سؤال: جاء في الحديث: “آفَةُ الدِّینِ ثَلَاثَةٌ: فَقِیهٌ فَاجِرٌ وَإِمَامٌ جَائِرٌ وَمُجْتَهِدٌ جَاهِلٌ”[1]، فما السمات المشتركة التي جعلت من هذه الفئات الثلاث المذكورة في الحديث آفةً للدين؟
الجواب: رغم أن هذا القول الذي رواه ابن عباسٍ رضي الله عنهما قد انتُقد من حيث ضوابط ومعايير علم مصطلح الحديث فلا شك أنه يعبّر من حيث المعنى عن حقيقة مهمّة للغاية، يمكننا أن نتناولها على الشكل التالي:
الفقيه الفاجر
أول الثلاثة هو الفقيه الفاجر، والفاجرُ هو الذي يرتكب المعاصي دون اكتراث، يشتغل بالكتاب والسنة، ويستنبط الأحكام من هذين المصدرين المباركين، ومع ذلك يعيش حياة ملؤُها الفسق والفجور، لا يسير على الطريق المستقيم، ولا يحافظ على استقامته، ويأتي بعض المحرمات، ويقع في الذنب.. على سبيل المثال لا يأبه ولا يراعي حدود الحلال والحرام في كسبه، ولا يتحكم في لسانه ويده، ويلهث وراء أهوائه وشهواته ورغباته ونزواته؛ بمعنى أن علمه لم يرجع عليه بشيء نافع، ولذلك يشبهه القرآن الكريم بالحمار الذي يحمل أسفارًا، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يستعيذ في أدعيته من العلم الذي لا ينفع، كما كان يقول: “مَنِ ازْدَادَ عِلْمًا وَلَمْ يَزْدَدْ فِي الدُّنْيَا زُهْدًا لَمْ يَزْدَدْ مِنَ اللهِ عز وجل إِلَّا بُعْدًا”[2].
كما أن العلم يصير معراجًا يرفع الإنسان إلى أعلى عليين إذا تم استغلاله في طريق الخير؛ فكذلك يمكن أن يكون سببًا في سقوط الإنسان نفسه إن استغله في طريق الشر.
فالآثام التي يرتكبها مثل هذا الشخص لا تقتصر عليه وحده، بل تسري إلى غيره من الناس؛ لأنه محطّ أنظارهم، يصغون لكلامه، ويتخذونه مثلًا أعلى في حياتهم.. ولذلك فإن رأوا مثل هذا العالِم -الذي يردّ على أسئلتهم الدينية ويحلّ لهم مشاكلهم المستعصية- يتقلّب في الفسق والفجور فإنّ القوّةَ المعنويّة ستتزعزع لدى الكثير منهم.
إن من يقف على علوم الكتاب والسنة، ويشتغل بالقضايا الدينية على الدوام ثم ينحرف عن الطريق القويم يجرّ الكثيرين خلفه، لا سيما إذا فضّل مثل هذا الشخص الهوى على الهدى؛ فحينئذٍ يخرج الأمر كلّيّةً عن السيطرة.. فلو ادعى هذا الشخص الذي يتزيَّا بزيّ العلماء أن الاختلاس ليس بسرقة؛ اعتقد الكثيرون أن طريق الفساد قد بات متاحًا لهم، فإذا ألبس الرشوةَ ثوبًا آخر انعدمت حساسية الناس إزاء الرشوة، وأضحت كل الأمور تجري في فلكها.
