سؤال: هل يمكن أن نقول استنادًا إلى حديث “مَا بَعَثَ اللَّهُ بَعْدَه – لوط عليه السلام – نَبِيًّا إِلَّا فِي ثَرْوَةٍ مِنْ قَوْمِه” أن الشخصية المعنوية للخدمة بمثابة “الركن الشديد” لأبطال الهجرة في أيامنا الذين لا سند لهم سوى صدقهم وإخلاصهم؟
الجواب: سيدنا لوط عليه السلام هو ابن أخ سيدنا إبراهيم عليه السلام ؛ ابتعثه الله تعالى إلى “سدوم وعامورا” الذين كانوا يعيشون حول ما يسمى بـ”بحيرة لوط” اليوم.. انتشر بكثرة بين هؤلاء القوم ذلك الفعلُ القبيح الذي يُسمى “اللواط” والذي تُجيزه الآن -مع الأسف- بعضُ الدول، بل وتضعُ له القوانين بحجة الحفاظ على حقوق الإنسان، وقد تناولَ القرآن الكريم هذه المسألةَ بأساليب مختلفة على حسب السياق .
إن الأرواح التي نذرت نفسها في سبيل الله عشقًا للخدمة قد ارتحلت إلى جميع أرجاء العالم، تلبية لما تشعر به قلوبها من عشقٍ وحبٍّ للإنسانية.
قبل أن يُهلك الله هؤلاء الطغاة أرسل إلى لوط عليه السلام رسلًا من ملائكته؛ جاؤوا إلى لوط عليه السلام بجلالهم وعظمتهم في صورة أشخاص ذوي وجوه لطيفة نضرة كابتلاء أخير من الله تعالى لهم، فلما رأى قوم لوط هؤلاء الملائكة همّوا بالتعدي عليهم، وبذلك كتبوا النهاية للكلام والنصيحة، فقد خسر هؤلاء القوم الامتحانَ كلّيةً، وعاقبهم الله سبحانه وتعالى بأن أرسل عليهم حجارة من سجيل منضود، وخَسف بهم الأرض .
أجل، لمّا رأى المنحلُّون في قوم لوط رسلَ الله إلى لوط جاؤوه يُهرعون إليه بعد أن سالَ لعابهم لارتكاب هذا الفعل الشنيع، وأمام هذا المشهد قال لوط عليه السلام: ﴿لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾ (سورة هُودٍ: 11/80)، وأغلب الظن أن أيَّ نبيٍّ مكان هذا النبي العظيم كان سيقول هذا القول، ولكن استطاع هذا النبي الكريم أن يضع ميزانًا دقيقًا لهذه المسألة، وهذا أمرٌ لا يستطيع أن يفعله إلا نبيٌّ، وفي هذا الصدد نُورِد حديثًا لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يُفهم منه أن الله تعالى قد عدّ تعبيرَ لوط عليه السلام عن عجزه وفقره تجاه المعتدين دعاءً مستجابًا، يقول صلى الله عليه وسلم: “مَا بَعَثَ اللهُ بَعْدَهُ نَبِيًّا إِلَّا فِي ثَرْوَةٍ مِنْ قَوْمِهِ” ؛ بمعنى أن الله تعالى لم يبعث رسولًا بعد لوط (على نبينا وعليه الصلاة والسلام) إلا في منعة من قومه وعشيرته، فإذا ما فكَّرَ أحد من قومه بالاعتداء عليه وإيذائه تصدَّت له عشيرته، ومنعَت البغاةَ المعتدين من الوصول إليه، وكفلت له الحفظَ والحماية.
سِتار الأسباب والعناية الإلهية
فمثلًا كان مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم في الذُّؤابة من قريشٍ، إذ إنه من بني هاشم أولي القوة والمنعة في مكة، وكان جدُّه عبد المطلب ممن يُشار إليهم بالبنان فيها، وبعد أن توفّي عبد المطلب كفل النبيَّ صلى الله عليه وسلم عمُّه أبو طالب، فقضى صلى الله عليه وسلم طفولته وشبابه في كنفِه ورعايته.. ولذا كان مجرد الإشارة إليه بسوءٍ كافيًا لإثارة حفيظة بني هاشم أجمع، من أجل ذلك كان مشركو مكّة يخشون إيذاءه والتعرّض له بسوء، وهكذا وُضِعَت الأسبابُ الظاهرية ستارًا لتصرّف القدرة الربانية، وجعلها سبحانه وتعالى حماية وحفظًا للمتأدّب بأدبِ ربّه سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم.
