سؤال: كيف يكون المرء حركيًّا فاعلًا باستمرار في خدمته للدين بشكل يلائم ظروف عصرنا هذا؟ وما الوصفة الناجعة ليغدو هذا الأمر أمرًا مستمرًّا؟
الجواب: يمكننا أن نلاحظ عدّة معانٍ عندما نتحدث عن الحركة أو العمل في خدمة ديننا، منها: عدم الوقوف عند حدّ، وعلوّ الهمة، والمضيّ قُدُمًا في تحويل الدنيا إلى جنان، وعدم السأم أو التخلي عن إكمال هذا الأمر حتى النهاية؛ أما غاية هذا العمل -وهي حلّ للُغز السؤال- فهي بلوغ منتهى الأفق الذي تحدثت عنه الآية الكريمة: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ (سُورَةُ الْحِجْرِ: 15/99)، إِنَّها عبادة الله تعالى بإخلاصٍ وصدقٍ مطلق ونشاطٍ لا فتور فيه حتى يأتي اليقين. أجل، إنَّ أداء ذلك والمداومة عليه حتى بلوغ ذلك اليوم الموعود هو هو الحركة والعمل الجادّ؛ وإذا كان العبد يفكر بكل إخلاص وصدق فيما يُطلَب منه من وظائف ومسؤوليّات على المستوى الشخصي والاجتماعي معًا، ويسعى للقيام بها -كما ذكرنا آنفًا- فقد أدرك المعنى الصحيح للحركة والعمل وعاشهما حقًّا؛ وإلّا فإنهم إن تناولوا المسألة من جانب واحد فقط، وجعلوا تركيا أعظم بلاد الدنيا عمرانًا بما اعتادوا القيام به من خدمات مادية، ورفعوا راياتهم على مآذن جامع السلطان أحمد، فإن ذلك الأمر سيرجع -من حيثُ وَصلَ- إلى ما كانَ عليهِ؛ إنهم وإن أنقذوا العالم في انطلاقةٍ واحدةٍ، لكنّهم عَلِقوا في شباكِ الثقة بأعمالهم، لذا أجزِمُ أنَّ ما فعلوه لا قيمة له في نظر الحقّ.
والشطر الثاني من السؤال: “كيف يدوم هذا المعنى وتلك الروح؟” جوابه يستند إلى ما يأتي:
1- التفكر: أجل، يبدو أن أكبر عيوبنا بلا شك الغفلةُ والبعدُ عن كلّ أنواع التفكر والتأمّل؛ بل إنّنا في سرائرنا نعيش بقلب ميت محروم من المراقبة الذاتية.
2- رابطة الموت: هي ذكر الموت والتفكُّر فيه دائمًا؛ فرابطة الموت تعني الاستعداد كل يوم -نعم كل يوم- للقاء الله، فينبغي أن نزور المستشفيات ونعود المرضى، وأن نزور القبور ونتصور أنفسنا عظامًا نخِرة ونتذكر أن الدنيا فانية زائلة، وأن نكِدّ ونجدّ دأبًا لترك أثرٍ ما بعدنا كما قيل: “يفنى الإنسان ويبقى أثره”، وأن تفيض وتزخر حياتنا بالصالحات، انظروا إلى مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم تجدوه -في آخر حياته السنيّة وقد دنا لحاقه بالرفيق الأعلى- راح يجهّز جيشًا لغزو بيزنطة، وولّى عليه الحِبّ بن الحِب أسامة بن زيد؛ وكان والده استشهد في غزوة مؤتة؛ وفي الساعات الأخيرة اشتدّ المرض على الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان يُغمَى عليه، فإذا أفاق: “أَنْفِذُوا بَعْثَ أُسَامَةَ”[1]، أسألكم بالله أهذا هو ما يشغل من يعاني سكرات الموت ويلقى منه شدّة؟ الأمر أعظم من ذلك عند رجل الدعوة؛ وهكذا فعل الفتى الذي سار على خُطَى سلطان الأنبياء صلى الله عليه وسلم، إنّه السلطان “مراد خُدَاوَنْدِكَار”، ذلك العقل الفريد الذي أنجبته هذه الأمة، الشغوف في التأسي بمفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم، فقد اختتم حياته بمثل ما فعل صلى الله عليه وسلم؛ هذا السلطان العظيم عندما سأله صاحباه المجاهدان “ميخال الغازي” و”أورانوس الغازي” في ساحة الحرب قبل أن يُسلم روحه إلى بارئها: “سيدي السلطان، أتأمرنا بشيء؟” أجاب بكلمات تسجل في التاريخ بحروف من ذهب: “لا تفارقوا صهوة الجياد، ولا تغمدوا سيوفكم!”، ولم يقل:”احملوني إلى بورصة، وادفنوني بها، واثأروا لي…” وما إلى ذلك. نعم، إنّ آخر كلامه في القضية التي استشهد من أجلها لَيتنفس فكرًا وحركة؛ وإنّ إحدى أمارات إدراك الإنسان لهذه النقطةِ الأفقِ أن يلقى الموت بنفس راضية، ويفرح به فرحه بالعرس أو العيد.
