طبيعتنا، وأن نتخذ موقفًا حازمًا وواضحًا تجاه الذنوب والآثام، وأن نجعل النفسَ مدركةً للعواقب الوخيمة المترتّبة على الذنوب والمعاصي حتى يصل بنا الأمرُ إلى أن نكره الذنوب كما نكره أن نُقذف في النار.. ولا ننسَ أن النفسَ ستمارس تأثيرَها علينا ونحن في طريقنا للوصول إلى هذا المقام؛ بمعنى أنها ستكرّه إلينا العبادات والطاعات وتحبِّبنا في الذنوب والمعاصي.
وكما يقول بديع الزمان سعيد النورسي: “انسلخْ من الحيوانية، وترفّعْ عن الجسمانية، وانسلّ من سجن البدن، وارتقِ إلى مرتبة الحياة القلبيّة والروحيّة”[4]، فالشخص الذي يحلّق لأعلى، ويرتقي إلى هذا المستوى من الحياة؛ ينأى بنفسه عن جاذبيةِ النفس، وبالتالي لا يكون هدفًا للشيطان، ولا يقع في حبائل النفس وشراكها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] صحيح البخاري، الرقاق، 48؛ صحيح مسلم، الجنة، 1.
[2] صحيح مسلم، الطهارة، 41.
[3] صحيح البخاري، الحج، 4؛ صحيح مسلم، الحج، 438.
[4] بديع الزمان سعيد النورسي: اللمعات، اللمعة السابعة عشرة، ص 188.