إن من مقتضيات قَدَر الله تعالى أن تكون المصائب على حسب وضع المصاب بها، فهي إما وسائل لتكفير الذنوب أو للاستدراج.
أجل، إن المصائب بذاتها لن تكون مكفِّرة للذنوب، والأمر الذي يجعلها مكفِّرة للمعاصي إنما هو عدم تمرد الشخص المبتلَى على الله وعدم عصيانه له، بل إبداؤه الرضا عن الله بأقواله وأفعاله.
وسيدنا يعقوب عليه السلام خير مثال لنا في هذا الباب، فهذا النبي العظيم تعرض لمصائب تفوق طاقة أي بشر، ولكنه تجاه كل هذه المصائب عبّر عن مشاعره وأحاسيسه بما هو فيه من الضعف، وأسندها إلى نفسه قائلًا: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ﴾ (سورة يُوسُفَ: 12/86)، فقوله هذا يرسم لنا موقفه النموذجي.
أجل، إن اتخاذ مثل هذا الموقف النبوي تجاه المصائب، يقرِّب الإنسان من ربه عز وجل، ويُرقِّيه إلى موقع يتبوَّؤُه من صلى النوافل على مدى آلاف الأعوام.
هذه الدنيا دار امتحان وابتلاء، وأن كلّ شخص لا بد وأن يُبتلى بشيءٍ من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات.
وقد يكون من المفيد لنا أن نلقي نظرة سريعة على هذه الحقيقة التي تَحَدَّثَ عنها القرآن على لسان يعقوب عليه السلام، وأعتقد أن هذه الآية الكريمة ترسم الطريق لمن فَقَدَ السعادةَ -نوعًا ما- جراء ما نزل به من المصائب والبلايا، ويدلُّه على المخرج الذي يخلصه مما وقع فيه من الأزمات الفكرية والروحية، فهذا الطريق هو من العقلية والمنطقية بحيث إنه يمكن للذي يسلكه أن يصعد في قفزة واحدة إلى أعلى عليين، فمقتضى الإيمان هو الصبر على كل أنواع المصائب، ثم التوجهُ بعد ذلك إلى المولى المتعال وطلبُ المعونة منه فقط..
وعلى الخط نفسه يقول الله تعالى في آية أخرى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (سورة البَقَرَةِ: 2/153).
أجل، إن المثول كل يوم بين يدي المولى عز وجل والصبرَ على كل شيء باعتباره أمرًا قدّره الله، لهما إكسيران حيويان يطفئان أُوار صدمات المصائب ويوصلان الإنسان
إلى عمق فكريٍّ وعمليٍّ.
ويقول الله تعالى بعد هذه الآية مباشرة: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ (سورة البَقَرَةِ: 2/154)، لافتًا الأنظار إلى بُعد آخر من القضية.. كما أنه يعبر عن الحقيقة نفسها في سورة آل عمران: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/169).
فالأمر الذي تبينه هاتان الآيتان هو أن هناك نمطًا من الحياة لا يرقى إلى إدراكه وعيُ الإنسان، وما يترتب على الإنسان في مثل هذه الأمور التي لا يرقى إلى إدراكها شعوره هو أن يستقبلها بالإيمان والاطمئنان والتسليم. أجل، هذه هي الوظيفة الملقاة على عاتق المؤمن.
