Reader Mode

أجل الإنسان مقدَّر وقتًا وكيفًا، فما ذنب القاتل ؟

الجواب: وقتُ الموت وكيفيتُه مثل كل شيء مقدَّر من قبل؛ أي ما يجري للكائنات كافّةً يأتي مثله في الإنسان ومحياه ومماته، فالوجود بطرقه المعلومة، واستمراره وفق أسس معينة، ثم الخروج من مسرح الحياة بعد حين، حقيقةٌ لا مفر منها، وهي مصير كلِّ موجود سوى الله تعالى؛ فكل شيء يولد وينمو -ودائرة القدر بسعتها وشمولها تحيط به- في خطّ معلوم، ثم ينمحي أخيرًا ويتلاشى، هذا سبيل لا يتبدل، وهو نظام ثابت سرمديّ.

إن العلوم الطبيعية -بمبادئها الراسخة وقواعدها العالمية- التي اكتشفت وتطورت في هذا الكون الهائل الذي يجري وفق نظام مدهش وتناغم يذهل العقول بدءًا من الذرات إلى المجرات، لَتدلُّنا أنَّ لكلِّ شيء تقديرًا قبل حدوثه وقدَرًا مقدورًا؛ فدون وجود مثل هذا التخطيط الأولي لا يمكن إيضاح النظام والتناغم الموجودين في الكون، ولا يمكن لأي علم من العلوم الطبيعية المتعلقة بهذا النظام أن يتطور. فلم تتمكن البشرية من إجراء تجارب في مختبرات فيزيائية ومن تعلّم علم التشريح وتعليمه ومن غزو الفضاء وفق قواعد معينة ثابتة إلا بفضل حركة الكون وفق قواعد هندسية رياضية دقيقة كلَّ الدقة.

وما كان لنا أن نتحدث عن أي علم طبيعي في كون لا تناغم فيه ولا نظام، وفي عالم لا تخطيط فيه ولا تنسيق وفي طبيعة تسودها الفوضى. فما العلم سوى عدسة لقواعد موجودة ومبادئ قائمة… يكشف عنها ويبيّنها ويسميّها بأسماء معينة. وليس في هذا حطّ من قدر العلوم والاكتشافات، بل نودّ أن نقدرها قدرها ثم نقول: ثمة أمور أهمّ منها لا بد أن ننتبه إليها، وهي أن النظام والتناغم كقلب ينبض في صدر الكون، وما العلوم والاكتشافات إلا كاشفة لهما؛ فما أجلَّ وأعظمَ القدرةَ التي أقامت هذا النظام بقدر أي بتخطيط سابق عمَّ الكونَ وغدا أساسًا له؛ واليوم نجد بعض علماء الاجتماع يحاولون تنزيل القوانين السارية في الكون على المجتمعات الإنسانية، وهذه جبريّة مُفرِطة لكنها رغم ذلك تحمل معاني مهمّة، فهي تُقِرّ بتخطيط أزلي يعتمد عليه هذا النظام والتناغم الكوني الشامل.

والحقّ أنّ كل حقيقة تتعلق بالعقيدة لَهي أسمى وأعلى من أن نحتاج لها إلى تأييد خارجي أو إلى اعتراف خارجي، ولكن بينما ندعو جيلًا بائسًا تلوثت نظرته بهذه الأمور الخارجية وأزاغت الشبهات قلبه إلى استرداد مكانته الصحيحة، نرى فائدة في ذكر تناقضات الذين أضلّوه ولو بإشارة، لذا أطنبنا في هذا وخرجنا عن الصدد؛ وإلا فإن حركة الكون أجمع من ذراته إلى مجراته وفق نظام وتناسب وتناغم كبير تبرهن على قدرةٍ وحاكمية وسيطرة شاملة تُقدِّر وتنظِّم، فالعوالم كلها منذ نشأتها حتى يومنا هذا تحت هذه الحاكمية المطلقة تنقاد لها وتتقلب بها من حال إلى حال.

