﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾(النَّحْل:90)
هذه الآية الكريمة آية جامعة تحتوي على ستة أسس منها أسس إيجابية، وأخرى سلبية.
العدالة نظام حيوي جدًّا في الدين، وعدّها بعضهم أحد الأسس الأربعة المهمة في الدين. وهذا المفهوم الذي يرد في القرآن وفي السنة الصحيحة تحت تعبير العبودية وأحيانا العدالة مفهوم عام يرد إليه الكثير من الأشياء. فمثلا يمكن إرجاع جميع وجوه الخير المذكورة في هذه الآية من الإحسان وإيتاء ذي القربى إلى العدالة. علما بأن العدالة بمعنى العبودية إن لم تكن موجودة في الإنسان ومستقرة في المجتمع استقرارا صحيحا فلا يمكن توقع وجوه الخير الأخرى لا في الإنسان ولا في المجتمع. فلا إحسان دون عدالة، ولا يمكن إسداء الخير لذي القربى من دونها، ولاسيما إن قرأنا التعريف المدهش للإحسان الوارد في الحديث النبوي الشريف “أنْ تَعبدَ الله كأنَّك تراه، فإنْ لم تكنْ تراه فهو يراك”.
أي فالإحسان أن تكون عبداً لله كأنك تراه. ولكن هذا الشعور والتفكير والتصور يجب أن يكون مبنيا على إيمان متين وراسخ، وأن يتعمق هذا الإيمان بالأسس الإسلامية لكي يستطيع شعور الإحسان إعطاء ما يؤمل وما ينتظر منه.
إن إيتاء ذي القربى، وبشكل أشمل عمل المعروف للناس جميعا، يعني انتشار مبدأ الإحسان وفلسفته. وإذا قمنا بتحليل هذه الآية من هذه الزاوية نرى أن العدالة هي منبع الإحسان وقاعدته، والإحسان هو منبع الخير والبر وقاعدته.
وإذا انتقلنا إلى الأسس السلبية نرى أن النهي الأول هو عن الفحشاء.
وقد يكون السبب في هذا أن الفحشاء هي بداية جميع المنكرات عند الإنسان كفرد وعند المجتمع ككل، لذا تم تقديمه. فكما يعلم الجميع أن أي مجتمع تسود فيه الفحشاء تبدأ جميع المنكرات الأخرى بالانتشار فيه واحدة تلو الأخرى فينحرف هذا المجتمع انحرافا كبيرا. لذا لا يمكن التقليل من خطورتها في أي وقت من الأوقات.
ومعنى المنكر هو إتيان ماحرمه الله تعالى واقترافه بشكل علني. وهو يأتي بمعنى العصيان على منظومة الحقائق الكونيه والتمرد عليها وهو شيء مردود في كل دين وفي كل أمة وملة.
أما البغي فيعني تجاوز الحد. وتظهر هذه الخصلة السيئة في الحياة الفردية وفي الحياة الاجتماعية أيضاً في إشكال وصور مختلفة من ظلم الإنسان لنفسه إلى عصيان الوالدين، إلى رفع راية العصيان ضد الدولة والإخلال بطمأنينة المجتمع، إلى إنكار الله تعالى والجحود به.
وكما رأينا في موضوع العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى والبر فإن الفحشاء هي أساس ومنبع المنكر، والمنكر هو أساس البغي ومنبعه.
ولكن المذهب الحنفي يرى أن الواو هنا تفيد الجمع المطلق، والعطف بحرف الواو في الآية الكريمة للصفات الإيجابية وكذلك للصفات السلبية، لذا يجوز أن الترتيب والتقديم والتأخير قد لا يكون واردا هنا. بينما يرى المذهب الشافعي أن الواو هنا تفيد الترتيب أيضا، ومن هذه الزاوية فإن تسلسل السبب والنتيجة -الذي ذكرناه آنفا- قد يكون واردا ومثل هذا الارتباط قد يكون موجودا.
والخلاصة أن هذه الآية هي أجمع آية في القرآن الكريم حول الخير والشر كما قال ابن مسعود رضي الله عنه. وهي تتضمن معاني يمكن شرحها في مجلدات.
المصدر: فتح الله كولن، أضواء قرآنية في سماء الوجدان، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.