Reader Mode

سؤال: ما الجن؟ وكيف يحضَّر؟ وهل تجوز الاستعانة به في العلاج والعثور على المفقود؟ وما حكم الشعوذة؟ هل تُحظر ممارستها؟ وهل عُرف بها أحد من أهل العلم؟

الجواب: “الجن” مشتق من “جَنّ”، ومنه “الجَنّة”، و”الجِنّة”، أما لفظ “مجنون” فهو اسم مفعول، وكأن معناه “من مسّه الجنّ”. والجِنّ لغةً: المستور؛ أي الخفيّ الذي لا يُرى، فهو ليس خفيًّا في ذاته بل هو خفي عن أعيننا أو عقولنا، وللجن دور فعال في الجنون والله أعلم.

ومسألة وجود الجنّ وكذا الروح والملائكة فيها جدل كبير منذ أمد مديد.

لقد شاهدهم الأنبياء وقابلهم الأصفياء والتقى بهم ملايين من أهل الكشف والتحقيق، فلا ضير في إنكار قلّة من الماديين لا يعترفون إلا بالمادة؛ بل إن إنكارهم مكابرة وعناد لا مسوِّغ له، لاسيما أننا في عصر نسلّم فيه بوجود أشياء كثيرة لا نراها، وفي وقت غدت فيه مسألة الجن مثار اهتمام الملايين في أنحاء العالم كافّة، فشغلت عقول أهل العلم والمعرفة.

ما حجة من ينكر وجود الجن، ولماذا يُنكر ولا يستسيغ؟ فهل يا تُرى كل موجود يُرَى فاعترضوا لأنهم لا يرون الجن فحسب؟

نعلم أننا لا نرى إلا 4-5 بالمليون مما يُعرض على أنظارنا في عالم الشهادة؛ يعني أنَّ أمامنا مليون مخلوقٍ مِن أنواعٍ شتَّى ولا نستطيع أن نرى منها إلا أربعًا أو خمسًا، ولا نستطيع أن نرى غيرها، ثم نحاول التعرف على جزء مما لا نراه بالمجهر، فنرى مثلًا ما في العالم المكبر بالتليسكوب، والمصغر بالميكرسكوب، وعوالم أخرى بأشعة إكس ونحوها؛ وقد تُكتشف لاحقًا أشياء وتتاح للبشر وسائل جديدة يُتعرف من خلالها على أشياء كهذه.

يقول أحد العلماء: “في كلِّ اكتشاف برهانٌ على وجودِ عالمٍ كبير لم يُكتشَف”؛ فعالمُ الشهادة إن هو إلا حجاب شفاف لعالم الغيب الذي لا يُرى، ووراء هذا الحجابِ الجنّ والملائكة والروحانيات، فقد يُطَّلَع على ما وراءه مباشرة أو بواسطة على قدر معرفتنا بذاك العالم.

وللمسألة وجه آخر: الجن كالروح، قانون ذو شعور، يشبه القوانين الكونية مثل قانون الجاذبية الذي به تدور الكرة الأرضية حول الشمس، فالأرض تدور دوران الإلكترونات، وعند دورانها حول الشمس تجذبها الشمس، وقانون الجذب المركزي هذا يقابله قانون الطرد المركزي، وكلها قوانين لها وجود نسبي واعتباري.

قد تقول: الشمس مثلًا كتلة والأرض كتلة، والكتلة الصغيرة تدورُ حول الكبيرة، ولا نرى شيئًا آخر، إذًا ليس هناك شيء آخر.

والجواب: لو لم يكن هناك شيء آخر، فما تفسيرُ هذا إذًا؟ والسؤال هو هو سواء قلتم إنها “جاذبية نيوتن” أو “نسبية أينشتاين”.

وللنمو قانونٌ وجودُه نسبيٌّ واعتباريٌّ كسائر القوانين، فمثلًا عندما نحلل بذرة نلاحظ أن فيها عقدة حياتية، يتولّد منها الرّشَم، ثم ينمو فيصبح فسيلة فساقًا فشجرة، لكن لا بدَّ أن يكون النبت المتولِّدُ من جنسِ هذهِ البذرة، هذا هو قانون النمو، ويتعذر الإنبات دون وجود هذا القانون، فمثلًا لو غرسْنَا حجرًا لن نشهد أيَّ نمو أو تطوُّرٍ لانعدامِ هذا القانون.