3- الاستفادة الدائمة مما يرِد به الوعيُ الجمعي؛ لأننا قد ننهار معنويًّا، فعلينا أن نعْمُر ما خلّفه الانهيار والخراب بملازمة هذا الجوّ الجماعي المبارك؛ فربما لا تكفينا ولا تسعفنا عيوننا ولا آذاننا ولا أيدينا ولا أقدامنا للتطهر من سلبيات بيئاتنا الخاصة، أمّا حينما نضع أيدينا في أيدي إخواننا ونسمع بآذانهم ونرى بعيونهم، فسنبلغ ما لا تبلغه قوتنا وطاقتنا الشخصية.
4- مطالعة كتب تجعلنا في شحذٍ روحيٍّ دائم. أجل، تتبعوا هذه المسألة بدءًا من الحياة البهية للأوائل الكرام، وصولًا إلى الآفاق الفكرية لكثير ممن غدَوا نموذجًا يُحتذى به في هذا السبيل، وذلك بمطالعة حياتهم، وفهمها جيدًا؛ عسى أن نتعالى على مناخ الألفة والأنس الخانق، وجمال الدنيا الجذّاب.
5- أن يتحمّل المرء لِزامًا وظيفةً ما بروح المسؤولية لتظلَّ الحيوية والنشاط غالبةً على شعوره بخدمة أمتنا، وحينئذٍ يتلاقَى كثيرًا مع من خلصت نيتهم لخدمة أمتهم؛ وأن يُقَوِّم دائمًا ما أُنجز من أعمال وما سيُنجز، فيعايشها ويقوم ويقعد معها أسبوعَه كلَّه؛ ويتنفس الخدمة دائمًا دون انقطاع ولو لحظة، وحينئذ يبارك الحق تعالى له في عشقه وشوقه، أي يبارك له في حركته وعمله، وهذه الحقيقة أجلى ما تكون في الحديث القدسي: “إِذَا تَقَرَّبَ العَبْدُ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِذَا تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِذَا أَتَانِي مَشْيًا أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً”[2].
والحاصل أن الفتية الذين يُناط بهم عمل بديع كهذا وينهضون به سيُدركون بالتأملِ القيمَ التي عليهم أن يستمسكوا بها، وسيتجاوزون برابطة الموت فناء الدنيا وزوالها، حتى إنهم سيرشدون الناس إلى الوجود الحقيقي داخل الزوال والفناء، ويشاطرونهم الحزن والكدر والفرح في كل مكان، وبهذا يغدون أُلُوفًا وقد كانوا آحادًا؛ إن أبطال الفتوة هم ممثلو الوفاء الحق، هم من سيُهرَعون للقيام بالخدمة في فرح وطرب، وسيقدمون بطولات أكثر فأكثر، وأعمالًا تلو أعمال لإنشاء عالمهم الذي بُشّروا به قبل عدة قرون.
أسأل الله أن يحرر أجيالنا وينقذهم بإحسانه وكرمه وعنايته، وأن يمدَّنا ويسدّدنا بقوته وحوله في هذا الكفاح العظيم، وهذا السبيل الذي يفوق طاقتنا وقوتنا، وأن يُديم هذا العمل بنا وبمن يأتي بعدنا من الأجيال؛ إلهي أسعِدْ من فوق الأرض ومن تحتها، وبشِّرْهم، وأقرّ أعينهم بإقامة دينك وحفظه.
[1]ابن عساكر: تاريخ دمشق، 2/56.
[2] صحيح البخاري، التوحيد، 15؛ صحيح مسلم، التوبة، 1، الذكر، 20-22.
المصدر: فتح الله كولن، سلسلة العصر المحيرة، نحو عقيدة صحيحة، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.