إن ماهيتك أرقى حتى من الملائكة
فالعوالم فيك مكنوزة والدُّنا فيك مَطويَّة
(محمد عاكــف أرســوي)
إن الإنسان هو الموضوع الأساس لجميع الأفكار الفلسفية والمذاهب العلمية.. فلا يمكن إنشاء فلسفة ولا مزاولة علم بمعزل عن أخذ الإنسان بعين الاعتبار.. فهو الموضوع الرئيس للعلوم المادية واللامادية، وليس لما سوى ذلك وزن ولا قيمة إلا بمقدار علاقته بالإنسان.
حوله تلتف العلوم بفروعها المختلفة، وللبحث عن جوانبه المتعددة تضع العناوين.. وإليه تسير الكتب سيرًا حثيثًا، وبه تمتلئ وتبث الأنوار.
إن إلإنسان بتصميم شكل جسمه، وتحديدِ وظائف أعضائه، كيانٌ بديع يفوق حدود التصور، فإذا قمنا بتشريح جوهره أو عضو من أعضائه فلن نتمالك إلا أن نقف أمامه بالحَيرة والانبهار.
أما العمق الذي يتمتع به عالمه الداخلي، وما يمتلكه من موهبة التوسع في الأبعاد فَحدِّثْ عنها ولا حرج! فهناك دماغ معقَّد، وروحٌ يصعب علينا إدراك ماهيته من خلال ما نملكه من المقاييس المادية، وعلاقةٌ متناغمة كاملة بين هذين الكائنين (الدماغ والروح) المحاطَين بالأسرار.. فكل واحد من هذه الأمور ذو معاني عميقة تبلورت من الألوان الموجودة في أعلى طبقات هذا الصرح الرائع.
ولكننا لن نتطرق الآن إلى جانبه الظاهري البديع، ولا إلى باطنه الذي نستشف جانبًا منه من خلال هذا الموشور [الظاهري].. بل سنتحدث عن بضعة من مواهبه وقدراته التي يَرقَى بها نحو المعالي.
إن الإنسان بكل عناصره، كائن يصعب فهمه وإدراك كنهه. ومنذ قدومه إلى الدنيا تبدأ جوانبه الغريبة وحالاته العجيبة لتنكشف واحدة تلو الأخرى.
فبينما يقدم غيره من الكائنات إلى الدنيا من البداية مزودًا بغرائزه المثالية، خبيرًا بقوانين الحياة وكأنه تَلَقَّى تدريبًا في عالم آخر، يأتي الإنسان -على الرغم من كونه أروعَ وأعظمَ الكائنات- إلى هذا العالَم محرومًا من كل هذه الانسياقات والغرائز، ليس لديه دراية بالمهام الضرورية للحياة.. فكل ما عدا نظامه الميكانيكي يتشكل هنا بفضل ما أُودِع فيه من العقل والذهن والإرادة والحرية والحس والاستطلاع الداخلي.. ولا يحظى بالتكامل الخارجي والداخلي، ولا يصل إلى ذاتيته إلا عبر هذا الطريق.
فهذه المواهب الإنسانية -التي تُعتَـبَر بمثابة “نية” ورمزٍ لكونه “إنسانَ المستقبل الكبيرَ”- لا يمكن تنميتها وتطويرها إلا من خلال التربية والتعليم، ولا تتسع أبعادها إلا عن طريق المشاهدة والمراقبة الداخلية. أما إذا تركنا لها المجال لتنساق سائبةً، فإن هذه النواة أو مجموعة النَّوى التي من شأنها أن تصبح أكمل شيء وأَمْثَلَه، ستكون معرضة للسقوط في أتعس الأحوال وفي وضع مُزْرٍ يُرثَى له.
وبينما يولد الأسد مزوَّدًا مخالبه التي يحتاج إليها، ويولد الثور بقرونه، والكلب بأنيابه، فإن الإنسان يُرسَل إلى هذا العالم وقد أوسِد إليه أن يتولى أمرَ إعدادِ أدواته التي يدافع بها عن نفسه أو يَهجُمُ بها على أعدائه.
فعليه أن يستخدم الأدوات التي يخترعها ببصيرته وذكائه وإرادته وعقله حتى يَجلبَ ما يحتاج إليه لمواصلة حياته ودَفْعِ كل ما يضرّ به، وبذلك يؤسس عالَمه الفردي والإنساني، عالَمه الإنساني المليءَ بالسعادة والطمأنينة، ثم يَترك للأجيال اللاحقة الآثارَ التي صنعها، والقِـيَـمَ التي أنتجها وأقامها في عالمه القلبي والفكري.
