من أهداف إرسال الرسل بالرسالة السماوية هو أن يطاعوا من أَجْل الله، والقرآن الكريم يَعرض للأنظار هذه الحقيقة الكلية من خلال بعض الآيات الكريمة، ومن الأمثلة على ذلك قول الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ﴾ (سورة النِّسَاءِ: 4/64)، ولذلك اعتُبرت معصية الرسول والتمرّد عليه من كبائر الذنوب.
إن عصيان الرسول ﷺ من الجرائم الكبيرة، وقد يأتي يوم تؤدي هذه الجريمة إلى هلاك المجتمع بأكمله.
فالتمرد على الله ورسوله وعلى القيم التي يجب التمسك بها علامة على فساد في الطبيعة البشرية وانزلاقٍ في الروح، وأما تعرُّض مجتمع بأكمله لمثل هذا الانحراف الكبير فهو يدل على تدمير المقومات الأساسية التي تحافظ على قيام المجتمعات، مما يعني أنه من المستحيل أن يعيش هذا المجتمع لمدة طويلة.. ولم يهلك الذين أخبر عنهم القرآن من عاد وثمود وقوم لوط وأقوام كثيرة غيرهم إلا لهذا السبب.
فعدم الإطاعة، الذي يعبَّر عنه بالعصيان والتمرد وسوءِ الطبع وغيرِ ذلك لهو مثل الأمراض المُعْدية، فإذا لم تتم السيطرة عليه في الوقت المناسب فسيسري إلى كل المجتمع، وحينذاك يختل التوازن في المجتمع ويؤدي به في نهاية المطاف إلى الهلاك والدمار.
ويمكن أن نوضح هذا الموضوع بمثال كما يلي: لنفرض أن هناك مجموعة عسكرية صغيرة تضم قليلًا من الجنود، ومن بين هؤلاء الجنود جندي متهور لا يطيع ضابط الصف مما يجعل هذا الضابط يريد ويحاول أن يعاقبه على تهوره، ولكن هناك ضابطًا أعلى يعفو عن هذا الجندي، وكنتيجة طبيعية لهذا الأمر يبدأ الجنود الآخرون بالتمرد على ضابط الصف، بل ويستخفُّون بأوامره ويسخرون منه، وهذا يعني أن السلسلة التراتبية بدأت بالاختلال والانقلاب رأسًا على عقب، ويمكن أن نعمم مضمون هذا المثال البسيط على سائر وحدات الجيش.. وكما هو ملحوظ هنا لما لم تُعَالَج المشكلةُ في مراحلها الأولى على الوجه المطلوب، استفحلت وسَرَى مرضُها إلى بقية الصف، وشملت كل وحدات الجيش.
ويمكن تطبيق هذا المثال نفسه في نطاق النبي وأمته؛ فالقرآن الكريم في سياق هذا الخطر المحتمل ينبه الأمة في آيات عديدة، وإذ ينبه على ذلك يستخدم أسلوبًا في منتهى اللين واللطف، بالإضافة إلى لفت الأنظار إلى توقير مقام النبي ﷺ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾ (سورة النِّسَاءِ: 4/64).
فنلاحظ أن هذه الآية تخاطب -أولًا بشكل خاص- المجرمين الذين قصَّروا في احترام الأوامر الدينية، وتمرّدوا على الأوامر التي يجب طاعتها، ولم يحترموا الكبار، وباختصار: ظلموا أنفسهم.. ولم يأت في الآية أسلوب يجرح عواطف المذنبين ويؤنّبهم ويُخجلهم.. فصار هذا الصنيع من العناصر المؤدية إلى تليين قلوبهم.
وثانيًا: هناك أمر آخر، وهو أنه لا بد في ترك التمرد على الرسول من الرجوع إليه ﷺ، لأن الطريق إلى رحمة الله الواسعة يمر عبر النبي ﷺ. أجل، إن سلطان الأنبياء عليهم السلام بمثابة الجسر المؤدّي إلى رضا الله ورضوانه، ومن المستحيل على العبد أن يلقى الله من دون المرور عَبره.
وهذا الحديث جعلنا نتطرق إلى موضوع يجدُر ذكره في هذا المقام: وهو أنه لا يوجد في الإسلام واسطة بين العبد وبين الله، فللعبد أن يؤسّس علاقة بينه وبين ربه حيثما أراد ومتى شاء، ولكن علينا أن نأخذ بعين الاعتبار حيال هذه النقطة أن الرسول ﷺ هو الذي علَّمنا طريق هذه العلاقة.. فلذلك يُعتبَرُ هو أهم وسيلة فيها.
أجل، إنه وسيلة باعتبار ما علَّمَناه.. وسيلةٌ بمثابة الغاية، إلا أننا نرى كثيرًا من الأرواح التي فيها جفاء لم تدرك هذا الجانب، ونظرت إليه ﷺ وكأنه ساعي بريد، وبذلك حادت عن الصراط المستقيم.
وثالثًا: إن ذكر وصفي الله سبحانه وتعالى: “التواب” و”الرحيم” ينطوي على منتهى الملاطفة لقلوب المجرمين، ويزيد لديهم الأمل في العفو عنهم وفي قبول توبتهم، ويشير إلى أن التوبة والاستغفار أسهل وأقصر طريق للإقلاع عن الخطايا.
أجل، إن هناك كثيرًا من الناس الذين رأوا ما في القرآن من عميق التسامح من خلال هذه الآية وما شابهها من الآيات فأَتَوْا إلى حضرة صاحب الرسالة ﷺ واعترفوا بخطاياهم وطلبوا تطبيق الحدود عليهم حتى وإن أدى بعض منها إلى الموت؛ فما مجيء ماعز والغامدية التي شاركته في اقتراف جريمة الزنا إلى النبي ﷺ واعترافهما بذنبهما إلا واحدٌ من تلك الأمثلة على هذه الحقيقة التي ذكرناها، وأظن أنه سيكون من الصعب على إنسان عصرنا أن يدرك ويشرح مدى مشاعر الندم لدى هذين الصحابيين اللذين أتيا إلى النبي ﷺ واعترفا بذنبهما بطريقة تؤدي إلى تضحيتهما بحياتهما الدنيوية، فهو أمر يفوق حدود تصوُّر أهل هذا العصر ومداركهم.
إن سلطان الأنبياء عليهم السلام بمثابة الجسر المؤدّي إلى رضا الله ورضوانه، ومن المستحيل على العبد أن يلقى الله من دون المرور عَبره.
والحاصل أن عصيان الرسول ﷺ من الجرائم الكبيرة، وقد يأتي يوم تؤدي هذه الجريمة إلى هلاك المجتمع بأكمله؛ ولذلك نلاحظ أن القرآن الكريم ركز على هذه النقطة بحساسية بالغة، وقَرَنَ بين طاعة الله و طاعة رسوله، بل إنه وَضَع أحكامًا وعقوبات تدل على أنه ينبغي على المجتمع كله أن يكون على هذا النهج وهذه العقيدة، إلا أنه لم يَدفع المذنبين الذين لا يمتثلون هذا الأمر إلى اليأس والقنوط، بل وَضع أساليب تؤدي إلى إصلاح طبائعهم وتكوينهم الروحي، ودلهم على ما يخرجهم مما هم فيه.
المصدر: فتح الله كولن، البيان الخالد لسان الغيب في عالم الشهادة، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.