سؤال: كيف نجمع بين الحقائق وإشارات كتاب “الشجرة النعمانية” لمحيي الدين بن عربي؟
الجواب: لم أقِفْ على هذا الكتاب مطبوعًا، وأظن أن له مخطوطات في عدة مكتبات، منها مكتبة السليمية في أدرنه.
يظهر من معظم مؤلفات محيي الدين بن عربي ومنها الشجرة النعمانية أنّه عرف بعض الحقائق كشفًا، وأخبر بغيبيات ألهمه الله بها، فهو من أهل الكرامات، وقطب أحد المشارب؛ له تأويلات ظاهرية وباطنية كثيرة، انكشفت له بفضل الله عزَّ وجلَّ أمور من الماضي والمستقبل كأنها صفحات كتاب بين يديه.
من كرامات ابن عربي الجديرة بالذكر حديثه عن الكهرباء في كتابه الفتوحات؛ الأمر الذي عجب له أديسون وأكبرَه.
وذكره للحوادث المستقبلية كقوله: سيقع كذا بتاريخ كذا، أمرٌ واضح عنده ومختلف عن غيره؛ كثيرٌ من أولياء الله ذكروا أشياء كهذه بإلهامٍ وفضل من الله، لكنهم لم يبلغوا مبلغه في الوضوح والتصريح.
ومحيي الدين بن عربي ليس الأولَ والآخر في هذا المضمار، بل خلَفَه كثيرون أخبروا بأمور على هذه الشاكلة وفي هذا الاتجاه؛ ومن قبلهم جميعًا أنبأَ معلِّمُ البشرية والمرشدُ الأكمل سيدُنا محمد صلى الله عليه وسلم بأمور وقعت وأخرى ستقع. أجل، إن سلطان السلاطين عرض أمام أنظار أمته الحوادثَ التي ستقع حتى يوم القيامة وكأنه يشاهدها على شاشة تلفزيونية؛ بعضها صريح جليّ لا يحتاج إلى تفسير أو تأويل، وبعضها على شاكلة المتشابهات في القرآن الكريم، يتعذر فهمها إلا بالتفسير والتأويل، خصوصًا أن منها ما لا يفهمه إلا أهل التحقيق.
أما مكاشفات العارفين بالله وإخبارُهم بأمور موجِّهة لنا فمرجعهم في ذلك القرآن أو السنة أو إلهامات ترد إلى قلوبهم مستمدة من مشكاة النبوة مباشرة؛ فيطّلعون على حقائق، ثم يبيّنونها للناس بلغة خاصة؛ ورجال الحقيقة الذين تنكشف لهم هذه الحقائق صلتهم بالله تعالى وثيقة، وهم برآء من الظهور والادعاء، يُجري الله على أيديهم آلاف الكرامات، ويبثون آلاف الرسائل الخفية لكنهم لا ينزلقون إلى الادعاء مطلقًا؛ الكلمة الوحيدة التي لا تفارق ألسنتهم هي: “والله أعلم بالصواب”، ولو أن الأمر هنا قام على هذا الأساس أي أنّ الله هو من يخبرهم ويُطلعهم على هذه الأمور وهو من يهب جذر الأمر ونواته، لصار الاعتراض هنا من أجل الاعتراض ليس إلا، وعندئذ لا تكون لمثل هذه الهمهمات والهمسات التي تستعلي بها النفس أية قيمة علميًّا.
عندنا مصدران مباركان سوى القرآن الكريم -الوحي المتلو- هما الأحاديث القدسية، والأحاديث النبوية، وكلاهما ينبع من وحي من الله، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم أفصح العرب وأفضل من يبين عن مقاصده، وهو من يفقه معاني ما يأتيه على أفضل وجه، بلّغنا ما نُفث في روعه وما أوحي إليه وحيًا خفيًّا بأعظم بيان وأعذبه؛ وإذا كان الولي ينسب كل أمر إلى أستاذه أستاذ الكون، ويستخرج معاني من بحر علمه اللدني، فما الغرابة والعجَبُ في هذا؟!
