سؤال: يأمر الله تبارك وتعالى في سورة هود بالاستقامة، ثم ينهى عن الركون ولو قِيدَ أنملة إلى الظَّلمة، فما الإشارات التي يمكن أن نستلهمها من هذه الآيات المباركة؟
الجواب: يقول الحقّ تبارك وتعالى:
﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ (سُورَةُ هُودٍ: 11/112).
هذا أمر للمسلمين بالاستقامة موجه إلى شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلنعدّه موجهًا إلينا أيضًا، وكأنّ الله تعالى يقول: “فاستقيموا أيها المؤمنون كما أُمرتم”.
علينا أن نتجنّب بدايةً الجراثيم الفتّاكة الباعثة على الميل للظلم والظالمين.
سرُّ توجيه الأمر للمفرد المخاطب ثم النهي للجمع؟
في هذه الآية تبجيلٌ وتكريمٌ للنبي صلى الله عليه وسلم، وكأنّ الله تعالى يُشيد بخُلُقه العظيم ويخاطبه بقوله: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾ (سُورَةُ هُودٍ: 11/112)؛ وهذا -ولله المثل الأعلى- كما يعجَب الأبُ بحسن أخلاق ولده الصغير واستقامته ويقول له: “ثابِرْ على هذا الدرب ما حييتَ”؛ ومن الخطأ جزمًا أنْ نفهم من الأمرِ التعريضَ بأنَّ سيد السادات صلوات ربي وسلامه عليه قد انحرف عن الجادّة -حاشا وكلّا- فجاءت هذه الآية تأمره بالاستقامة؛ فالآية لا تدلُّ على هذا المعنى لا منطوقًا ولا مفهومًا؛ فالاستقامة دأبه الدائم صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله ومشاعره وخواطره؛ فمعنى الآية: “على هذا النهج الحسن دُمْ دائمًا”، وإلى هذا يشير النهي الوارد بصيغة الجمع بعد الأمر بصيغة المفرد: ﴿وَلاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾، والمتأمل لهذه الآية وأمثالها يجد أنّ القرآن الكريم إذا دعا إلى البرّ خاطب النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة بصيغة المفرد كقوله ﴿فَاسْتَقِمْ﴾، وأما النهي فيورده بصيغة الجمع كقوله: ﴿وَلاَ تَطْغَوْا﴾؛ ويُستنبط من هذا أن المقصود بالخِطاب هو الأمة المحمدية، أما سرّ توجيه الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فذاك لأنّ لنا فيه أسوة حسنة.
من أسباب ميل الإنسان إلى الظالمين حبّ التمجيد والمديح، والشغفُ بالرفاهية، والولع برغد العيش، والتعلّق المفرط بالأهل والبنين.
وللنهي عن الطغيان بعد الأمر بالاستقامة مباشرة مغزًى عميق، وهو أنّ كلّ مَن ينحرف عن الاستقامة ينزلق رويدًا رويدًا في الضلال والطغيان؛ فلزم تحذير أهل دار الابتلاء من الطغيان إبّان دعوتهم إلى لزوم الاستقامة.
حذار حذار من الظلم بأنواعه كافة
أشار السؤال إلى الآية التالية:
﴿وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ﴾ (سُورَةُ هُودٍ: 11/113)
وهذا نهيٌ عن الركون ولو قليلا إلى الذين ظلموا، وتحذير من القعود معهم؛ لأن مَن يركن إلى الظلم ويميل ولو قدر أنملة إلى الظالمين قد يتردّى شيئًا فشيئًا دون وعي في مثل هذا الغيّ، أي سينحرف بشكلٍ ما عن خطّ الاستقامة.
وأفاض القرآن الكريم في حديثه عن الظلم، فذكر ما يكون من الكفرة والمنافقين من ظلم وطغيان، وما يقترفه بعض المسلمين من آثام، يقول تعالى:
﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ (سُورَةُ الأَنْعَامِ: 6/82).
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: “لَمَّا نَزَلَتْ ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ قَالَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّنَا لَمْ يَلْبِسْ إِيمَانَهُ بِظُلْمٍ؟ فَنَزَلَتْ ﴿لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ (سُورَةُ لُقْمَانَ: 31/1)[1]؛ سَرَّتْ هذه الآية عن المسلمين وأخبرتهم أن المقصود من الظلم المذكور في الآية هو الشرك بالله.