وهناك أمر آخر وهو أن الآية تحتوي على رسالات مهمة إلى أقارب الذين استشهدوا وارتحلوا إلى دار البقاء، ففيها تسلية لهم، وفي إطار هذه الحقيقة التي تتحدث عنها الآية الكريمة تعالوا بنا نتصور الرسول صلى الله عليه وسلم الذي استشهد عمه في أحد، وأعتقدُ أنه لولا هذه الآية الكريمة لَتَفطّر قلبُه المرهف الحساس بسبب هذه المصيبة.. ولتفطر قلب جابر بن عبد الله رضي الله عنه من تلك الصدمة التي تلقاها في أحد أيضًا حيث استشهد والده آنذاك وخلَّف وراءه عددًا من الأيتام وكمًّا من الديون، مما ترتب عليه أن يتحمل في مقتبل العمر كل ذلك العبء الثقيل، فلا مرية في أنه مهما كان في مستوى من الإيمان فإنه قد انقلبت مشاعره وأحاسيسه رأسًا على عقب واحتاج إلى ما يسليه، وقد قامت هذه الآية بدور التسلية المهمة لجابر وأمثال جابر.
والواقع أن كثيرًا من ساداتنا المفسرين العظام يذكرون أن الآية السابقة من آل عمران نزلت في استشهاد سيدنا عبد الله هذا، ويكاد يذكر كثير من التفاسير حديث جَابِر بْن عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه الذي يقُولُ: لَمَّا قُتِلَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ يَوْمَ أُحُدٍ، قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:
“يَا جَابِرُ، أَلَا أُخْبِرُكَ مَا قَالَ اللهُ تعالى لأَبِيكَ؟”، قُلْتُ: بَلَى، قال “مَا كَلَّمَ اللهُ أَحَدًا إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَكَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا فَقَالَ: يَا عَبْدِي تَمُنُّ عَلَيّ أُعْطِكَ قَالَ: يَا رَبِّ، تُحْيِينِي فَأُقْتَلُ فِيكَ ثَانِيةً، قَالَ: إِنَّهُ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يُرْجَعُونَ، قَالَ: يَا رَبِّ، فأَبْلِغْ مَنْ ورائي، فأَنْزَلَ اللهُ تعالى هَذهِ الآيَةَ: ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/169)” .
ومع انتفاء العلاقة المباشرة لما نحن بصدده إلا أنني لا أود أن أنتقل إلى موضوع آخر قبل أن أذكر ما يلي: تذكر كتب المغازي أنه بعد حوالي أربعين سنة من غزوة أحد، جرى السيل نحو مقابر شهداء أحد التي كانت بسفح الجبل، فخشي الصحابة من انجرافها، فاجتمعت الآراء على نقلها إلى مكان آخر، وفي ذلك يقول جابر: فحُفر عنهم فوجدتُ أبي في قبره كأنما هو نائم على هيئته، ووجدنا جاره في قبره عمرو بن الجموح رضي الله عنه ويده على جرحه، فأزيلت عنه فانبعث جرحه دمًا.. ويقال: إنه فاح من قبورهم مثل ريح المسك، رضي الله عنهم أجمعين … ويفهم من هذا كله أن الشهداء يكونون في طبقة مختلفة من الحياة البرزخية.
إن من مقتضيات قَدَر الله تعالى أن تكون المصائب على حسب وضع المصاب بها، فهي إما وسائل لتكفير الذنوب أو للاستدراج.
ولنرجع إلى موضوعنا قائلين: إن محتوى هاتين الآيتين وارد بالنسبة لأولاد وعيال عمرو بن الجموح الذي استشهد هو أيضًا في أُحد، ولا ننسى مشاعر زوجة حنظلة بن أبي عامر الذي شارك في أحد وهو عريسٌ واستشهد بها.
والآن تعالوا نفكر في مدى تسلية كل هؤلاء بهاتين الآيتين.
كما أن علينا أن نتصوّر مدى قوة تأثير ما تفيده الآيتان في نفوس أُسَر الآلاف من أبناء الشهداء حول العالم.
والحاصل أن هذه الدنيا دار امتحان وابتلاء، وأن كلّ شخص لا بد وأن يُبتلى بشيءٍ من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، وأن الفائزين هم الذين يصبرون على ذلك. أجل، إن الصبر هو منبع الفوز في الدارين.
المصدر: فتح الله كولن، البيان الخالد لسان الغيب في عالم الشهادة، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.