وقد تُكشف بعض الحقائق لبصيرة الولي فيراها من بعيد -وهذا ممكن اليوم كما وقع بالأمس- إلا أن الولي ربما لا يستطيع أن يحدِّد المسافة أو يثبت الحقيقة كما هي؛ وأحيانًا يرى حادثة في صورة رمز، ولا يستطيع أن يقف على تأويلها، فيُؤَوّلها من عند نفسه، ظانًّا أن تأويله مصيب، لكن الحقيقة الغيبية ليست كذلك. وهذا كالرؤى التي يراها الإنسان، فمثلًا ترى في منامك ذهبًا وفضة، فتظن أن الحق جل جلاله سيفيض عليك بالإحسان الجزيل، أو ستنتفع ماديًّا أو معنويًّا وستحظى بشيء ما، بيد أن الذهب والفضة في الرؤيا يُفسَّران بتعاظم قوى النفس الأمارة وغلبة أهوائها؛ وإذا رأيت في المنام جبرائيل عليه السلام يدخل من نافذة بيتك فستظن أن فيضًا إلهيًّا سينزله الله على بيتك قريبًا؛ فقد دخل الروح الأمين بيتك، بيد أن معنى هذه الحقيقة المرمز إليها بمثل هذه الواقعة تُفسَّر في عالم المثال بأن شخصًا من هذا البيت ذا روح سامية سيلحق بالرفيق الأعلى.
وإذا رأى الإنسان في منامه أنه لقي إنسانًا في صورة مستقبحة، فسيظنّ أن ذلك لأنه ارتكب ذنبًا أو سيرتكب، بيد أن هذا يؤوَّل بأن ذلك الإنسان سينتفع منه بشيء؛ وقد جرت مثل هذه الواقعة للسيدة زبيدة زوجة هارون الرشيد رحمهما الله، رأت في منامها ما يرى الرجل في منامه، وأن ذلك كان بينها وبين أهل بغداد جميعًا، فخافت وارتعدت، وما كان أحرص منها على عفتها وشرفها، فسألت، فقيل لها: ستفعلين خيرًا ينتفع منه الناس جميعًا؛ فنالت السيدة زبيدة بعدئذ شرف سقاية حجاج بيت الله الحرام أي كانت سببًا في ذلك.
وهكذا الولي إن لم يدرك المعاني الحقيقية لرموز الحقائق في عالم المثال فلربما يخطئ في تأويل بعضها، ولا اختلاف حينئذ بين الحقيقة والمعاني التي يذكرها الولي من حيث النواة والبذرة، إنما الاختلاف في الإجمال والتفصيل، وفي اختلاف لغة الرموز عن لغتنا؛ والأنبياء وخواصّ ورثتهم هم وحدهم من تيسر لهم إزالة هذا الاختلاف وتبليغ الرسالة للناس بوجه صحيح؛ فالأنبياء معصومون عن أن يَضلّوا أو يخطؤوا، ولو أخطأ اجتهادهم لبيّن الله لهم الأمر فورًا، لأنهم أئمة الخلق جميعًا، وخطأ الأئمة ليس قاصرًا عليهم بل يتعدى إلى من يتبعونهم، فهم إنما يبلغون بلاغًا يضمّ ويحتضن الإنسانية بأسرها.
أما بصدد ما نحن فيه، فما يقوله الإمام محيي الدين بن عربي -مستندًا فيه إلى الكتاب أو السنة أو الإلهامات التي ترد إلى قلبه- حقٌّ، إلا أن بعض الأمور التي انكشفت له رمزًا، واستعصى عليه تأويلها من حيث مسلكه ومشربه ووظيفته وعصره، فقد أوَّلها تأويلًا مخالفًا للسنة، ثم جاء أهل التحقيق كالإمام الشعراني وملا جامي فحاولوا إيضاح ما أراده ابن عربي بتأويلات منطقية.
لقد توجه ابن عربي إلى الله بكلّ كِيانه، وصار كالملائكة في ماهيته، فوهبه الله -تكريمًا لماهيته- لطافة الأرواح والروحانيين.
