سؤال: لماذا يصرّ الشيطان على الكفر وهو يعلم أن مآله إلى جهنم؟
الجواب: الشيطان هو المطرود من الوقوف بين يدي الله، المحروم من رحمته، الذي لم يُحسِن استغلالَ الفرص التي في يده بل صيرها وبالًا عليه، وخسر في وقتٍ هو أدعى للكسب؛ فهو بهذا فريسة لدورٍ فاسدٍ تتابع فيه، وهو بحاله هذه لا يستطيع أن يشعر بالحق ويدركه؛ فالشيطان اغترَّ أوَّلًا وتكبر وقال: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ﴾ (سُورَةُ الأَعْرَافِ: 7/12)، وجال أول جولة في الدور الفاسد بهذه الفكرة الجدلية الشيطانية الأولى وخطا أول خطوة نحو الدوامة القاتلة، وسدّ أبواب الاستغفار كلها بِطِينة الحُجَج والمعاذير، وهذا الكلام فيه ما فيه من عُجبٍ وكبر طافح، وبهذا الفعل تشكلت أول حلقة من حلقات الدور الفاسد.
ارتكب الشيطان هذا الذنب، أما آدم عليه السلام فإنه أخطأ ومدّ يده إلى الشجرة المحرمة، لكنه لما أدرك الأمر أناب إلى الله وقال: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (سُورَةُ الأَعْرَافِ: 7/23)، فلم يتشكل عنده الدور الفاسد ونجا إذ حالت المغفرة بينه وبين الذنب؛ أما الشيطان فدافع عن نفسه بحجج شيطانية، وأبى الاعتراف بذنبه رغم تحذير الله له، وقال: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ﴾ فهلك، ثم غدا العدوَّ اللدود لبني آدم، تأمل كيف أعلن عن نفسه: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ (سُورَةُ ص: 38/82)، ﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ (سُورَةُ الأَعْرَافِ: 7/17)؛ أي سيكفرون النعمة ما عاشوا، فسترزقهم ويعبدون سواك، تغرقهم بالنعم ويجحدونك…
الإنسان كائن مكرم جدًّا، فيمكن أن يرتقي إلى مرتبة الملائكة إن استغل المقومات التي وُهبت له.
وكثيرًا ما تحدّث القرآن الكريم عن مبارزة الشيطان في هذا، وعداوته لبني آدم، وعصيانه لربه جل وعلا؛ فأفضى به العصيان إلى الطرد من رحمة الله، فعندما قال ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ﴾ أخزاه الله؛ ونجم عن أعذاره التي هي أقبح من ذنوبه وعن عداوته اللدود لبني آدم التي أكّدها باليمين والقسم طردُهُ كلية من مستقرّ رحمته سبحانه وتعالى حيث الإيجابية والرقة والرفعة؛ ثم خضع كلية للمنطق الشيطاني، وغمغم قائلًا: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾، فاختار الغواية طريقًا، وكلما غوى ابتعد، وكلما ابتعد ازداد حنقًا، فتخلقت عنده فطرة أخرى امتزجت بالفساد والكفران، وكلما ابتعد ازداد بغيًا، وكلما طُرد تمادى في الجهر بحقده وبغضه وغيظه وكبره وعجبه؛ حتى إنه بارز الله في الكلام وجادله، فابتعد عن رحمة الله، فأدى به ذلك إلى العصيان، وساقه العصيان إلى الابتعاد، فوقع فريسة للدور الفاسد، وكُتِب عليه “الختم الإلهي”، أي خُتم على قلبه، فهذا يعني أنه لم يعد لديه شيء سوى التفكير في الشر، عدا انغلاق طرق الخير كلها وانطفاء مصادر النور كافّة عنده.
وإليكم مثالًا على هذا ليتيسر فهمه: الإنسان كائن مكرم جدًّا، فيمكن أن يرتقي إلى مرتبة الملائكة إن استغل المقومات التي وُهبت له، فلو أنّ إنسانًا قمّة في الشفقة والمواظبة على أداء العبادات من صلاة وصيامٍ وزكاة وحجٍّ، وله علاقة طيبة بالناس، فجاء يوم هُتك فيه عرض هذا الإنسان الكامل وانتهكت كرامته وأوذيت مشاعره وأُهين، فتجشّم جهازه العصبي يومًا بعد يوم أعباءً كالجبال الرواسي، حتى ضاق صدره في فترة ما فانفجر فورًا، ثم ما عاد يُعنَى بالرفق أو العفو أو التسامح، فتطايرت منه شهب الحقد والكره، فلن ترى منه وقتئذ إلا حقدًا وغضبًا كأنه شرر تطيره نار جهنم، ولن تجدي معه النصيحة شيئًا.
الشيطان دافع عن نفسه بحجج شيطانية، وأبى الاعتراف بذنبه رغم تحذير الله له، وقال: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ﴾ فهلك.
وكل فرد رأى وعاش أمثال هذه الحالات في حياته؛ وهكذا الشيطان، فهو كائن تضطرم نيران الحقد والكره والغيظ بين جوانبه ولدى عشيرته وسلالته في كل حين؛ فلا همّ له طول حياته إلا التفكير في الشر، ولن يفكر وهو في هذا الضيق والتوتر السلبي إلا في الكيد لبني آدم، ولن يجد فرصة للتفكير في الخير ألبتة، لأن جوانبه تفيض بالشر؛ فهو يفعل هذا وإن كان يعرف الله من ناحية ما، كما أن المؤمن الغاضب ينسى اللين والوداعة أثناء غضبه مع أنه يؤمن بالله؛ وهكذا الشيطان لا يتذكر الله بل يكفر به رغم أنه يعرفه؛ لأن بين جوانبه ما يحول بينه وبين ذلك.
الشيطان هو المطرود من الوقوف بين يدي الله، المحروم من رحمته، الذي لم يُحسِن استغلالَ الفرص التي في يده بل صيرها وبالًا عليه.
وهناك كثير من الناس وقعوا فريسة مثل هذه الأشياء الخبيثة كما وقع الشيطان فريسة لمثل هذا الدور الفاسد؛ سقطوا فريسة لمثل هذه المشاعر والأهواء الخبيثة، فعبدوا أصنام النفس والأنانية، ولا يمكن أن يقال: إنّ أحدًا معصوم من هذا الأمر؛ فضماننا الوحيد نحن المؤمنين هو ثقتنا بالله وحسن ظننا به؛ هو حسبنا ونعم الوكيل.
اللهم إنا نعوذ بك أن نسلك شيئًا من الطرق الشيطانية.
المصدر: فتح الله كولن، أسئلة العصر المحيرة، نحو عقيدة صحيحة، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.