هذه قوانين وضعها الله جل وعلا، والجنّ والروح والملائكة ماهيتهم تشبه ماهية هذه القوانين، والفرق: أنّ قانون الجاذبية بلا عقل ولا إرادة ولا شعور؛ أما الجنُّ والروحُ والملائكةُ فلهم عقل وإدراك وشعور، ولهم وجودٌ خارجيٌّ حقيقيٌّ لا نسبيٌّ واعتباريٌّ، ويعرِّف الأستاذ النورسي الروحَ بأبلغ أسلوبٍ يمكن أن نطالعَهُ وأشملِه وأوجزِه، فيقول: “الروح قانون أمريّ ذو شعور”، فيكاد يستحيل أن تأتي بهذا الإيجاز في تفسير آية ﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ (سُورَةُ الإِسْرَاءِ: 17/85)، يقول:

“الروح قانونٌ أمريٌّ، حيّ، ذو شعور، نورانيّ، ذو حقيقة جامعة، مهيَّأة للاصطباغ بالماهية الكلية الشاملة، وقد أُلبِست وجودًا خارجيًّا، ولو أَلبَسَت قدرةُ الخالق القوانينَ الجارية في الأنواع وجودًا خارجيًّا لأصبح كلٌّ منها روحًا، ولو خلع الروحُ لباسَ الوجودِ الخارجيّ، واطَّرح الشعورَ، لأصبح قانونًا باقيًا”[1]. وهذا التعريف وافٍ بكل ما هو من ماهية الروح.

الروح قانون كتلك القوانين التي نسلم بوجودها جميعًا من أصغر العوالم إلى أكبرها، لكن تمتاز الروح بالشعور؛ دع عنك هذا، فبعض العلماء لما اطلعوا على ما في النبات والشجر من استجابةٍ للمنبِّهات وردٍّ عليها، وإِلْفٍ للبيئة ادَّعَوا أنّ لها شعورًا.

وأريد أن أقدم لكم خلاصةَ مقالٍ في هذا نشرته إحدى المجلَّات، يقول الكاتب:

“قناعتي أن النباتات كالقمح والشعير لها شعورٌ أيضًا، فلا يمكن أن يصدر عنها ما يصدر من حركات وهي بلا عقل ولا إدراك ولا شعور؛ فالقمح مثلًا -وهو برعم- يشقّ الأرض وكأنه يتأمّل ما حوله، فإن كانت الأجواء معتدلة والرطوبة كافية والشمس تغذيه بأشعّتها والتربة مناسبة والأحوال ملائمة لإخراج ساقين فَعَل؛ وقد يُخرج ثلاثَ سُوق ما دامت الأحوال ملائمة، وعندئذ نعلم أن الظروف كانت كافية للتغذية، وإلا أخرج واحدًا، وكأنه يقول: لا طاقة لي إلا بهذا. وإذا أُصيبَت الشجرةُ بآفة سرعان ما تطرح ثمارها لتنقذ نفسها، ولْيظنّ الفلاح ما شاء فالمصاب الشجرة لا الثمر، وكأن الشجرة تقول: اعذروني، لا قدرة لي على رعاية هذه الثمار؛ أنا مضطرة للعناية بنفسي والحال هذه، أنا بحاجة إلى أن أعتني بنفسي”.

ولا قِبَلَ لنا الآن بإدراك هذه الأمور إدراكًا تامًّا، وسنعرف لاحقًا أنّ في النبات قانونًا يقوم بهذا كله، ويوجّه النباتات، وهذا كله من سنن الله عزَّ وجلّ.

والشيء نفسُه يُقال في جزيء الحمض النووي الريبوزي منقوص الأوكسجين “DNA”، فهو يرسل شفرات يعمل الحمض النووي الريبوزي غير منقوص الأوكسجين “RNA” بمقتضاها وكأنه مهندس أو كيميائي.

ونلاحظ أنّ المخلوقات ذات الشعور هي الإنس والجنّ والملائكة فقط، أمّا الحيوانات فتسوقها حواسّها بالتوجيه الإلهي؛ وإن الله تعالى هو من وراء ما يصدر عنها من حركات شعورية.

