يقول الله تعالى: ﴿لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمٰوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَۤا أَصْغَرُ مِنْ ذٰلِكَ وَلَۤا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ (سورة سَبَأٍ: 34/3).
إن هذه الآية تُبيِّن -أوّلًا وبالذات- أنه لا يخفى على اللهِ تعالى شيءٌ، ولا يخرج عن حدود إحاطة علمه وسمعه وبصره شيءٌ. نعم، إن كلَّ شيءٍ -بدءًا من أدقِّ العوالمِ الذَّرية وأصغرِها، وانتهاءً بعوالم أكبر الأجرام السماوية- لهي في يدِ قدرتِهِ بمثابة خرزات السُّبحة يقلبها كيف يشاء، فالآية تحدِّثنا عن هذا، ولكنها في الوقت نفسه تلْفِت أنظارنا إلى بعض الحقائق العلمية.
والذرة هي في لغة عصرنا -كما في لغة السابقين- تعني ما يسمونه (Athom)، ولكن الناس في العصور الغابرة من حيث إنهم ما كانوا يعرفون حقيقة الذرة كانوا يفهمونها على أنها أجزاء الغبار التي تلوح أمام النوافذ إذا دخل منها أشعة الشمس، لأنها كانت أصغرَ أجزاء المادّة في نظرهم في تلك الأزمان، والذي يهمّنا هنا هو إطلاق هذه الكلمة على أصغرِ أجزاء المادة.
ولكن في زماننا هذا صارت كلمة الذرة تُطلَق تماما على ما يسمونه (Athom)، ومما يجلب النظر في هذا المقام أربع تعبيرات:
الأول: “الذرة” أي (Athom).
والثاني: ما هو أصغر من الذرة ومن مكوِّناتها، وهو “الإلكترون”.
والثالث: ما هو أكبر من الذرة، وهو “الجُزَيْء”.
والرابع: تعبير “مثقال ذرة” ويشير -والله أعلم- إلى “الوزن الذَّرِّى”.
فلن يخرج شيءٌ عن دائرة إحاطة علم الله تعالى؛ سواء كان ذلك ذرةً أو إلكترونًا أو جُزَيْـئًا.
وأما عن “مثقال ذرة” فمِن المعلوم أن موضوع الوزن الذرّي من الأهمّيّة بمكان في علم “الفيزياء الذرية”. والعلماء في الماضي كانوا قد وضعوا على الهيدروجين رقم (1) وعلى اليورانيوم رقم (228)، فالوزن الذرّي للهيدروجين هو الأخفّ، في حين أن الوزن الذري لليورانيوم هو الأثقل.
إن العلم الحديث وَضَعَ ضوابطَ وأصولًا لِما أشار إليه القرآن قبل عصور من اكتشاف الوزن الذرّي، وبيَّن الوزنَ الذرّي لكل واحد من المواد (العناصر).
وفي الآيات الثلاث الأولى من سورة الذاريات ما يلقي الضوء على هذا الموضوع بإشارتها؛ قال تعالى:
﴿وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا﴾ أي أُقسم باللواتي تذرو الترابَ وتُثير الغبار… والنظريةُ الإلكترونية التي وضعها لورنز تقول: إن المحورَ المتناهيَ الصِّغَرِ للذرة يُشْبِهُ المنظومةَ الشمسيَّةَ، وكأنه منظومةٌ شمسيّة صغيرة.
وقُطرُ ذرّة الهيدروجين التي هي أخفّ الذرات وزنًا، هو عشرة بالمليون للميليمتر، وفي مركزه نواةٌ محمَّلةٌ بتيَّارٍ كهربائيٍّ موجبٍ، وفي حواليه إلكتروناتٌ محمَّلةٌ بتيَّارٍ كهربائيٍّ سالبٍ، وهذه الألكترونات محيطة بالنواة على شكل سحابةٍ، ويدور إلكترونُ الهيدروجينِ بسرعةِ حوالي ألفي كيلومتر في ثانيةٍ واحدةٍ، بينما يدور إلكترون اليورانيوم بسرعة مئتي كيلومتر… وكان من المفترَضِ أن تنعدم هذه الطاقةُ شيئًا فشيئًا، وأن تنعدم -بالتالي- الحركةُ بسبب ذلك بعد مدَّةٍ وتتوقَّفَ، ولكن لم يحصل شيءٌ من ذلك.
﴿فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا﴾ أي أُقسِم باللواتي تحملُ أحمالًا ثقيلةً، والتيَّار الموجبُ الذي في النواة يكونُ في البروتون لأنه هو الذي سيتحمَّلُ الثقل، وأما النترون فمن المعلوم أنها لا تيّار فيها.
﴿فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا﴾ أي التي تجري بسهولة.
والنترونات على نوعين:
منها ما هو في غايةِ السرعة الفائقة، وتقرُب سرعتُها من سرعة الضوء، وتملكُ طاقة هائلةً بحيث إن منها ما يثقبُ اللائحات الرصاصيّة التي سَمْكُها ثلاثون سنتيمتر، وتمرّ من خلالها بسهولة.
وقسمٌ آخر من النترونات بطيئة، سرعتها تفوق سرعة الجزيئات قليلًا، فهي تُضبط مِن قِبَل النواة التي تَمُر هي بها في طريقها، فتنشطر النواة، فتتولَّد من التيار الذي يحصل نتيجة هذا التفاعل نتروناتٌ تتراوح سرعتُها بين (5-10) مليون إلكترون فولت (electronvolt=e)، ففي قوله تعالى ﴿فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا﴾ إشارة إلى هذا -والله أعلم-.
المصدر: فتح الله كولن، خواطر من وحي سورة الفاتحة، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.
ملحوظة: عنوان المقال من تصرف المحرر.