سؤال: يزعم بعض الناس أنّ رسالة سيدنا رسول الله ﷺ خاصة بعهده ومقصورة على العرب، فما قولكم في هذا؟
الجواب: لا دليل أو أمارة تثبت أنّ رسالة نبينا ﷺ خاصةٌ بعهده كما لا دليل على أنه ﷺ إنما أُرسل إلى العرب خاصّةً، بل إن الدلائل كلها تبرهن أنه ﷺ كان يصل ليلَه بنهاره طوال حياته السَّنيّة ليبلُغَ برسالته ما بلغ الليل والنهار.
نهض الإسكندر ليؤسّس دولةً تهيمن على العالم، ومثلَه فعل سيزار لروما والرومان، ومن بعده نابليون كذلك. لكن نبينا الكريم، جوهرَ الخَلق، وسيدَ الزمان والمكان r، عندما وجَّه أتباعه لفتح العالم كان يستهدف من ذلك إزالة العوائق من الطرق المؤدية إلى سعادة الإنسان الدنيوية والأخروية، ويستهدف من جهة أخرى توجيه البشرية -التي هي أشرف المخلوقات لكنها انقلبت رأسًا على عقب وهَوَتْ في أسفل سافلين- إلى الهدف الذي من أجله خلقها الله، ويستهدف أيضًا استرداد كرامة الإنسان المفقودة. وقد مدَّ r يده المباركة البيضاء لتحقيق هذه الغايات، فبلّغ رسالة ربه إلى كل شخص وكل بقعة بلغَها صوته، بصفته رسولًا يأتمر بأمر الله ويهتدي بهداه.
وإليكم بعضًا من دلائل عموم رسالته ﷺ:
1- لما كان رسول الله ﷺ بمكّة أمر بعض أصحابه بالهجرة إلى الحبشة، فعرَّف سُفراءُ الهداية الأوائلُ كثيرًا من أهل الحبشة بالإسلام، نعم كانت رحلتهم هجرةً في ظاهرها، بيد أن إسلام النجاشي ملك الحبشة ومن معه بسعيهم هناك ودعوتهم لَهو استجابة مُثلَى وإشارة أُولَى تبرهن أنه r رسول الله إلى الناس كافّةً.
2- كان من الرعيل الأول في عصرِ الصحابة أجناسٌ مختلفة، فسيدنا بلال رضي الله عنه حبشيّ، وسيدنا صهيب الروميّ، وسيدنا سلمان الفارسيّ، وآخرون من أعراق أخرى؛ تسنّموا مناصب رفيعةً أكثر من كثير من العرب وهم ليسوا بعرب، وهذا له مغزًى عميق؛ فهو يدلّنا أن رسالة الإسلام رسالة عالمية.
3- لحِق سراقة بن مالك رسول الله وصاحبه يوم الهجرة، وبشّره ﷺ بسِوارَيْ كسرى بن هرمز قبل فتح العراق بسنوات، وتلك إشارة منه ﷺ إلى أن رسالته ستبلغ بلاد فارس، بل إلى ضرورة تبليغ رسالته إلى هناك، وما طالَت بالبشارة مدّة بُعيد وفاته ﷺ حتى تحققت، ففُتحت العراق، ولبس سراقة سِوارَي كسرى.
4- عن أُمِّ حَرَامٍ بنت مِلحان رضي الله عنها -وهي خالة النبي ﷺ من الرضاع في رواية، وقيل من محارمه من جهة خالاته- أَنَّ النَّبِيَّﷺ قَالَ يَوْمًا فِي بَيْتِهَا، فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ، قَالَتْ: “يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يُضْحِكُكَ؟” قَالَ: “عَجِبْتُ مِنْ قَوْمٍ مِنْ أُمَّتِي يَرْكَبُونَ الْبَحْرَ كَالْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ…”[1]، وهذه إشارة أخرى إلى أن الرسالة ستمخر عباب البحار، وتحققت هذه البشارة المباركة في عهد الصحابة رضوان الله تعالى عليهم.
5- بشّر النبيُّ ﷺ صحابته ذات مرَّة بفتح مصر، وأن نور رسالته سيبلغها في عهدهم، وأوصاهم بأهلها: “إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ مِصْرَ وَهِيَ أَرْضٌ يُسَمَّى فِيهَا الْقِيرَاطُ فَإِذَا فَتَحْتُمُوهَا فَأَحْسِنُوا إِلَى أَهْلِهَا فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا (أَوْ قَالَ: ذِمَّةً وَصِهْرًا)”[2]، فهو عليه الصلاة والسلام يعزز بذلك أواصر القربى التي كانت أمّنا مارية رضي الله عنها وأمّنا هاجر زوجة سيدنا إبراهيم عليهما السلام أهمَّ وشائجها.
6- لما كان النبي ﷺ يحفر مع صحابته الخندق بالرافعة والمعول والمجرفة، بشّرهم بفتح الحيرة وصنعاء ومدائن كسرى وبلاد الشام[3].
وبعد فهل بقي لمدَّعٍ مستمسَك على أن رسالته r خاصة بالعرب وحدهم أو بعهده فقط، أم أن علينا أن نعدّ هذه البلاد من الجزيرة العربية، وأن نسمّي أهل الحيرة والفرس والروم عربًا؟!
والأدلة من الكتاب والسنة على عموم رسالته كثيرة، منها:
1- يقول ﷺ: “كَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً”[4]، وفي رواية أخرى “بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ”[5]، ويتقوّى هذا بما جاء في تاريخ الطبري: أنَّ النبيّ r خرج على أصحابه ذات غداة فقال لهم: “إِنِّي بُعِثْتُ رَحْمَةً وَكَافَّةً فأَدُّوا عَنِّي يَرْحَمْكُمُ الله”[6].