والحادثة التي جاءت بسورة يس تدعم ما ذكرناه في هذا الموضوع: حيث بعث الله تعالى رسولين إلى أصحاب قريةٍ اتفق كثيرٌ من المفسرين على أنها “أنطاكية” ، فكذبوهما، فقال الله تعالى ﴿فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ﴾ (سورة يس: 36/14) يشحذُ من قوتهما المعنوية، ويؤكد لهما أنهما ليسا وحدهما؛ لأن إلحاق ثالث إليهما يشير إلى أنه من الممكن أن يبعث رابعًا وخامسًا إن اقتضت الظروف.. وفي ظل هذا المددِ شعر المرسلون بأريحية أكبرَ حيالَ تأدية رسالتهم؛ حيث كان هذا المددُ بمثابة “ركنٍ شديدٍ” بالنسبة لهم.
إن لم نعمل على إقامة جسور الحوار بين الثقافات والحضارات وتهيئة مناخٍ مناسبٍ فيما بينها ساقت هذه الاختلافاتُ والتناقضاتُ الإنسانيةَ إلى نزاعاتٍ وحروبٍ لا يمكن تلافيها.
وإذا ما استقرأنا تاريخَ الأنبياء سنجد أمثلةً كثيرة تدلّ على هذا الأمر، غير أنني أكتفي بما ذكرته في هذا الصدد، وأُحيل هذه الأمثلة إلى المتخصِّصين في هذا المجال، وأنتقل بكم إلى الشقِّ الثاني من السؤال:
أجل، إن الأرواح التي نذرت نفسها في سبيل الله عشقًا للخدمة قد ارتحلت إلى جميع أرجاء العالم، تلبية لما تشعر به قلوبها من عشقٍ وحبٍّ للإنسانية، وقد يحدثُ أن يسافر بضعةُ أشخاصٍ إلى دولةٍ من الدول، أو يسافر واحدٌ بمفرده، فيتعرفون هنالك على أناس من ثقافات شتى، أناسٍ نشؤوا في بيئاتٍ مختلفة، ولهم قيمٌ متباينة؛ يتكلمون بلغاتٍ متباينة، ويدينون بأديانٍ مختلفة… ومن ثم فربما تتعرض هذه الأرواح المتفانية في ظلّ هذه الاختلافات إلى معاناة ومصاعبَ ومشقات شتى في هذه البيئات المختلفة، وهنا قد تكون الشخصية المعنوية للخدمة -كما جاء بالسؤال- ركنًا شديدًا؛ يعني سندًا قويًّا متينًا، وميناءً موثوقًا مأمونًا.
ففي الواقع إن هؤلاء الأصدقاء الذين سعوا للخدمة حيث ذهبوا قد وجدوا دعمًا قويًّا من إنسان الأناضول، ولا يخفى الدعمُ الذي قدمه رجال الأعمال الذين جاؤوا للاستثمار أو لإقامة المشروعات في هذه البلاد التي قصدَها الأصدقاء.. وبذلك أسَرَ أصدقاءَنا شعورٌ بأنهم ليسوا وحدهم في هذه البلاد، وطبع هذا الأمرُ تأثيراتٍ إيجابيّة على مخاطبيهم.
وأريد هنا أن أنوّه بمسألة أخرى تتعلق بموضوعنا وهي: أننا انطلاقًا من قول سيدنا لوط عليه السلام ﴿لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾ (سورة هُودٍ: 11/80) يُمكنُنا أن نتوصّل إلى النتيجة التالية وهي: أنه ينبغي لكلّ مَن يكافح ويجاهد في سبيل الله أن يأوي إلى ركنٍ شديد؛ لأنّ رفع الروح المعنوية وكسبَ ثقة الآخرين يستدعي آلةَ توليدٍ للطاقة (دينامو) ومصدرَ قوّةٍ يبعث هذه الثقة.. فلا جرم أن الدعم “الحقيقي” للمؤمن هو حول الله وقوته وقدرته ورعايته وكلاءته، لكن ينبغي ألا ننسى أننا نعيش في دائرة الأسباب، ونحن مكلفون بمراعاة هذه الأسباب، وليس بوسعنا أن نُعرض عن الأخذ بها.