ولذلك تقع مسؤولية كبيرة للغاية على عاتق علماء الدين الذين يرشدون المجتمع ويوجهونه بآرائهم واجتهاداتهم، فالكثيرون يرمقونهم، ويحددون معالمهم وتوجّهاتهم وفقًا لهم، ومن ثمّ لا يقتصر انحراف رجال الدين على أنفسهم فحسب، بل يتعدّى إلى المحيطين بهم، فسقوطُهم لا يشبه سقوط الناس العاديين، لأن خروجهم عن الجادة ينشأ عنه دفعُ المجتمع كله إلى الانحراف، ولذلك قد يكون التأثير السلبي الذي تُحدثه أخطاؤهم في المجتمع أعظم جرمًا وأشدّ خطرًا من وساوس الشيطان وغواياته؛ لأن الشيطان يوسوس للإنسان بالشرّ، فإن لم ينهزم الإنسان أمام أهوائه وشهواته فقد سَلِمَ، أما مَن اكتسى حلّةَ العلماء ولا يكفُّ لسانُه عن ترديد الآيات والأحاديث؛ فحاله مختلِفٌ تمامًا، إذ الناس يُشنّفون له الأسماعَ، فإن تلبّس بأيِّ ذنبٍ أو انحراف أحدث ذلك تأثيرًا كبيرًا في نفوسهم.. فما من عالم لا توافق أفعالُه أقوالَه، ويتراخى في تطبيق أوامر الدين إلا ويتسبّب في تقويض ثقة الناس بالدين.
وإن الضرر الذي يَلحق بالدين مِن وراء مَن يستغلّه في أهدافه السياسية؛ لا يتساوى مع الضرر الذي يتسبّب فيه شخصٌ عاديّ من عوام الناس، فلو وضعنا كلّ هذا نصب أعيننا أدركنا جيّدًا لماذا كان الفقيه الفاجر أول الفئات الثلاث التي وصفها الحديث بآفة الدين، فلا مشاحة في أن هذا الشخص سيتقدم يوم القيامة مَن أضلَّهم واستغفلَهم، وهو يرتدي ثوب الخزي والعار.
الإمام الجائر
أما الفئة الثانية التي يرد ذكرها في الحديث فهي فئة الإمام الجائر، ويُقصد بالإمام هنا من يدخل ضمن هذا الإطار الواسع ابتداءً من مدير المؤسسة حتى رئيس الدولة، ولا ريب أن أول ما يتبادر إلى الذهن في هذا السياق هو رئيس الدولة وكبار المسؤولين.
فكلما ارتفعت رتبة الإمام العادل ومقامه عند الله تدنّت رتبة الإمام الظالم الذي يستغل منصبه ونفوذه في ظلم الناس والتنكيل بهم.. وكما هو معلوم من الحديث الشريف فإنَّ الإمام العادل هو أول “سَبْعَة يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ”. أجل، إن الإمام الذي لا يستحلّ ولو حبّة شعير يضعها في فمه، ولا يلجأ إلى الكذب ولو بنصف كلمة، ولا يأكل حقّ أحدٍ ولا يسمح بذلك ولو بقدر درهم، ولا يتلاعب بكرامة الناس وشرفهم؛ سيتبوّأ مكانه خلف الأنبياء العظام عليهم السلام يوم القيامة.
وفي المقابل فإن الأئمة الذين يظلمون رعاياهم يكونون آفةً على المجتمع والأفراد كما عبّر الحديث. أجل، لو أن الإداريين المسؤولين عن إدارة الدولة جعلوا ديدنهم ظلمَ شعوبهم وأذيّتهم والتنكيل بهم؛ فهذا يعني أنهم قد أصبحوا آفةً وكارثةً على المجتمع بأكمله، فتدبيرُهم المؤامرات والحيل الشيطانية للتخلّص من المعارضين الذين يتوهّمون أنهم يشكلون خطرًا على أطماعهم في السلطة، والتشنيع عليهم والتشهير بهم دون وجه حقّ، وإلصاق التّهم واختلاق الافتراءات التي تدينهم، وأكلهم مال اليتيم الذي لم يبلغ أشده من خلال تلبّسهم بشتى أنواع الممارسات الفاسدة؛ كلّ هذه الأعمال تُعَدّ مصيبةً في حدّ ذاتها يصعب على أيّ مجتمع تعرّض لها أن يستقيم عوده ويستعيد عافيته من جديد.