عليه أن يفعل هذا، لأنه لا يعيش -فقط- اللحظةَ التي هو فيها، بل يَنظر إلى الزمان الماضي والمستقبل على أنهما من الأمور الحية وأنهما جزءان من كيانه.
ومن هذا المنطلق، فإننا نلاحظ أن الذين خدموا حياتنا الفكرية والعلمية من سالف الزمان إلى يومنا هذا، على الرغم من أنهم كانوا يعلمون أنهم لن يشاهدوا في حياتهم كثيرًا من ثمرات جهودهم على أرض الواقع، لكنهم لم يتوانَوا عن العمل ولم يسقطوا في شِباك اللامبالاة، بل سعَوْا جاهدين من أجل الإنسانية، وخلَّفُوا مِن ورائِهم مقدارًا عظيمًا من التراث العلمي والثقافي، ولولا ذلك لَمَا كان من الممكن اليوم الحديثُ عن العلم ولا عن الحضارة على وجه الأرض.
وكما هو الحال في التراث العلمي والثقافي والحضاري، فكذلك تنشئة الإنسان الكامل المتحلي بالفضائل هي أيضًا ثمرة المساعي والجهود التي بَذَلها ويبذلها الإنسان.. فلم تَتَحقَّق تنمية مواهبه وتنظيمُ تصرفاتِه وسلوكه وسَوْقِه نحو الخير والفضيلة، إلا بيدِ أبناء جنسه هو.. وعلى مر التاريخ تَوَلَّى جيل سابقٌ تربيةَ جيلٍ لاحقٍ واتخذَها مهمة على عاتقه.. ومن هذا فقد ظلت التربية الصالحة هي أكبر هدية من السابقين إلى اللاحقين.
وكما أن التربية تمنع انهماك الإنسان في نوازعه وميوله الحيوانية التي تؤدي إلى عزوفِه عن غايته وإنسانيته، فكذلك تضع الحدود لحركاته وأنشطته، حتى لا يصبح سائبًا مضمحلاًّ.. كما أنها تؤدي إلى تنمية القدرات التي وُلِدت مع الإنسان، وتُساعد على بروز الطاقة الكامنة في روحه.
إن الإنسان يحمل في ماهيته بذورًا للخير والجمال، وليس فيه بذور الشر والقبح..
أما أمثال الشهوة ومشاعرِ الغضب والانتقام، فإنما هي بمثابة مشاتلَ للمحاسن غيرِ المباشِرةِ. ولكن ينبغي أن لا ننسى أن كل ما نشاهده من الجمال في الأمور الإيجابية أو السلبية، إنما هو من ثمار التربية، كما أن كون الإنسان “إنسانًا” يستند هو أيضا إلى التربية.. تربيـةٍ تدفعُ بالعقل والإرادة والمشاهدة الداخلية إلى أن تقوم بكل وظائفها.
وينبغي أن ندرك أن كونَ الإنسان كائنًا عاقلاً يمتلك الإرادة والمشاهدة الداخلية هو السمة التي تميزه عن غيره من الكائنات، وترفعُه إلى ما فوق كينونته الحيوانية، وتجعلُه يتمتع بالاستقلالية تجاه قوانين الطبيعة العاملة وفق قوانين العِلِّيَّة، ثم تربطه بحضرة الموجود “المطلق الحر والفاعل المختار”.
إن العقل حسبَ تعريفه الفلسفي: موهبة تَستخدِم مجموعة من القوانين والمبادئ لتَستخرِج الأحوالَ الخاصة من الأمور العامة. والذي يميز ماهية الإنسان عن سائر الحيوانات الأخرى في الأساس، هو هذا العقل الفعَّال الذي هو نعمة خصَّ الله الإنسانَ بها.
نَعم، إن العقل على رأس العوامل التي تجعل الإنسان “إنسانًا”، إلا أنه لم يُمنَح للإنسان بشكله الكامل والناضج، بل أُعطِــيَهُ بشكله البسيط والمطوي، فيجب على الإنسان أن يطوِّر ويُـنَـمِّيَ هذه الموهبة التي تميزه -من حيث الماهية- عن سائر الأحياء. وبالأخص فإن العقل إذا أصبح رابطًا بين العالَم الداخلي والخارجي، واقترن بالوجدان فسيكتسب ماهية مختلفة تمامًا.
و”الوجدان” مصدر يمكن أن يقصد به معنى المصدر المبني للفاعل والمبني للمفعول، وإذا قُصد بكلمة “الوجدان” معنًى يجمع بين المبني للمجهول والمعلوم، فإنها تكون بمستوى “العقل” الذي يحكم على الأمور من الناحية العملية، ويرشدنا في سلوكنا ووجهتنا.
