سؤال: نلاحظ اليوم انعدامًا لآداب السلوك و المعاشرة بدايةً من قيامنا وقعودِنا حتى أسلوب خطابنا، فهل تُستفاد هذه الآدابُ من الكتب، وما الذي توصوننا به حتى يمكننا أن نتزود ونتجمّل بهذه الآداب، ونجعلها جزءًا من طبيعتنا؟
الجواب: آداب السلوك والمعاشرة هي أن يتحلى الإنسان عند معاملته للآخرين بالعفة والحياء والظُّرف والاحترام، وأن يتجنب بقدر الإمكان السلوكيات الجارحة اللاذعة حتى إزاء المعاملات السيئة أو الحوادث المريرة، وأن يحرص على أن يكون كلامُه وتصرّفاته قائمَين على الظرف والرقة والإخلاص.
لا يصحّ لأحدٍ أن يتلفّظَ بكلماتٍ بذيئةٍ قبيحةٍ تؤذي الآخرين وتزعج أسماعَهم.
لقد أقام العالم الإسلامي حضارةً من الأدب ودماثة الخلق يغبطه عليها حتى الملائكة، ومع الأسف فقَدَ تلك الخاصيةَ بعد فترةٍ معينة، وكأنه بدأ يعيش عهدًا جاهليًّا جديدًا كذلك العهد الذي عاشته الإنسانية قبل عصر السعادة، لأن كل القيم التي نتبنّاها في هذا العهد قد أصيبت -كما يقول الشاعر الإسلامي التركي نجيب فاضل- بضربات متلاحقة حتى تهاوت وانهارت.
أجل، إن القرن العشرين قد شهد على انهيار كلِّ قيمِنا الذاتية؛ بدايةً من المنظومة العقدية التي قامت على جذورنا الروحية والمعنوية حتى حياتنا التعبدية وصولًا إلى مفهومنا حول آداب السلوك والمعاشرة، فإننا لمّا قطعنا صلتَنا بديننا أضعنا قيمنا الخاصة بآداب السلوك والمعاشرة وفقدنا انضباطنا ومصطلحاتنا، فقدناها وصرنا غرباء على عالمنا الثقافي والفكري في تعاملاتنا مع الآخرين بدايةً من قيامنا وقعودنا حتى أسلوب حديثنا وخطابنا.
لا بدّ أن يجعل الإنسان من احترامه لغيره قاعدةً أساسيةً في حياته، ويحترم الجميع وفقًا لمستواهم وميزاتهم التي يتحلّون بها.
فمثلًا كان الإنسان في العهد العثماني إذا ما أراد تقديم ابنه لمخاطَبِه يحرص على أن يقول: “نجلكم”، فإن كان الولد بنتًا قال: “كريمتكم”، فإن اضطر إلى التعريف بنفسه استهلَّ حديثه بقوله: “خادمكم”، أما الأفراد فعند مخاطبة بعضهم بعضًا يستخدمون كل الألقاب التي تنمّ عن الاحترام والتوقير مثل: “جنابكم، سيدي،… إلخ”. لم يكن هذا الأسلوب تصنّعًا أو تكلفًا، بل كان هذا هو ما تقتضيه التربية التي نشأنا عليها، أما في أيامنا فقد رأينا مَنْ يستخدم تعبيرات الاحترام في الماضي بهذا الشكل: “نجلي!، كريمتي!”، بل إنني لا أنسى ذلك البروفيسور الذي حاز على أعلى الدرجات العلمية، وقوله: “إن جنابي وسيادتي يفكر في الأمر على هذا النحو!”، فلما سمعته اندهشتُ متعجّبًا ولم أدرِ ما أقول، إذْ من المفترض أن تنمّ هذه التعبيرات عن التواضع وشفافية الروح، فكيف تصل إلى هذا الحد من سوء الأدب!؟ لأننا منذ عدة قرون لم نتعامل بآداب السلوك والمعاشرة، ولم نفعّلها في حياتنا.
إن المؤمن الحقيقي يكاد يتوقّف قلبه إذا تطاول أحدهم بالكلام على الذات الإلهية أو الرسول الأكرم.