الخلق الأول للإنسان ولمخلوقات تتمتع بالحرية والإرادة وإن كان غير مقيّد بإرادتهم كسائر المخلوقات، إلا أن ذوي الإرادة ليسوا كالمخلوقات الأخرى ألبتة فيما يقع تحت إرادتهم؛ وبهذا الاختلاف يغدو للقدر “التعيينِ الأزلي” لدى الإنسان وأمثاله ماهية مختلفة ومسار مختلف. نعم، فمن يطرح هذا السؤال لم يستطع حدس هذا الفرق، وقاس الأمر على أشياء لا تملك إرادة؛ ففهم هذا الفرق بين الإنسان وسائر الموجودات سيساعد على حلّ المسألة وإنْ بشكلٍ جزئي، وحلُّ الباقي يأتي من اليقين بأن العلم الإلهي يحيط بكلّ شيء.

أجل، للإنسان حرية وإرادة وميل واختيار، وبهذا كلِّه يُنسب إليه الخير والشر، والأجر والوِزر؛ وأيًّا كان قدر إرادة الإنسان وكسبه فهي بما ينتج عنها سببٌ يُثيب به الخالقُ العظيم الجليل أو يُعاقب، حسب توجيهها إلى الشر أو إلى الخير. وما ينتج عن هذا الميل مهما كان ثقيلًا ينوء به كاهل الإنسان فهو مسؤول عن ميله هذا واختياره؛ والخالق الجليل وإن كان قد قدّر الشرّ من قبل ثم خلقه في وقته المقدّر له إلا أنه منزَّه عن أن يُنسب شيء من ذلك إليه. فمثلًا لو ربط الخالق العظيم مسألة مهمة مثل تغير المناخ بتنفسنا وقال لنا: “إن تنفستم أكثر من كذا في الدقيقة غيَّرتُ المناخ”، فإذا لم نر علاقة للسبب والنتيجة بعملية التنفس وتغير المناخ، وارتكبنا المحظور، فتغيَّر المناخ كما ذكر وأخبر، فنحن المسؤولون عن تغيره مهما عظمت العواقب وفاقت طاقتنا وعلينا وزر ما اقترفته أيدينا.

وهكذا فإذا استعمل كل فرد إرادته الجزئية واختياره بات مسؤولًا عن عمله وكسبه إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشرّ، فإما مذنب فيُحاسب وإمّا مطيع فيكافأ؛ فمن يتسبب في موت شخص يُعدّ مذنبًا، فإن لم يُغفر له عند الله حُوسِب وعوقِب بلا ريب.

ونتوقف قليلًا عند الشق الثاني من المسألة: كيف نجمع بين العلم المطلق للخالق المحيط بكلِّ شيء تمام الإحاطة وبين الإرادة الإنسانية؟

يدخل كل شيء في علم الله بأسبابه ونتائجه جنبًا إلى جنب، ففي تلك النقطة يغدو الماضي والمستقبل، والسبب والنتيجة، والعلة والمعلول، والأبناء والآباء، والصيف والربيع، وجهين لعملة واحدة، ووفقا لهذا العلم أيضًا يُعرف اللاحق كما السابق، والنتيجة كما السبب، والمعلول كما العلة، ويحكم عليها كلّها سواء بسواء.

