إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾(مَرْيَم:96)
هؤلاء المؤمنون العاملون للصالحات سيكونون هم المحبوبين من قبل الإنس والجن والملائكة، حتى وإن لم يعملوا شيئاً من أجل كسب حب الناس لهم.
الفعل في اللغة العربية يفيد التجدد ويدل عليه و﴿آمَنُوا﴾ فعل. إذن فالمؤمنون بعد إيمانهم لا يعرفون الركود، بل يجددون أنفسهم وإيمانهم على الدوام بكشف جديد وفكر جديد وتأمل جديد، فيتوجهون على الدوام إلى آفاق جديدة ومتقدمة. ولا يكتفون بهذا بل ﴿وَعَمِلُوا﴾ أي يعملون ما يوافق إيمانهم هذا. أي يقضون أعمارهم في عمل الصالحات. إذن فهؤلاء الناس المؤمنون ثم العاملون ما يرضاه وما يريده ربهم منهم سيفوزون أولا بحب الله تعالى ثم بحب الناس، أي ﴿سَيَجْعَل لَهُم الرّحْمنُ وُدّاً﴾. والحديث الآتي يوضح هذا الأمر إيضاحاً تاماً، حيث يقول الرسول صلىوسلمه : “إذا أحَبَّ اللهُ العَبدَ نادى جبريلَ إنّ اللهَ يحِبُّ فلاناً فأَحْبِبْه فَيحبُّه جبريل فيُنادي جبريل في أهل السماء إنّ اللهَ يُحِبُّ فلاناً فأحِبُّوه فيُحبُّه أهلُ السماء ثمّ يُوضعُ له القَبولُ في الأرض”.
والحقيقة أن الحب يبدأ دائماً منه ثم يتدلى منه إلى السماء ثم إلى الأرض ويحيط بـهما. ويكون هذا إما بخلق الله تعالى وسائل المحبة أولاً ويبنى عليها المحبة. أو يحبهم أولاً -لما سيكونون عليه في المستقبل- كأجرة عاجلة، ثم ييسر أمام قلوبهم الاتجاه نحو الخير ونحو الجمال ونحو الحسنات. وفي كلا الأمرين نرى أنّ الأساس هو النية الصالحة، وأن النبع الأساسي هو المودة الإلهية.
واليوم وإن كان الحديث عن مثل هذا الإنعام زعماً مشكوكاً فيه، إلا أن جنود الإيمان الذين يقدمون خدماتهم في العديد من بلدان العالم يستحقون هذا الإنعام، وهو بالنسبة لهم عين الحقيقة. ولو تم تدقيق حسن القبول التي يتمتع بها جنود الخدمة هؤلاء في مختلف بلدان العالم لما شَكَّ أحدٌ في كوني محقاً في وصفهم. كيف لا وأنفاسهم تتردد من سهول آسيا الوسطى إلى داخل الولايات المتحدة الأمريكية، ومن أوروبا إلى شمالي أفريقيا وإلى الباسفيك واستراليا. إن المستقبل كفيل بالحكم على هذه الخدمات التي يحققها هؤلاء الجنود من ناحية الكم ومن ناحية الكيف باسم امتنا ولصالح الإنسانية أيضاً. ولو قمت بتقويم أمرهم من ناحية إنتشارهم الجغرافي فقط لما ملكت نفسك من قول: “لولا أن الله تعالى ألقى محبة هؤلاء في قلوب أهالي تلك البلدان لما قبلوهم هذا القبول الحسن”.
إن أصدقاءكم هؤلاء وفي هذا العهد العصيب الملئ بالكوارث المتتابعة والمشاكل المتتالية تمسكوا بدينهم ولم يعلموا لهم غاية سوى خدمة هذا الدين ونظموا حياتهم وفقها. فهم عند قيامهم وقعودهم، وعند تنـزههم وتحولهم أو عند أكلهم وشربهم يقولون: “يا رب!… كيف أستطيع نيل رضاك؟!”ويفكرون في هذا على الدوام. لذا فالعديد من أمثال هؤلاء بمستوياتهم ودرجاتهم المختلفة… برجالهم ونسائهم… بشبابهم وكهولهم وشيوخهم عندما اجتمعوا واتحدوا حول فكر واحد ونشاط واحد، أي حسب تعبير الآية الكريمة عندما آمنوا وعملوا الصالحات أنعم الله تعالى عليهم بحسن القبول في الدنيا. وشخصيا لا أستطيع سوى تقويم هذا التفسير حول وصول هؤلاء إلى هذا المستوى من مستويات الخدمة الإيمانية في ظل كل هذه العوائق التي يحفل بها هذا العهد. وأقول والشعور بنعمة الله وفضله يحيط بقلبي وجوارحي: “كل هذه النعم منك وحدك يا إلهي!”… أقول هذا وأنحني بخشوع.