أجل، إنّ الله تبارك وتعالى هو مَن يسوق كل شيء إلى قدر معلوم، ويوجهه وجهة خاصة، ولكن هناك قوانين أيضًا وضعها الله لا سبيل إلى إنكارها، قوانين مثيرة ومؤثرة حتى إن من يتحسسها عن بُعْد يكاد يسمّيها شعورًا، إذًا كيف ينكر أناسٌ وجودَ الجنِّ وهم يرون ما يجري حولهم، حتى يكاد الإنسان يسمي من ينكرون الجن مجانين؛ فثمة آلاف القوانين، كلّ منها قانون يشبه الجنّ أتمّ الشبه في سريانه، وهذا يدلّ على أن وجود الجن ممكن عقلًا لا ريب فيه؛ فلِمَ لا يقرّون بوجود الجن كما يقرون بوجود التيار الإلكتروني، لكن إياك أن تظنّ أنّا نعرّف الجن بالتيار الالكتروني؛ يقول تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ﴾ (سُورَةُ الرَّحْمَنِ: 55/15).

قد يعرِّف بعض الناس الجنّ بالفوتونات والجُسيمات، والحقّ أنّ الجنّ أجسام لطيفة خُلقت من مارج من نار لا من فوتونات أو جسيمات، مكلفة كالإنسان، فلا موجب للقول بعدمها، ودعوى العدم مكابرة وخلاف المنطق.

والحقّ أنّ القول الفصل في هذه المسألة للقرآن الكريم، لا تكاد الآيات تذكر خلق الإنسان إلا وتتبعه بذكر خلق الجن، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ﴾ (سُورَةُ الحِجْر: 15/26-27) و﴿خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ﴾ (سُورَةُ الرَّحْمَنِ: 55/14-15)، فالجن خلقوا من نار هي عنصر من عناصر المادة يتطاير منها الشَّرَر، ليست نارًا محرقة ولا هي بدخان أسود؛ وهذا هو ما ذكره القرآن الكريم عن ماهية الجن. أما من لقي الجن من الأنبياء والصحابة الكرام وأهل الكشف والتحقيق فالغالب أنهم رأوا الصور التي يتمثل بها الجنّ. أجل، رأوهم بالصور التي يتمثلون بها وتحدثوا إليهم وكانوا على اتصال بهم.

أجل، للجنّ بُعدٌ ما مركَّب من اجتماع جسم لطيف وروح ذي شعور، فيتمثلون تبعًا لخواصّ أبعادهم، ولا ننسى أنّ اختلاف التمثلات ناجمٌ عن اختلاف استعداد المرايا.

ورغم أن الجنَّ أجسام لطيفة مخلوقة من مارج من نار أي من عالم المادة إلا أنهم مثلنا ذوو شعور وأرواح تسيطر على المادّة، فلم يُصنَّفوا في الجمادات والكائنات الأخرى لأنهم ذوو شعور وإدراك، فهم مكلَّفون مثلنا بالإيمان بالله والعبادات دون أدنى فرق.

والجنُّ المخلوقُ من مارجٍ من نار يتمثل في صور شتَّى، فكما يتمثّل لبعض الناس في عالم المعنى في الرؤيا قد يتمثّل لهم خارجَها ويشاركهم العالم الذي يعيشونه، فمثلًا: قد يتمثَّلُ لك في الرؤيا أحدُ أقاربك، أو بعض المشاهد من عالم البرزخ، وأيضًا قد يتمثل الجن ويظهر للناس رأي العين، لكنهم لا يرونه بهويته الحقيقية، وما يرونه إن هو إلا انعكاس لمرايا أرواح من يتمثلون لهم، وهذا الانعكاس يأتي على حسب استعداد المستقبِل.

وهذا يفسر سبب اختلاف رؤية سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه للجن عن رؤية سيدِنا أبي هريرة وسيدِنا أبي ذر رضي الله عنهما، فمثلًا: رأى سيدنا ابن مسعود رضي الله عنه الجنَّ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة ظلّ، ورآهم سيدنا عمر رضي الله عنه على صورة إنسان ضعيف نحيف، ورآهم أبو ذر رضي الله عنه على صورة أخرى… وهذا يبرهن أن الجنّ يتمثلون في أشكال وصور شتّى.

