المعرفة هي علم خاص، تلك التي لا يطيقها كل شخص، ولا تظهر في كل شخص، ولا في كل مكان. أما لدى سالكي الحق فهي مرتبة توحّد المعرفة بالعارف حتى تكون طبيعة عنده. فتكون حالاتُه كلها ترجماناً للمعروف. وقد عرّفها آخرون أنها ظهور المعارف الوجدانية وانبساطها بحيث إن مثل هذا الظهور والانبساط في الوقت نفسه هو ظهور الإنسان بقيمه الذاتية وانبساطها. ولعل هذا هو مما يفهم من القول: “من عرف نفسه فقد عرف ربه”.
أهل المعرفة لهم أمارات تخصهم، فالعارف لا يرجو توجهاً من غير المعروف سبحانه ولا يختلي بغيره تعالى. ولا يرفع أجفانه ولا أبواب قلبه لغيره تعالى.
إن أولى مراتب المعرفة هي رؤية تجليات الأسماء الحسنى المحيطة بنا إحاطة تامة وحدسها، ومشاهدة إقليم الصفات الجليلة المثير للإعجاب، فيما وراء انفراج أبواب الأسرار بهذه التجليات.
ففي أثناء هذه السياحة تسيل الأنوار من عيون السالك وأذنه إلى لسانه، ويشرع قلبُه بالهيمنة على سلوكه، ويغدو سلوكه وأطواره لساناً ناطقاً بتصديق الحق سبحانه والإعلان عنه، حتى يتحول هذا اللسان كقرص مرن للـ”الكلمة الطيبة”.. وإذا بأنواع من أنوار مشعة تنعكس كل آن عن شاشة الوجدان من الحقيقة المنوّرة: ]إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ[ (فاطر: 10). وهكذا مثل هذا الروح يصدّ أبوابه في وجه العواطف والمشاعر الرذيلة جميعها، ووجدانٌ كهذا يتسربل برَوح نسيم الماوراء. ومن منفذ سري تنفتح إلى روحه أبواب أروقة من نورٍ تؤدي إلى مَن عُرفَ “كنـزاً” الذي عبّر عنه الشاعر:
قال الحق: لا يسعني السماء والأرض
منْجَم القلب عرفه “كنـزاً”
مستلهما مما جاء في حديث متشابه (ما وسعني سمائي ولا أرضي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن). فيجد الإنسان نفسه في لذةِ مشاهدةٍ لا يرد على فكره الفراق ولا الرجوع عنها قطعاً.
ولما يصدّ السالك عن الأغيار ويدخل في حالة توجس وحذر مع النفسانية ويلقي بنفسه في مدّ الحضور والطمأنينة وجزره، هذه النقطة هي نقطة المعرفة. فالذي يحوم حول هذه النقطة دائماً يطلق عليه “سالك العرفان” ويسمى من بلغ إلى هذه النقطة بـ “العارف”.
فكما أن الأقوال المختلفة التي ذكرت حول المعرفة نابعة من اختلاف الاستعدادات والمشارب، كذلك يمكن أن تكون ذات علاقة باختلاف المستويات.. فلقد بحث بعضهم عن المعرفة في مواضع التجلي فحسب. وظن آخرون أن حس الهيبة في العارف هو من تظاهر المعرفة… وآخرون ربطوا بين المعرفة والسكينة وقضوا بعمق الأولى حسب سعة الثانية.. وآخرون فهموها بأنها انغلاق القلب كلياً عما سواه تعالى. وآخرون رأوها حيرة القلب وإعجابه في ثنايا مدّ التجليات الإلهية وجزرها… بحيث إن أمثال هؤلاء – بمقتضى المقام الذي هم فيه – تنبض قلوبهم بالحيرة وتدور أبصارهم بالإعجاب والاستحسان وتنطلق ألسنتهم بـ (لا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ)( ) فيتنفسون الإعجاب والتقدير والاستحسان في الظهور والتجليات.
الحياة في إقليم المعرفة، نـزيهة وهادئة، وكأنها بساتين الجنة. إذ الروح في طيران دائم والوجدان قد وصل إلى لذة الاطمئنان فينتشي نشوة الطفل ولكن في حذر وتدبير. فيُصبح ويمسي بـ ]لايَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ[ (التحريم: 6) في سباق حامٍ مع الملائكة. إن مشاعر هذه الأرواح تتفتح تفتح البراعم على المعرفة كأنهم يسيحون عدة مرات في اليوم في ربوع جمعة الجنة. إذ يتفتحون ورقة إثر أخرى كانفتاح البراعم، ويواجهون الحبيب كل آن في بُعد آخر. فيتذوقون لذة الوصال والمعية. فهم ثملون بنشوة الوصال والغياب عن النفس كل يوم، وربما كل ساعة مرات ومرات، طالما عيونهم ترقب فرجات باب الحق سبحانه.
دع أدعياء العلم بعلمهم يَحْبون، والمتفلسفون بحكمتهم يتمتمون، فإن العارف يترشف الحضور والطمأنية ويترنم السكينة في منشور من نور. وحتى حينما يهتز بالمخافة والمهابة، يتذوق لذة خالدة وكأن قلبه يضحك فيما تهطل عيناه بالدموع.
بجانب هذه المزايا المشتركة لدى العارفين، نلمح بعض التمايزات النابعة من اختلاف الأمزجة والمشارب. فبعضهم عندما يذكّرون بالدوامات بهدوئهم وغور عمقهم، يدوّي الآخرون كالشلالات، وآخرون يخرجون من الدنيا ولم يقضوا وطرهم من بكاء وآهات على ما قدّموا وأخّروا من أثوبة وآثام ومن الثناء على ربهم الجليل. وبعضهم يجولون في مجال الهيبة والحياء والأُنس، ولا يفكرون بفراق البحر وبلوغ ساحله. وآخرون كالأرض يطؤهم كل غاد ورائح. وآخرون كالسحاب يظلل كل شيء، البر والفاجر، وينـزلون عليهم قطرات الرحمة. وآخرون كالهواء يهبّون على مشاعرنا بألف عطر وعطر.
أولى مراتب المعرفة هي رؤية تجليات الأسماء الحسنى المحيطة بنا إحاطة تامة وحدسها.
إن أهل المعرفة لهم أمارات تخصهم، فالعارف لا يرجو توجهاً من غير المعروف سبحانه ولا يختلي بغيره تعالى. ولا يرفع أجفانه ولا أبواب قلبه لغيره تعالى، فأقسى عذاب لدى العارف الحق، توجهه إلى الآخرين، والاختلاء بغيره تعالى، ودخول طيف الغير إلى عينه. فمن لم يبلغ المعرفة وفق هذا المقياس لا يتمكن من التمييز بين الأغيار والأحباب. ومن لم يذق الوصال مع الحبيب لا يعرف العذاب في الهجران.
لننه هذا الفصل بالآتي:
نور العرفان يشع من عيون قلب العارف
عون الله، وسـر المعارف رفيق العارف م. لطفي
اللّهم كن لنا ولا تكن علينا وأعنّا ولا تعن علينا،
وصلّ اللّهم على سيدنا محمد المبعوث فينا وعلى آله وصحبه الكرام البررة.
المصدر: فتح الله كولن، التلال الزمردية نحو حياة القلب والروح، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.