أما ما ورد في كتاب “الشجرة النعمانية” فقد تحقق بعضه، وسيتحقق الباقي إن قدّر الله ذلك، من ذلك أن محيي الدين بن عربي أخبر بحوادث عن الدولة العثمانية وما بعدها تصريحًا أو تلميحًا، وهو إنما عاش في عهد السلاجقة قبل تأسيس الدولة العثمانية، وعُثر على قبره في عهد السلطان سليم الأول، تُروى عنه كلمة جديرة بالذكر، يقول: “إذا دخل السينُ في الشين ظهر قبر محيي الدين” ومراده بالسين السلطان سليم، وبالشين الشام، ولما فتح السلطان سليم الأول الشام ظهر قبره وعُرِف قدره.
كان محيي الدين بن عربي يتكلم عن أمور معتمدًا على إلهامات ونفحات ربانيّة، فهو لا قِبَلَ له بها؛ إذ لا يتأتى لإنسان من عظم ولحم أن يتحدث عن مثل هذه الأمور؛ لقد توجه إلى الله بكلّ كِيانه، وصار كالملائكة في ماهيته، فوهبه الله -تكريمًا لماهيته- لطافة الأرواح والروحانيين، فنفذ بهذا اللطف إلى حقيقة الأشياء، بل إلى شيء مما كان ومما سيكون، فتكلم عن حوادث غائمة كانت، وعن وقائع مجهولة ستكون، من ذلك أنه تحدث عن نشأة الدولة العثمانية ورقيها، وعن حوادث تاريخية مهمة كفتح السلطان مراد الرابع لِـ”رُوَان” في ستة أشهر، ونحو ذلك، ومن كراماته الجديرة بالذكر حديثه عن الكهرباء في كتابه الفتوحات؛ الأمر الذي عجب له أديسون وأكبرَه.
لابن عربي تأويلات ظاهرية وباطنية كثيرة، انكشفت له بفضل الله عزَّ وجلَّ أمور من الماضي والمستقبل كأنها صفحات كتاب بين يديه.
ولم ينفرد محيي الدين بن عربي بهذا المجال وإن كان قطبَه؛ فمثلًا أخبر “مشتاق دده البتليسي” عن نقل العاصمة من إسطنبول إلى أنقرة قبل وقوعه بنحو مائة سنة، وكتبت الجرائد عن ذلك لاحقًا.
ومع هذا، فالحقائق التي اطلع عليها هؤلاء العظماء ليست من الأمور التي لا تتغير ولا تتبدل، فالله قادر على تغيير كلّ شيء، ومن ذلك تغيير ما شاهده هؤلاء العظماء وسمعوه وعلموه، فالله تعالى فعال لما يريد يتصرف في كل شيء كما يشاء ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ (سُورَةُ الرَّحْمَنِ: 55/29).
يظهر من معظم مؤلفات محيي الدين بن عربي ومنها الشجرة النعمانية أنّه عرف بعض الحقائق كشفًا، وأخبر بغيبيات ألهمه الله بها.
فهو سبحانه يغير كل شيء نشهده، وله أن يغير في “لوح المحو والإثبات” ما لا نشهده ولا نطلع عليه من الحوادث بأبعاد غير التي عهدناها، ﴿يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ (سُورَةُ الرَّعْدِ: 13/39)، أما أمّ الكتاب فهي علمه سبحانه، والقدَر عنوان من عناوين علمه الإلهي، وما ذكره محيي الدين بن عربي حقٌّ بقدر اطلاعه على هذا، وأما ما أُخبر عنه مما لا يوافق الواقع فإما أنه لم يعلم تأويله الصحيح، وإما أنّه لم يحِن وقتُ هذه الحقيقة بعد، وإمّا أننا لم نُدرِك كنه ما أراد.
والله أعلم بالصواب.
المصدر: فتح الله كولن،سلسلة أسئلة العصر المحيرة، نحو عقيدة صحيحة، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.