وأقصى غاية وأسمى هدف في تحول العقل إلى “ذهن” وأدائِه لوظيفته، هو البلوغ إلى مستوى “معرفة الله”. فالعقل أو الذهن الذي يصل إلى مستوى هذه “المعرفة” يكون واصلاً إلى درجة الكمال، ويكون قد دخل تحت التكاليف الوجدانية.
ومن العناصر التي تجعل الإنسانَ “إنسانًا” كونُه متمتعًا بـ”الحرية”.. بمعنى أن يتخذ القرار في حركاتِه وتصرفاتِه بنفسه، وأن يكون صاحبَ عقلٍ فعَّال وذا استقلاليةٍ ذاتية. وبفضل ذلك يرتقي الإنسان فوق كل الطبيعة؛ حيِّها وجامدِها، ويكتسبُ مهارة التحكم في تصرفاته ومستعدًا لأن يحاسَب عليها. وليس من الممكن شرح مفهومَي “الأخلاقية” و”اللاأخلاقية” من دون أن نأخذ الحرية وإرادةَ الإنسان بعين الاعتبار، علمًا بأننا لا نَأْبَـهُ بما يخالف هذا من الأفكار التافهة التي يطرحها الذين ينكرون إرادة الإنسان وينظرون إليه على أنه ماكينة، ولا بالرؤى السطحية والتافهة لبعض الوضعيين والماديين.
وهذا يعني أنه من الضروري القبولُ بوجود جانب من الحرية وحريةِ الاختيار في الإنسان، أي بأن فيه جانبًا لا تتحكم فيه قوانين الطبيعة، وأن هذه الجهة هي التي تستند إليها الأخلاق. فإن للاختيار دورًا محوريًّا في قضية كون الإنسان مخاطَبًا تجاه العالَم العُلوي، وأدائِه لبعض التكاليف المترتبة على كونه مخاطبًا تجاه ذلك العالَم، وتفريقِه بين الخير والشر والحَسَن والقبيح عن طريق توجيه خارجي أو شهود داخلي.
ثم إن أشكال الوعي بالعالَم الخارجي، وكذا الامتصاصات الداخلية (أي انعكاس المعاني على الوجدان على شكل أطياف نورانية، وتأكيدُها) تَفتح منافذ مطلةً على ما وراء عالَم الإمكان، بحيث إن الإنسان في هذه المرحلة يحس بأنه يرتقي عما يعيش فيه من الأبعاد المكانية نحو العوالم العُلوية. فهذه الظاهرة التي يمكن تسميتها بـ”المعراج”، تتحقق على حسب جولان العقل وقوة الإرادة وسلامة المشاهدة، ويمكن أن تتجلى في كل فرد من الناس، ويستطيعُ كل أحد منهم أن يَحظى منها بنصيبه بقدر ما تَسَعه الجامُ التي بيده وما تحتويه الجام من شراب الكوثر.
وهناك بعد هذه المرحلة تأتي نقطة لا يَصِل إليها إلا أناس يتمتعون بعقل راجح وإرادة رائعة، ومشاهدةٍ داخلية وأذواق بالغة العمق والسعة.. وهذه النقطة هي مشاهدة الجمال الفريد للخالق الذي يجعلنا نَشعُر بوجوده مِن خلال مرآة وجودنا، ونحس بإرادته من خلال إرادتنا، وفي إحساسنا بإشعاره، ويوصلنا إلى هذا المستوى من الذوق والنشوة.
وقد ظل إنسانُنا منذ قرون، غريبًا عن هذه الرحلة المباركة السامية. وتقع مهمة تعريف هذا الإنسان بماهيته هو، وتنميةِ قدراته العقلية، وتقويةِ إرادته وتصفيةِ عالَم مشاعره حتى يقوم بالاتصال بما وراء الطبيعة.. يقع كل ذلك على عاتق كبار المُــرَبِّـيـن.
وإننا نناشد كل التربويــين مرة أخرى، لنقول لهم بكل صراحة: إنكم إذا تباطأتم قليلاً في تربية جيلنا الذي تحوَّل إلى آلة بين دواليب الماكينات وتروسها، ولم تقدموا له تربية ترتقي به إلى مستوى الإنسانية، فإنكم ستكونون أنتم المُدانين أمام التاريخ والمسؤولين عن تحوُّل الجيل إلى “أَكَــلَةِ لحوم البشر”.
_________________
(*) نشر هذا المقال في مجلة “سيزنتي” التركية، العدد: ٦ (يوليو ١٩٧٩)، تحت عنوان: İnsanı Yükseltmek. الترجمة عن التركية: أجير أشيوك.