يقول الله تعالى في تكملة هذه الآية: ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً﴾ (مريم: 97).
حيث يذكر تيسيراً تحف به الأسرار. ولو قمنا بتقويم المسألة ضمن سياقها وسباقها، نرى أن القرآن يتحدث عن أمر يتصف بالصعوبة… أجل!… إن التبشير صعب، والإنذار صعب، والأصعب منهما هو النفوذ إلى القلوب. وعندما تكون الشروط والظروف غير موافية وغير ملائمة، ويكون القادرون على الأمر والقائمون به قلة عند ذلك تبلغ الصعوبة درجة الاستحالة؛ لأن تحريك شيء راكد، وتحويل أمر سلبي إلى أمر إيجابي يحتاج إلى بذل طاقة كبيرة. فعند تحريك طائرة، يصبح التحريك الهدف الوحيد، وعند تشغيل السيارة تطفأ المصابيح والراديو والمسجل لتجنب أي ضياع للطاقة. ولكن بعد أن تطير الطائرة، وبعد أن تشتغل السيارة وتتحرك يعود كل شيء إلى وضعه الطبيعي ويتحرك كل شيء بانسيابية. وهكذا الأمر بالنسبة للخدمة الإيمانية -على اختلاف مدارسها ومفاهيمها- فمع أن المرحلة الأولى تتطلب جهوداً شاقّة، إلا أن الأمور ما أن تبدأ بالجريان في سياقها الطبيعي حتى تبدأ ما يمكن أن نطلق عليه اسم “الدائرة الخيرة” -ضد “الدائرة المفرغة”- أي الدائرة الولودة هذا ما نشاهده الآن كل يوم في العديد من وجوه خدماتنا الإيمانية. وهو ما تذكره آية قرآنية أخرى: ﴿وَالّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنّهُمْ سُبُلَنَا﴾ (العنكبوت: 69).
أجل إن هذه الخدمات الإيمانية المقدمة اليوم، وأصحاب هذه الخدمات الذين نالوا شرف الدخول ضمن دائرة الرضا الإلهي من الأفراد والجماعات والأمم والدول سيأخذون طبعاً نصيبهم من هذا التيسير، بل نالوه فعلاً. ولو دققنا التاريخ من هذه الزاوية لرأينا ألف دليل ودليل على هذا. فمن عهد الراشدين إلى الدولة الأموية والدولة العباسية ثم الدولة السلجوقية والدولة العثمانية، إلى هذا العهد الذي تبدو فيه بشائر البعث من جديد يمكننا رؤية أمثلة عديدة على أصحاب هذه الخدمة.
كما يمكننا النظر إلى هذا الموضوع من منطلق آخر، فالله تعالى يقول في سـورة الليل: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾ (الليل: 5-7).
إذن فالإعطاء والتقوى والتصديق بالحسنى -نتيجة للفطرة السليمة التي يحملها المرء- كلها أمور ضمن الأعمال الصالحة، وكلها تؤدي إلى تيسير الأمور وتسهيلها. وهذا هو ما يعمله أصدقاؤنا الآن. فهم يعملون ليل نهار، وقد تركوا منازلهم وهاجروا إلى أواسط آسيا أو إلى مناطق أخرى في العالم غير آبـهين بالضيق المادي، وحاضرين حتى للتضحية بالفيوضات المعنوية. فلا نبالغ إن قلنا بأن أمثال هؤلاء يكونون مظهراً للـ”ودّ”المذكور في الآية. لأن إيفاء حقّ الخدمات التي تصدوا لها وحملوها -على أحسن وجه ودون أي نقص- ليس شيئاً هيّناً. ولكني أظن أن أصدقاءنا هؤلاء قد عدوا ما يقومون به -والذي يبدو للغير أنه في غاية الصعوبة- جزءاً لا يتجزأ من حياتـهم، لذا تراهم مشغولين به ليل نـهار، في قيامهم وقعودهم… في حركاتـهم وفي سكناتـهم. إذن فلتكن نفوسنا فداءً لصاحب الفضل والمنة الذي يسر لهم الصعب، وهوّن عليهم الشاق.
المصدر: فتح الله كولن، أضواء قرآنية في سماء الوجدان، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.