وتقدير النتائج المتولِّدة من تلك الأسباب وتعيُّنها لا يغلّ إرادة الإنسان؛ إذ إنَّ كلّ ما سيعمله أي فرد وأينما سيوجِّه إرادته بوصفها شرطًا وسببًا عاديًّا معلومٌ مسبقًا، فالتقدير الإلهيُّ لا يستبق حرية الإنسان وإرادته؛ بل إن الله تعالى أقرّ ميول الإنسان وقدَرها قدْرَها لأنه قضى وقدّر وفقًا لها، فلو أن رجلًا عظيمًا قال لِخَدَمه: “إن تحكمتم في سعالكم فلكم مكافآت عظيمة، ومن سعل بلا داع فسيخسر ويُعاتَب”، فمعنى هذا أنَّه قد أقرّ بإرادتهم وعزّزها. وهكذا -ولله المثل الأعلى- لو أن الخالق الجليل Y قال لك: إن عزمتَ على هذا الفعل خلقتُه، وبناء على عزمك المستقبل قد حدَّدتُه لك من الآن”، فمعنى هذا أن الله تعالى قد أقرّ بإرادتك؛ وبناءً عليه فكما لا نفي للإرادة في التقدير الأول، لا إكراه لأحد على شيء يأباه.

وإنَّ القدَرَ والتقدير الأوَّل عبارة عن برامج علمية وضعها الحق تبارك وتعالى، أي إنَّ الله تعالى يعلم من قبلُ –بالنسبة لنا- السُّبلَ التي سيميل إليها الإنسان، فوضع برنامجًا وخطةً مع ما سيخلقه هو سبحانه. وصفة العلم ليس من شأنها تعيين الأحداث والأفعال، بل الذي يعيِّنها ويوجدها وفق ميول الإنسان هو قدرة الله وإرادته. وعلى ذلك فالأشياء الحادثة لا تحدث لأن علم الله سبق بأنه سيكون كذا، بل إن الله يعلمها لأنها ستكون، وهذا هو معنى القدَر والتقدير الأوَّل. ويعبر علماء الكلام عن هذا بقولهم: “العلم يتبع المعلوم”[1] ويتعلق به على ما هو عليه ولا يؤثّر فيه ولا يغيّره، أي إن الحادث معلوم حاله كيف سيكون، وليس للعلم تأثير على وجوده هكذا، وهذا مثله مثل خططنا ومشاريعنا العلمية، فهي لا تقتضي وجود الأشياء -التي نتصورها ونخطّطها- في عالم الواقع، وهكذا القدر والتقدير الأول يمكن أن نتجوّز فنسمِّيه خطة إلهية لا تستلزم وجود أيِّ شيء في الواقع.

والخلاصة أن الله تعالى أحاط بكل شيء علمًا، يعلم الأسباب عِلْمَه بالنتائج، والنتائجَ علمَه بالأسباب، فهو عَلِم من يعزمون على الإحسان أو الإساءة، وقدّر ما سيخلقه هو حسب عزمهم ونيتهم، فإذا آن أوانه خلق الله ما علِمه وقدّره كما يشاء وَفقًا لعزائم المكلَّفين وميولهم؛ وعلى ذلك فتقدير كيفية الموت وموعده لا يرفع المسؤولية عن القاتل؛ فما وقع ما هو مقدّر إلا وَفق حريته وإرادته، فيُنسب الجرم إليه ويؤاخَذ عليه.

ولا بد من بحث هذه المسألة العميقة المتعلقة بالقدر بالرجوع إلى مصادرها، فما هنا لا يعدو أن يكون نقلًا للمسألة إلى العامّة في إطار مبادئ السلف الأساسية المتينة.

[1] الاقتصاد في الاعتقاد للإمام الغزالي: صفحة: 61؛ تفسير الرازي: 19/57.

المصدر: فتح الله كولن، سلسلة أسئلة العصر المحيرة، الرد على شبهات العصر، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.

About The Author

عالِم ومفكِّر تركي ولد سنة 1938، ومَارَسَ الخطابة والتأليف والوعظ طِيلة مراحل حياته، له أَزْيَدُ من 70 كتابا تُرْجِمَتْ إلى 40 لغة من لغات العالم. وقد تَمَيَّزَ منذ شبابه المبكر بقدرته الفائقة على التأثير في مستمعيه، فدعاهم إلى تعليم الأجيال الجديدة من الناشئين والشباب، وَبَذْلِ كلِّ ما يستطيعون في سبيل ذلك.

Related Posts