أما مسألة تحضير الجن والأرواح، فكم من الأفراد والمنظمات يشتغلون بهذا الأمر بأسماء وألقاب متنوعة، بل أغرق بعضهم وزعم أنه التقط صورًا للجن والأرواح.

فهل يمكن تسخير الجنّ والأرواح، وهل يمكن أن نراهم؟ هذا أمر قابل للنقاش.

أما تسخير الجن فسيكون الاتصال بالجنّ في آخر الزمان على مستوى أعلى؛ وقد تُمكِّنُ التطورات العلمية والدراسات الحديثة مِنْ تَلقّي الأخبار عن طريق الجن في أمور من عالم الشهادة -لأنَّ الجن لا يعلمون الغيب- وإجراءِ اتصالات استخباراتية من خلالهم، والاستفادة منهم في شؤون تناسب طبعهم.

كم سمعنا وقرأنا عن مسألة مسّ الجنّ وحضورهم وتحضيرهم حتى إنها أصبحت من الأمور المسلَّم بها لدى الناس جميعًا، وإليكم حادثة وقعت لي في هذا الأمر: عُدتُ مريضًا أصيب بمسّ الجن، وأخذتُ معي كتابًا فيه أسماء أهل بدر رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وبينما أنا على أول سُلّم البيت إذ بي أسمع المريض يرفع عقيرته ويقول: إنهم يمنعونني أن أَقْبَل هذا الكتاب؛ فلما دخلتُ عليه وقدمتُ له الكتاب، ضمَّه إلى صدره، ورغم أنه لا يَعرف محتوياته صرخ قائلًا: “جاء سيدنا حمزة (رضي الله عنه) ففررتم، أليس كذلك؟!”

وذكر أخٌ لنا عمل في مؤسسة خيرية أنه كان يشاهد أحيانًا في المبنى الذي يقيم فيه حَراكًا لبعض الأشياء ومحاولات لفتح الباب عنوة، وجولانًا هنا وهناك؛ وقد أقمتُ في هذا المكان بضع ساعات، فشاهدت حوادث كثيرة.

وحكى لي أخ متخصص في الطب النفسي واقعة حدثت له، قال: في مكان ما كانوا يحضّرون الجن ويستعملون فيه فنجانًا وكان الفنجان يتوجه إلى حروف معينة مكتوبة حوله على المنضدة فيجيب على أسئلتنا؛ وضعت يدي على الفنجان فلاحظت أنه يتحرك، وأنه يتجه نحو الحروف والأرقام التي على المنضدة، فحضر الشيطان عند تحضير الأرواح، فقلنا له: من أنت؟ فكتب: الشيطان، فأخذتنا الرجفة، لقد حضر -دون داع- عدو الإنسانية منذ آدم عليه السلام؛ فخطر ببالي شيء، قلتُ له:

هل لك أن تَسمعني وأنا أقرأ لك شيئًا؟

فقال: أسمعك.

فشرعت في القراءة من “رسائل النور” لبديع الزمان سعيد النورسي:

“هب أنّ ملايين المصابيح الكهربائية تتجول في مدينة عجيبة دون نفاد للوقود ولا انطفاء؛ ألا تُري بإعجاب وتقدير أن هناك مهندسًا حاذقًا، وكهربائيًّا بارعًا لمصنع الكهرباء ولتلك المصابيح؟” ما رأيك؟

-نعم، هذا صحيح.

فواصلت القراءة:

“فمصابيحُ النجوم تتدلّى من سقف قصر الأرض، وهي وفقًا لعلم الفلك أكبرُ من الكرة الأرضية نفسها بألوف المرات، وأسرعُ في مسيرها من الصاروخ بلا خلل في نظامها، ولا تصادم فيما بينها ألبتة ولا انطفاء ولا نفاد وقود؛ هذه المصابيح تشير بأصابع من نور إلى قدرة خالقها المطلقة، فشمسنا مثلًا -وهي أكبر بمليون مرة من كرتنا الأرضية، وأقدم منها بمليون سنة- ما هي إلاّ مصباح دائم، وموقد مستمرّ لدار ضيافة الرحمن؛ ويقتضي استمرار اتقادها واشتعالها وتسجيرها كلَّ يوم وجود وقود بقدر بحار الأرض، وفحم بقدر جبالها، وحطب أضعاف أضعاف مساحة الأرض؛ وإنما تُوقدُها وأمثالَها من النجوم بلا وقود ولا فحم ولا زيت دون انطفاء وتُسيِّرُها معًا بسرعة عظيمة دون اصطدام قدرةٌ لا نهاية لها وسلطنةٌ عظيمة لا حدود لها؛ فهذا الكون العظيم وما فيه من مصابيح مضيئة وقناديل متدلية يكشف بوضوح -وفقَ ما قرأتم أو ستقرؤون من قوانين علم الكهرباء-، عن سلطان هذا المعرض العظيم والمهرجان الكبير، ويعرّف منوِّره ومدبِّره البديع وصانعه الجليل بشهادة هذه النجوم المتلألئة، ويحبِّبه إلى الخلق جميعًا بالتحميد والتسبيح والتقديس بل يسوقهم إلى عبادته سبحانه.” فاعترض الفنجان على ذلك بشدة وكتب:

-كلا، كلا.

فقلت: والآن أصغ إليّ:

“لو أن صيدلية ضخمة في كل قارورة منها أدوية ومستحضرات حيوية وُضِعت فيها بموازين حساسة وبمقادير دقيقة؛ ألا تُثبت لنا أن وراءها صيدليًّا حكيمًا وكيميائيًّا ماهرًا؟”

-بلى.

“كذلك صيدلية الكرة الأرضية، فيها أكثر من أربعمائة ألف نوع من الأحياء من نبات وحيوان، وكلٌّ منها في الحقيقة بمنزلة قارورة مستحضرات كيميائية دقيقة، وقِنّينة مخاليط حيوية عجيبة؛ هذه الصيدلية الكبرى تكشف حتى للعميان عن صيدليّها الحكيم ذي الجلال، وتعرّف درجةُ كمالها وانتظامُها وعظمتُها بخالقها الكريم سبحانه، وذلك قياسًا على صيدلية السوق المذكورة، ووفقًا لما تقرؤون في قوانين علم الطب”. فعارضني ولم يدعني أسأل عن شيء، وقال:

-كلا، كلا.

كان يردّ بالموافقة على الأمثلة التي أقرؤها، فإذا قرأت الحقائق التي تشير إليها تلك الأمثلة اعترض ورفض. عرضت عليه أن أقرأ دعاء، قال: اقرأ.

وضعت يدي على الفنجان وأنا أقرأ دعاء من الأدعية المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا به يتحرك بسرعة فائقة حتى إنني لم أستطع التحكم في أصبعي، ثم سقط الفنجان، وكتب بسرعة: دعك من هذا الهراء!

يقول الأستاذ النورسي في هذا الصدد:

“مثلـما ثبت بالـمشاهدة ثبوتًا قطعيًّا وجود أرواحٍ خبيثة في أجساد بشرية في عالـم البشر، تنـجز وظيفة الشيطان وأعمالـه، ثبت كذلك ثبوتًا قطعيًّا وجود أرواحٍ خبيثة بلا أجساد في عالـم الـجنّ، فلو أنها أُلبست أجسادًا مادية لأصبـحت كأولئك البشر الأشرار، و وهكذا شياطين الإنس ممن هـم على صورة بشر لو خرجوا عن أجسادهـم لأصبـحوا أبالسة الـجنّ”[2].

فلو لاحظنا ما هنا لوجدنا أن أقوال شياطين الإنس والجن وعباراتهم واحدة، لاحظوا الشبه الجليّ بين قول الجنيّ “دعك من هذا الهراء!” وقولِ بعض الناس.

يدعي يعض الناس أنهم يحضّرون الأرواح، والراجحُ في الواقع أن الذي يحضُر هو الجن، فيصبح من يقوم بهذا أضحوكة للجن والشياطين، وأظنّ أن هذا الأمر لو بُحِثَ بعمقٍ ونُظِر فيه بعناية أكثر فقد تظهر نتائج مفيدة؛ أمّا ما يفعله هؤلاء الآن فلا يعدو أن يكون أضحوكة وتخليطًا.

[1] بديع الزمان سعيد النُّوْرسي، الكلمات، الكلمة التاسعة والعشرون، المقصد الثاني، ص. 597.

[2] بديع الزمان سعيد النُّوْرسي، اللمعات، اللمعة الثالثة عشرة، الإشارة العاشرة، ص. 113.