وإنكم إن تخليتم عن هذه الآداب وعن القيم والأخلاق التي تقوم عليها وأقصيتموها عن حياتكم لبليتْ الكلماتُ المعبِّرة عن الاحترام والتقدير مع مرور الوقت وتهلهلتْ واندثرت، فإن أهملتم هذه الكلمات ولم تستخدموها إلا على سبيل الترف والولع فلا مناص من الإخفاق والفشل.
جوهر المسألة: احترام الإنسان
إذًا فما الذي لا بدّ من القيام به؟ أولًا علينا أن نبدي الاحترام اللائق بماهية الإنسان؛ لأن الإنسان مخلوقٌ كريمٌ لا بدّ من احترامه وتقديره، يقول تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ (سورة التِّينِ: 95/4)، وهنا يبين ربنا سبحانه وتعالى أن الإنسان مخلوق كريم محظي بقيمةٍ فوق القيم، وهو في طبيعته يعبّر عن مثل هذه القيمة.. ولا يخفى عليكم أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لما مُرَّ عَلَيهِ بِجِنَازَةٍ قَامَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ يَهُودِيٌّ، فَقَالَ: “أَلَيْسَتْ نَفْسًا“[1]، ومن ثم فعليكم ألا تتخلوا عن احترامكم لهذا الإنسان الذي خلقه الله مكرَّمًا وإن أساء معاملته معكم، حتى وإن استخفّ البعضُ بقيمكم وأساء الأدب مع الله ورسوله فعليكم أن تحافظوا على أسلوبكم معهم محافظتكم على شرفكم وعرضكم، ويجب ألا تنسوا أنكم مسلمون مزوَّدون بالأدب المحمدي والخلق القرآني؛ بمعنى أن أخلاقكم هي أخلاق القرآن، فكيف لكم أن تتصرفوا مثل الآخرين؟! قد يُفلت لسان الآخرين، وبعضهم يدنّس المكان الذي يمرّ به، ولكنكم لستم مثلهم، إنكم مضطرون إلى أن تعبروا عما تتميزون به وتختلفون فيه عنهم حتى في أسوإ الظروف.
في الواقع إن المؤمن الحقيقي يكاد يتوقّف قلبه إذا تطاول أحدهم بالكلام على الذات الإلهية أو الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، ولكنه رغم كل شيء يتعامل بأدبٍ ولطف، ويقول: “عليّ أن أتعامل هنا بمقتضى الأدب الذي علّمنيه ربي ورسولي، وأن أردّ دون خروجٍ عن هذا الإطار”، ليس هذا فقط، بل يتحمّل كلَّ أنواعِ السلبيات ابتغاءَ مرضاة الله ورسوله، يتحمّل ولكن لا يتوانى في شرح حقيقة المسألة لمخاطبه بأسلوبٍ ليّنٍ رقيق مفعم بالحبِّ والشفقة.
أجل، لا بدّ أن يجعل الإنسان من احترامه لغيره قاعدةً أساسيةً في حياته، ويحترم الجميع وفقًا لمستواهم وميزاتهم التي يتحلّون بها؛ فمثلًا عليه أن يتحرك في احترامه انطلاقًا من حقيقة أن هذا الإنسان هو “عبدٌ لله” وإن لم يكن مؤمنًا، أو أنه “عبد مؤمن بالله”، أو أنه “عبدٌ مؤمن بالله حقًّا”، أو أنه “عبدٌ مؤمن بالله حقًّا ويشاركه المصير نفسه، أو يهرول للهدف نفسه معكم…، وبذلك يتضاعف احترام الإنسان لغيره حسب درجته، ويصل إلى قيمةٍ تفوق جميع القيم.
علينا أن نبدي الاحترام اللائق بماهية الإنسان؛ لأن الإنسان مخلوقٌ كريمٌ لا بدّ من احترامه وتقديره.