وفي هذا السياق حذارِ ثمّ حذارِ من الكبرِ والغرور، خصوصًا حينما تبثّون أفكاركم ومشاعركم وإلهامات أرواحكم إلى القلوب الأخرى، ولنجتهد في العمل على قمع الميل والرغبة في إرغام الآخرين، وأن نتحاشى التصرفات والسلوكيات التي قد تبدو للآخرين على أنها جبرٌ وإكراه، وأن نعمل على تقديم أفكارنا ومشاعرنا بأسلوبٍ ليّنٍ يحظى بالقبول لدى الآخرين.. وعلينا ألا ننسى أنّ ما نقدّمه لهم من أشياء نافعة وجميلة نحصل في مقابلها أيضًا على أشياء نافعة وجميلة؛ لأن هناك الكثير من الأشياء المهمة التي تم اكتشافها وتطويرها في شتى أنحاء الكرة الأرضية التي أصبحت الآن كالقرية الصغيرة، فما نَستلهِمه من أفكار ورؤًى قد يُفضي إلى ابتكارات واكتشافات جديدة في عالمنا الفكري والشعوري، ومن ثم فعلينا أن نسعى إلى استلهام كل الجماليات التي قد تنفع الإنسانية ونحاول الاستفادة منها.
أسواق تُباع وتُشترى فيها الورود
أما مسألة إيصال جمالياتنا إلى القلوب الأخرى فتقتضي السعي إلى الاعتماد على حالنا ومنهجنا التربوي وأنديَتنا الثقافية ووسائل إعلامنا إن وُجدت، وعند تبادُل هذه الجماليات نبذل قصارى جهدنا لنجعلَ من هذا الحال سُوقًا يَعرض فيه الجميعُ كلّ ما لديه؛ وبذلك تصل القيمُ التي تبحث عن مشتريها إلى طالبيها، وليس من الصحيح قطعًا أن نجبر الآخرين على الأخذ بمجموعة القيم التي ورثناها عن الماضي أو أن نعرض قضايانا بالجبر والاستعلاء.
ينبغي لكلّ مَن يكافح ويجاهد في سبيل الله أن يأوي إلى ركنٍ شديد.
وينبغي أن نتذكر دائمًا أن قيمَنا وشتى جماليّاتنا قد تلقى ردَّ فعلٍ عنيف من الآخرين وإن كانوا في أمس الحاجة إليها إن اتبعنا أسلوبًا خاطئًا في عرضها.. وحتى لا يحدث ذلك فعلينا ألا ننسى أن هناك أشياء جميلة ونافعة يمكننا أن نتحصّل عليها من الآخرين، وأن نضع في اعتبارنا قبولَ المخاطب ورضاه عند عرض الجماليات التي عندنا وكأننا في سوقٍ نتبادلُ فيه بضاعاتنا.
وفي الواقع ثمة حاجةٌ ماسّةٌ إلى مثل هذا التفاعل والتأثير المتبادل في دنيانا التي أصبحت كالكرة الصغيرة؛ لأن منعَ الشقاق والخلاف الذي قد يفضي إلى الحرب والنزاع لا يتأتى إلا بالتبادل والتفاعل الثقافي، ولا يمكن فعل ذلك إلا من خلال تشكيل مناخٍ سلميٍّ على مستوى الإنسانية، فإن لم نعمل على إقامة جسور الحوار بين الثقافات والحضارات وتهيئة مناخٍ مناسبٍ فيما بينها ساقت هذه الاختلافاتُ والتناقضاتُ الإنسانيةَ إلى نزاعاتٍ وحروبٍ لا يمكن تلافيها، ولا جرم أن مثل هذه الحرب ستكون أكثر فتكًا ودمارًا من الحربين العالميتين الأولى والثانية؛ لأنه لا غلبة لأحدٍ في حربٍ تقوم على القنبلة الذرية أو القنبلة الهيدروجينية، فمثلُ هذه الحرب تعني نهاية الإنسانية.
وحتى نحمي الإنسانية من هذا الخطر علينا أن نُقيم جسورَ سلامٍ بين مختلف المفاهيم والثقافات، وإلى جانب نقلِ بعض الأشياء للآخرين نَستلهِم منهم أيضًا بعض الأشياء، وبذلك نبرهن على أن مختلف المجتمعات والثقافات ليست غريبةً عن بعضها أو منافية لها تمامًا، وأنه لا توجد فروقٌ جذريّة تؤدي إلى النزاع والخلاف بين مختلف الثقافات والحضارات، فإن فعلنا ذلك نكون قد قدّمنا خدمةً مهمة وحياتية للإنسانية بأسرها، خاصة في ذلك العصر الذي أصبحت الحاجة فيه ماسة إلى اللين والتصالح.
المصدر: فتح الله كولن، جهود التجديد، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.