2- ولما جاء رسولا كسرى قال لهما النبي ﷺ: “قُولَا لَهُ: إِنَّ دِينِي وَسُلْطَانِي سَيَبْلُغُ مَا بَلَغَ مُلْكُ كِسْرَى”[7]، يشير بذلك إلى أن رسالته ستُخرِج العالم ومنه الفرس من الظلمات إلى النور.
3- وجّه النبيّ ﷺ أصحابه إلى بقاع العالم كافّة، فقبل فتح إسطنبول والأناضول بقرون أخبر أن الجيوش الفاتحة ستدُقُّ يومًا ما أبواب أوربا، فمدحهم وأميرَهم، ورغَّب في ذاك الفتح المبين، فقال: “لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ، فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا، وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ”[8].
أمَّا حديث القرآن عن هذا فبيِّن جليّ، لا خفاء فيه ولا تأويل، فمثلًا:
1- ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ﴾ (سُورَةُ ص: 38/87). دليلٌ على أن نبينا r كُلّف بدعوة الناس كافّة.
2- ﴿لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ (سُورَةُ يس: 36/70)، فالآية تقرّر هذه الحقيقة بأَبْيَن وأصرَح، ففيها أن رسالته r للخلق جميعًا، الإنس والجن، فمعارضتها بأي شكل كفر وجحود.
3- ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (سُورَةُ سَبَأٍ: 34/28).
4- ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ (سُورَةُ الأَعْرَافِ: 7/158). فدلالة مثل هذه الآيات جليّة على أن الله أرسلَه للنّاس كافّة، فهو رسول الله إليهم جميعًا، إذًا لا معنى ألبتة لدعاوى لا أصلَ لها تحصر رسالته r بزمان ومكان ما، أو بعهده خاصة.
أضف إلى ذلك أن القرآن الكريم يتكلم عن الأنبياء الآخرين عليهم السلام وكيف أن دعوتهم كانت خاصة بأقوامهم، ليبيّن الفرق بين الأنبياء كافّة وبين رسول العالَمين r، فمثلًا قال عن نوح وهود وصالح عليهم السلام: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ (سُورَةُ الأَعْرَافِ: 7/59)؛ ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ﴾ (سُورَةُ الأَعْرَافِ: 7/65)؛ ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ (سُورَةُ الأَعْرَافِ: 7/73).
وهكذا تحدث عن سيدنا لوط عليه السلام في الآية الثمانين من السورة نفسها، وعن سيدنا شعيب في الآية الخامسة والثمانين، ويكاد كلما ذكر الأنبياء السابقين يشير إلى أنهم إنما أُرسلوا إلى أقوامهم خاصة، فلم يدع المسألة مبهمة، بل أفصح عمن أُرسِل إلى قومه خاصّةً، ومن أُرسِل لهداية الناس كافّةً.
حقًّا لقد سمعت الأرض كلها برسالته ﷺ منذ أن بُعِث، فاستحسنها الناس جميعًا أيَّما استحسان، وغدت حياةً للحياة بما تركَته من أثر طيب على مساحة كبيرة امتدت من بلاد المغرب حتى بلاد ما وراء النهر، فكثيرٌ من الدول الإسلامية امتثلَت قرونًا عدّة للتشريع الذي أنزله الله عليه r، فالمبادئ التي قدّمها للبشر تتفاعل مع الحياة على الدوام، وهي رائدة للفكر، مرشدة للعلوم، تبعث على البحث والتأمّل، حافظت على حيويتها وجدتها، فغدت منشودةً في كل مكان رغم ما مُنِيَت به من أعداء الإسلام منذ عصور من بغي واعتداء وتخريب، واليوم يُجمِع آلاف العلماء والمفكرين على أن عودة الإنسانية إلى ذاتها رهنٌ بالرُّوح والقِيَم النبوية، وهذا لا يُعَدّ دليلًا واحدًا فحسب على عالمية رسالته بل إنه بمنزلة آلاف الأدلة.
ودلَّت كتب السير والحديث أنّ النبي ﷺ بعث بكتب إلى ملوك العالم؛ بدأت بهرقل عظيم الروم فالمقوقس عظيم القبط في مصر، وكسرى في فارس والنجاشي في الحبشة، ليبلّغ دعوته إلى العالم كافّةً، فعرّف ﷺ نفسه رسولًا للعالمين منذ أن دعا إلى الدين الحق حتى يومنا هذا، واستحسن الناس جميعًا مبادئ شريعته أيَّما استحسان، فدلّ هذا أن الله أرسلَه للنّاس كافّةً، فهو رسول الله إليهم جميعًا، فالمسألة قطعية الثبوت، ويبدو أن إثارة شبه جديدة حولها مصدره الحسدُ والحقد والغلّ ليس إلا.
[1] البخاري: الجهاد والسِّير، 8؛ مسلم: الجهاد والسِّير، 49.
[2] مسلم: فضائل الصحابة رضي الله عنهم، 56.
[3] سنن النسائي: الجهاد، 42؛ مسند الإمام أحمد: 4/303.
[4] البخاري: التيمم، 1.
[5] مسند الإمام أحمد: 3/304.
[6] تاريخ الطبري: 2/645.
[7] أبو نعيم: دلائل النبوة، 1/348.
[8] المسند الإمام أحمد: 18957.
المصدر: فتح الله كولن،سلسلة أسئلة العصر المحيرة، الرد على أسئلة المحيرة، دار النيل للطباعة والنشر.