أجل، بداية يجب أن يتبدّى مثل هذا الشعور بالاحترام في داخلنا، فيصبح صوتُنا ونفَسُنا صوتَ هذا الشعور ونفَسَه.. إنني أعرف أُسَرًا يتخاطب فيها الإخوة مع بعضهم بـ”السيد فلان، والسيدة فلانة”، وهذا نابعٌ من التربية التي استقرت داخل هذه الأسر، وأيًّا كان ذلك الأخ كبيرًا كان أم صغيرًا فمن حقه ومن مقتضى احترام الإنسان للإنسان أن يُخاطب بهذه النوعية من الألقاب.. وهكذا عليكم أن تؤمنوا بهذه الحقيقة أولًا ثم تتلفظوا بها.
لقد كانت تصرّفاتُ الأئمة والمؤذنين وأفعالُهم في المساجد في فترةٍ ما تُكسب الناس كثيرًا من الجماليات الخاصة.
فمثلًا إذا ما حرص المراسلون الذين يعملون في قناة تلفزيونية على مخاطبة بعضهم بـ”السيد فلان” (ليس اسمه فقط) مثلًا بشكل يختلف عن أسلوب الخطاب العادي، فسيستقر هذا الأسلوب من الاحترام بينهم بمرور الوقت، وبعد مدة يصير لا غرابة فيه، ربما يبدو هذا الخطابُ في البداية فيه شيءٌ من التصنع والتكلّف، ولكن مع الوقت تزول هذه الشبهة، ولذا فأيًّا كان نمطُ الأسلوب الذي نعبر به عن احترامنا الذاتي فينبغي أن نحيي مثل هذه الأساليب ونفعّلها في حياتنا، فالأصل هو أن نشعر في أنفسنا بقيمنا الذاتية، ونعبّر عن أنفسنا في جوٍّ من الاحترام والتقدير؛ وعلى ذلك فلا يصحّ لأحدٍ أن يتلفّظَ بكلماتٍ بذيئةٍ قبيحةٍ تؤذي الآخرين وتزعج أسماعَهم.
الشروع في العمل ولو بفئةٍ قليلة من الناس
والتحلّي بهذه الأخلاق والآداب مرهونٌ بزمنٍ معين؛ فمنذ زمن طويل ومجتمعُنا يتعرض لعددٍ كبير من الحماقات والبذاءات، كما خلا كلامنا في هذه الأيام من النظام والاعتدال، ويمكن القول إن اللهجة العامية سيطرت على المجتمع بأسره، ووسائلُ الإعلام أسوأ حالًا من حال المجتمع، حتى إنكَ لو استعنتَ بالمعاجم للتعرّف على معاني بعض الكلمات التي تستخدمها وسائلُ الإعلام لوجدتَها مفردات من اللغة البذيئة الفظة التي يتكلم بها الصعاليك والمتشردون؛ وهذا ما يدفعنا إلى البدء بمعالجة جانبٍ من هذا الأمر، وإحياء شعور الاحترام من جديد.. قد يراعي هذا القدرَ من الحساسية بعضُ الناس في البداية، فهؤلاء وإن كانوا يعملون ضمن دائرة ضيقة فباستطاعتهم أن يكشفوا في كلِّ منتدى عن اختلافهم وتميّزهم من خلال أسلوبهم ومواقفهم وتصرّفاتهم، وأن يكونوا قدوة حسنة لغيرهم.
ثمة كتبٌ كثيرة قد حُرِّرت حول الآداب والأخلاق العامة، لا بدّ من الاطلاع عليها والاستفادة منها، ولكن يجب ألا ننسى أن الاعتداد بما ورد في هذه الكتب من موضوعات إنما هو مرهونٌ باستخدامها وتفعيلها في المحافل الخاصة.
لقد كانت تصرّفاتُ الأئمة والمؤذنين وأفعالُهم في المساجد في فترةٍ ما تُكسب الناس كثيرًا من الجماليات الخاصة، فما أكثر الجماليات التي استلهمها المجتمعُ من المسجد! كما كان رجال التكايا والزوايا يُقدمون دروسًا متميزة في الآداب والأخلاق، وكانت العلاقات بينهم تجري دائمًا في أفق عظيمٍ من الاحترام والتقدير، ونظرًا لسير الحياة على هذا المنوال فقد غدا الاحترامُ بُعدًا كبيرًا من الطبيعة الإنسانية، وأضحى الناس طوعًا ودون تكلُّف أو تصنّع طبيعيين للغاية في تصرّفاتهم وأفعالهم وكلامهم.