ولا شك أن هؤلاء الظالمين يحرم عليهم دخول الجنة ما لم يسامحهم المظلومون، فمهما عملوا من عمل -ولو كان بحجم فتح إسطنبول- فلن ينجوا من عذاب الله وغضبه ما لم ينتهوا عن ظلمهم، ويتحلّلوا ممن ظلموهم.. وكم هو مؤسفٌ أن يتردّى هؤلاء إلى أسفل سافلين بسبب ظلمهم لرعيّتهم والتنكيل بهم؛ بعد أن كان بوسعهم أن يكونوا في ظلّ الله يوم القيامة يوم لا ظلّ إلا ظلّه، وأن يتبوؤوا الذرى السامقة!
وإنّ ذكرَ الإمام العادل تلوَ الفقيه الفاجر له مغزًى كبير للغاية؛ لأنه من الطبيعي أن يتبع إداريو أيِّ بلدٍ طريقَ الظلمِ والجور طالما انحرف فقهاؤه عن الطريق المستقيم.. فمثل هؤلاء الفقهاء عندما يتصدّرون لإفتاء السراي والبلاط فإنهم يتسبّبون في انحراف الحكّام وضلالهم؛ لأنهم يسيئون استغلال النصوص الدينية ويمنحون هؤلاء الإداريين امتيازات وحججًا يتذرعون بها في ممارسة الكثير من الفظائع تحت غطاء شرعي؛ حيث يتكئ هؤلاء الإداريون الظالمون على هذا النوع من رجال الدين، فيمارسون ظلمهم بدافعٍ دينيّ، ولا يتردّدون عند ارتكابهم للمحرمات في إظهار أنفسهم وتبرير تصرفاتهم.
المجتهد الجاهل
أما الفئة الأخيرة التي يذكرها الحديث فهي فئة المجتهدين الجاهلين، فهؤلاء لا يفهمون الكتاب والسنة فهمًا عميقًا، ولا ينظرون إليهما نظرة متأنية شاملة، ولا علم لهم بفقه السيرة، ورغم ذلك يتصدّرون للاجتهاد.. وهؤلاء كُثرٌ للغاية، فلا يخلو مكان من مجتهد، فبعضهم يثق بنفسه لدرجة تجعله يبغض الأئمة العظام مثل أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد بن حنبل، ويرى نفسه أفضل منهم.. ولكن إن أمعنتَ النظرَ لألفيتَ معظمَ هؤلاء تعوزهم المعرفة بالكتاب والسنة، مع أنهما المصدران الرئيسان اللذان يقوم عليهما الدين، فلا يحيطون بالقرآن قدر إحاطتهم بخريطة مفتوحة أمام ناظريهم، ولا يستطيعون شرح الآيات، ولا يرشدون الناس بأفعالهم إلى كيفية تطبيق هذه الآيات في الواقع المُعاش، ولا يحيطون بالسنة معرفةً وعلمًا، فلا جرم أن هؤلاء لا يُقبل اجتهادهم بأيّ حالٍ من الأحوال.
إن الأئمة الذين يظلمون رعاياهم يكونون آفةً على المجتمع والأفراد.
وهذا لا يعني انتفاء المجتهدين وانعدامهم، فالاجتهاد مهارةٌ مَن حازها فبوسعه أن يجتهد طبعًا، ولكن لنعلم جيّدًا أن هذا ليس بالأمر الهيّن، فهؤلاء الأئمة العظام قد وهبوا حياتهم لهذا الأمر، واشتغلوا بالعلم صباح مساء، وتذاكروا المسائل الدينية على الدوام، وكذلك فالاجتهاد مسؤوليةٌ وعملٌ خطير لا يستطيع القيام به إلا مثل هؤلاء الذين فقهوا الدين بمصادره الأصلية والفرعية، وليس من يتميّزون بالسطحية والجهالة؛ لأنهم سيحكمون باسم الدين، ويتكلمون باسم الله، ولذلك فإن أخطؤوا فإن أخطاءهم ستعود عليهم بالخسران في الدنيا والآخرة، بناءً على ذلك فإن استبدال المجتهدين الحقيقيين بأشباه المجتهدين هو أكبر كارثةٍ يتعرّض لها الدين.
