سؤال: يُقتّلُ المسلمون في البوسنة والهرسك، وفي قراباغ وأنحاء أخرى من العالم، وكأننا مُكبَّلون بالأغلال لا نقدر أن نفعل لهم شيئًا مطلقًا، وهذه الحال مجلبة لليأس، فماذا علينا أن نفعل؟[1].
الجواب: تذكروا ما قيل: “وهل تخلى البشر في أي فترة من التاريخ عن قتل إخوانهم وظلمهم!؟”… لقد طُرِقَ هذا الموضوع من وجوه أخرى أمثال “جلال نوري” و”بشير فؤاد” و”توفيق فكرت”، والحقيقة أن الظلم ما زال قائمًا حتى اليوم، فالجور مستمر، وما تبسمت الدنيا قط، ولا توقفت شلالات الدماء، وما فتئت الأمم تقتل بعضها.
لا بد أن يكون هدفُنا الأولُ والأعلى هو السعيَ لإعلاء كلمة الله العظمى وإن ببذل الْمُهَج، لا القنوط والتحزُّن عند وقوع النوازل حولنا.
تذكرون أن أربعين مليونًا قُتلوا في الحرب العالمية الثانية، حتى هُرِع إلى الكنيسة ذعرًا من هذه القيامة الحمراء الناسُ جميعًا وفيهم دهريّون وملحدون ينكرون وجود الله سبحانه، ويُقال: إن ثمانين ألفًا قتلتهم القنبلة الذرية في “هيروشيما” بادئ الأمر، اختُرعت هذه القنبلة وأختها الهيدروجينية، ثم وقعت بأيدي وحوش العصر فارتُكبت جرائم تتوارى منها خجلًا حتى وحوش الغابات.
ومنَّا نحن المسلمين قُتِلَ في حرب البلقان وحدَها أكثر مِن قتلى حرب البوسنة والهرسك، ومن يدري كم أُزهقت أرواح نيّرة الوجوه ورجالٌ من صلب رجال في جبهات أخرى.
“علينا أداء الواجب فحسب، ولا شأنَ لنا بشؤون الله”.
لقد كشفت هذه المذابح الوجه الحقيقي للأنظمة والأيديولوجيات المقدمة للبشرية مغلفةً بشعارات الحضارة والإنسانية. أجل، لم يتخلّ الغرب قطُّ عن الكيل بمكيالين؛ فعامَل المسلمين غير معاملة اليهود والنصارى.
ونشاهد اليوم نحن والعالمُ أجمع أكاذيبَ بعض القوى الكبرى تتردّد مرةً أخرى، فما رأينا منها عونًا للبوسنة والهرسك ولا بيانًا شافيًا عن الشهداء ولا تنديدًا بخطف الأيتام ولا بالسعي الحثيث لتنصيرهم، بينما رأينا على حدود “كرواتيا” أربعة عشر ألف جندي من الأمم المتحدة لحمايتها.
لقد كشفت هذه المذابح الوجه الحقيقي للأنظمة والأيديولوجيات المقدمة للبشرية مغلفةً بشعارات الحضارة والإنسانية.
ولعلَّ هذه الحوادثَ تثير الحميّة الملّية والدِّينية لدى المسلمين، فتدفعهم للتحرك، فهذا الاعتداء والتسلُّط ومظاهر الأسر والمظالم حولنا ربما تُزلزل ضمائر المسلمين، وتُوقظُ من “يسيرون نيامًا” منهم ليقولوا: “كَفَاكُم كُفُّوا عن ذلك”؛ ولو أدت هذه الحوادث إلى نتيجة كتلك، فأيقظت الضمير المجتمعي، لقيل إنها نافعة من حيث هذه النتيجة وإن استُقبح ظاهرها؛ ذلك أنّ مَن يموتون في سبيل دينهم وعقيدتهم شهداء حقًّا، وسيذوق القتلة ما يجزيهم من العذاب، ولا شك في هذا ولو مثقال ذرة؛ فمن يُقتلون ظلمًا واضطهادًا يفوزون بالشهادة والجنة، ويصحو بشهادتهم مِن خلفهم ثُمَالى بالفكر الغربي منذ سنين، فإذا خسرنا مرةً اليوم، فسنربح أضعافًا مضاعفةً غدًا.
أجل، إن الإنسان والثقافة صِمَام الأمان للسير السويّ للنظام، وهو ما ستنجح فيه أجيالٌ مُشبعة بوعي الواجب، ولم تتكالب على المنصب والجاه، وانصهرت بثقافاتها القومية، وتُجلّ الله في أدبٍ جمٍّ قائلةً: “علينا أداء الواجب فحسب، ولا شأنَ لنا بشؤون الله”.
ما ينبغي أن نقنط، فنحن أمة ليست كجيل الخمسينات، إننا اليوم طاقة نورٍ للعالم كله لا قائمين بالبعث فحسب، وهذا الأمر كلّما لاح لبعضهم هاج وماج، إننا أصبحنا في واقعٍ جديد، فلماذا نيأسُ نحن، دعوهم يتقلبوا هم في غياهب اليأس والقنوط.
ولأجل ذلك يثير الغربُ الاضطرابات تِبَاعًا في العالم الإسلامي: البوسنة والهرسك وحزب العمال الكردستاني وقبرص وقضية المياه والأرمن وقضية فلسطين وكشمير وغيرها… إلخ. أجل، إنهم يخططون لهذه الأمور كلِّها، ويثيرون الاضطرابات تِبَاعًا قائلين: “لو نهضوا من هذه سقطوا في غيرها، وإن قاموا من غيرها وقعوا في أخرى وهكذا دواليك”.
الظلم ما زال قائمًا حتى اليوم، فالجور مستمر، وما تبسمت الدنيا قط، ولا توقفت شلالات الدماء، وما فتئت الأمم تقتل بعضها.
ولا ينبغي لنا تعليق أعمالنا وتصرفاتنا على النتيجة مطلقًا، ولا النضال في سبيلها؛ فهي ليست من شأننا، وربما يجرُّ التفكير فيها إلى أمورٍ معوجة، وإلى الوقاحة وسوء الأدب وكأننا نساوم الله، ونحن أبعد ما نكون عن هذا، يقول ربُّنا تبارك وتعالى في حديث قدسي: “لَا تَشْغَلُوا أَنْفُسَكُمْ بِالدُّعَاءِ عَلَى الْمُلُوكِ، وَلَكِنِ اشْتَغِلُوا بِالذِّكْرِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَيَّ أَكْفِكُمْ مُلُوكَكَمْ”[2].
والحاصل: لا بد أن يكون هدفُنا الأولُ والأعلى هو السعيَ لإعلاء كلمة الله العظمى وإن ببذل الْمُهَج، لا القنوط والتحزُّن عند وقوع النوازل حولنا.
[1]جمعت من حديث أُلقي في شهر سبتمبر/أيلول (1992م).
[2] الطبراني: المعجم الأوسط، 9/9؛ أبو نعيم: حلية الأولياء، 2/388.
المصدر: فتح الله كولن، الموشور، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.