لقد كانت مثل هذه المراكز النورانية تشع بأنوارها في الشوارع، وكان الحكماء يزينونها وينشرون الجماليات فيمَن حولهم، فكان كلُّ من يمرّ بهم يصطبغ بألوانٍ مختلفة من المشاعر والانفعالات، ولا يرجع على الحال التي كان عليها.
إن القرن العشرين قد شهد على انهيار كلِّ قيمِنا الذاتية؛ بدايةً من المنظومة العقدية وصولًا إلى مفهومنا حول آداب السلوك والمعاشرة.
أما الآن فإنّ الشارعَ يُعاني من قحطٍ وحرمان شديدٍ، وبعض المؤسّسات أصيبت بِعُقْم في هذه المسألة، بل قد حُرمنا من أغلبها، وكما حُرِمنا منها حُرمنا ممن يعلمون فيها الأخلاق العالية الإسلامية، وهو ما يتطلّب منا السعي لإعادة إحياء هذه القيم الخاصة بآداب السلوك والمعاشرة في المحافلِ الخاصة ولو بحفنةٍ قليلة من الناس، فلو أقمتم مع بعض أصدقائكم في بيتٍ ما فعليكم أن تشرعوا في الأمر باسم الله، وتحاولوا إحياء روح الاحترام فيما بينكم من جديد، بل عليكم أن تُكثفوا جهودكم حول هذا الأمر وتجعلوه جزءًا من طبيعتكم؛ لأن بعض الخصوصيات المتعلّقة بالآداب وإن كانت تبدو مسائل فرعية بجانب بعض المسائل الحياتية المهمة التي تعمّر دنيانا وأخرانا مثل الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر فإنها ضوابط لا ينبغي إهمالها والتغافل عنها، يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً: أَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا الله، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْعَظْمِ عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ“[2]، ويقول صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: “تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَأَمْرُكَ بِالمَعْرُوفِ وَنَهْيُكَ عَنِ المُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَإِرْشَادُكَ الرَّجُلَ فِي أَرْضِ الضَّلَالِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَبَصَرُكَ لِلرَّجُلِ الرَّدِيءِ البَصَرِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِمَاطَتُكَ الحَجَرَ وَالشَّوْكَةَ وَالعَظْمَ عَنِ الطَّرِيقِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِفْرَاغُكَ مِنْ دَلْوِكَ فِي دَلْوِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ“[3]، ومن ثمّ فعلينا ألا نستخف بمثل هذه الأمور مطلقًا وإن بدت صغيرةً في أعيننا.
لقد أقام العالم الإسلامي حضارةً من الأدب ودماثة الخلق يغبطه عليها حتى الملائكة.
وهنا أذكِّر بأمرٍ آخر وهو أن كلّ هذه الأنواع من شُعَب الإيمان وما يترتب عليها من أعمال إنما هي مكملةٌ لبعضها البعض، فالتخلّق بهذه الآداب ابتغاء مرضاة الله فيه تذكيرٌ بالله ورسوله واليوم الآخر، ولا شكّ أن ذكره سبحانه وتعالى لحظة ومعيته برهة يعادل آلاف اللحظات ممّا سواه، وعلى ذلك فمهما بدتْ هذه الأمور صغيرة فإنها كبيرةٌ للغاية باعتبار المعاني التي تستدعيها، وانطلاقًا من هذا نقول: ليفعل الآخرون ما شاؤوا، فعلينا أن نحيي فيما بيننا المسائل التي وصفها السابقون بالآداب الإسلامية والآداب القرآنية، وأن نكشف في الوقت ذاته عن مفهومنا الأخلاقي وظُرْفنا ودماثة أخلاقنا في معاملاتنا الإنسانية.
[1] متفق عليه.
[2] صحيح مسلم، الإيمان، 58؛ سنن الترمذي، الإيمان، 6.
[3] صحيح مسلم، البر، 144؛ سنن الترمذي، البر، 36، 45.