علماء السوء
ومن الممكن استعمال مصطلح “علماء السوء” للفقهاء الفاجرين والمجتهدين الجاهلين الذين ورد ذكرهم في الحديث، وهؤلاء هم من وقعوا في المنكرات وخالطوها ولم يستطيعوا التخلّص منها، ويلزم أن ننوّه هنا أنه ليس من الصحيح أن نطلق اسم العالم بحقٍّ على مَن لم يعمل بعِلْمه، فالعالم هو الذي اهتزّ قلبه وارتجف وجدانه وانقصم ظهره من خشية الله، فمهما بلغ الشخصُ من رتبة فإنه لن يجني من وراء المعلومات التي حصّلها إلا إرهاق القلب والعقل والوجدان طالما أنه لم يعمل بعلمه، ولم يطبّق ما تعلمه في حياته، فهو جاهل في نظر الدين وإن كان عالمًا في نظر الناس.
إن الضرر الذي يَلحق بالدين مِن وراء مَن يستغلّه في أهدافه السياسية؛ لا يتساوى مع الضرر الذي يتسبّب فيه شخصٌ عاديّ من عوام الناس.
والقرآن الكريم يوصينا ويأمرنا في شخص الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بالازدياد من العلم، والسعي لتعلم أشياء جديدة كلّ يومٍ، فيقول: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ (سورة طَهَ: 20/114)، ويقول أيضًا عن العلماء: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ (سورة فَاطِرٍ: 35/28)، ويصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: “العُلَمَاء وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ”[3].
وفوق كل هذا ثمّة نصوص كثيرة في الكتاب والسنة تشير إلى أهمية العلم، وعظمة العالم؛ لأن العلماء مثلهم مثل النجم القطبي يوجّهون الناس إلى الجهة الصحيحة، وعندما ينظر إليهم الناس يعرفون أيّ الطرق التي توصلهم إلى الجنة، ولكن هؤلاء العلماء إذا اتبعوا طريق الشرّ بأقوالهم وأفعالهم فسينحدرون بأنفسهم ومَن تبعهم إلى أسفل سافلين، فأيُّ خطإ يرتكبه العالم وأيُّ منكَرٍ يأتيه سيعود عليه بعظيم الوبال وشديد النكال؛ لأنه كان سببًا في ضلال الكثيرين الذين يرمقونه بأبصارهم، ويصغون لكلامه، ويقتدون به في أفعالهم وتصرّفاتهم.
الفاجرُ هو الذي يرتكب المعاصي دون اكتراث، يشتغل بالكتاب والسنة، ويستنبط الأحكام من هذين المصدرين المباركين، ومع ذلك يعيش حياة ملؤُها الفسق والفجور.
ويختلف هذا الوبال تبعًا للموقع الذي يمثله الشخص؛ فانحراف إمام المسجد لا يتساوى مع انحراف المفتي، وانحراف المفتي لا يتساوى مع انحراف شيخ الإسلام؛ بمعنى أن وبالَ كلِّ شخصٍ يكون حسب حجم ساحة نفوذه وتأثيره.
حاصل القول: كما أن العلم يصير معراجًا يرفع الإنسان إلى أعلى عليين إذا تم استغلاله في طريق الخير؛ فكذلك يمكن أن يكون سببًا في سقوط الإنسان نفسه إن استغله في طريق الشر، فما يقع على عاتق العالِم هو أن يستغل العلم والحكمة اللذين أفاض الله بهما عليه في طريق الخير دائمًا، وعليه أن يسلك الطريق المشروع في كل مسألة، وأن يتحرك في إطار دائرة الشرع، وأن يصبغ العلوم التي تعلمها بالعمل الصالح، فمن أساء استغلال العلم الذي وهبه الله له يأتِ يوم القيامة وعليه وزر نفسه ووزر مَن أضلهم وخدعهم.. حفظنا الله جميعًا من هذه العاقبة الوخيمة! آمين.
[1] علي المتقي: كنز العمال، 10/183.
[2] الديلمي: مسند الفردوس، 3/602.
[3] سنن أبي داود، العلم، 1؛ سنن الترمذي، العلم، 19.