فمن الظلم انتهاك حرمات الله، والاستخفاف بأوامره، وصدّ الناس عن أداء التكاليف الشرعية، والتسبب في الفتنة والفساد، ومثل ذلك تجاهُل الحقّ والحقيقة، والتضييق على المسلمين واستهدافهم حسدًا وغيظًا، والحديث عن الحق والعدل دون السعي إلى إحقاقهما، والاعتداء على حقوق الخلق، واختلاس أموال الناس، واستغلال الرؤساء -أيًّا كانت مناصبهم- للمرؤوسين في مصالحهم الشخصية، ناهيك عن عدِّهم هذا الأمر حقًّا لهم عليهم.
ففي الآية أمر بتجنّب أنواع الظلم كافة، بل نهي عن الميل إلى الذين ظلموا.
ولا يفوتنا أن نذكر نكتة لطيفة في هذا المقام:
الظلم لا يعني الجور والطغيان فحسب، بل مِن الظلم أيضا محاباة أي مسؤول في أي موقع لأقاربه وأنصاره ومن كان على نهجه، وأكل أموال الناس ولو شروى نقير.
ودلت الآية الكريمة أنّ الميل إلى الظالم -أيًّا كان مستوى الميل- يوجب النار؛ فدخل في عموم النهي ﴿وَلاَ تَطْغَوْا﴾ مجالسة الظالمين وتجاهل ظلمهم وغبطتهم وتمني المرء أن لو كان مكانهم؛ كيف والحق تعالى يقول:
﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾ (سُورَةُ الأَنْعَامِ: 6/68).
فهذا أمر بالانصراف عن مجالس الظالمين ممن تلوك ألسنتهم بذيءَ الكلام ازدراءً لقيم جديرة بالتبجيل والتقدير.
أجل، بينما الحقّ سبحانه وتعالى يرشد المسلمين إلى الاستقامة وينهاهم عن الطغيان، حذّرهم من الميل إلى الحيف والظلم.
إنّ مَن اتخذ الاستقامة أساسًا لنيته وحياته وكلامه وتصرفاته وأفعاله سيثور على الظلم والبغي؛ وفي كتاب الله آية تتحدث عن ثواب مَن يتجنبون الظلم بأنواعه كلّها وهم على خطّ الاستقامة ماضون، يقول الحق تبارك وتعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ (سُورَةُ فُصِّلَتْ: 41/30).
سؤال: لماذا يميل المرء إلى الظالمين؟
الجواب: لعلّ للركون إلى الظلم والذين ظلموا أسبابًا عدّة؛ فقد يتغاضى المرء عن الظلم ويصفقّ للظالمين، والتاريخ شاهد على أناسٍ تعساء صفقوا للظلم واستحسنوا عمل الظالمين خوفًا على مقاماتهم ومناصبهم؛ وسيأتي قوم يكيلون الثناء للظالمين كيلًا حرصًا على مناصبهم وما فيها من رفاهٍ؛ أجل، إنّ حبّ المنصب جرثومة فتّاكة تُخضِع المرء للظلمة.
من الظلم انتهاك حرمات الله، والاستخفاف بأوامره، وصدّ الناس عن أداء التكاليف الشرعية، والتسبب في الفتنة والفساد، وتجاهُل الحقّ والحقيقة.
ومن أسباب ميل الإنسان إلى الظالمين حبّ التمجيد والمديح، والشغفُ بالرفاهية، والولع برغد العيش، والتعلّق المفرط بالأهل والبنين؛ نعم، لن ينفكّ عن الترحاب بالظالمين أبدًا مَن همّه ذووه وبنوه وأحفاده وذريته، ومنتهى همته قصرٌ في أعالي الجبال أو شواطئ البحار، والتمتع بهذا المكان شتاءً وبذاك صيفًا، وقد يحسب مثلُ هذا أنه على طريق الحقّ ماضٍ وهو يسير على مزلاج سرعان ما ينزلق منه ويخسر حيث تُرجى النجاة.
وما أكثر الأسباب والجراثيم في هذا الصدد! وكلٌّ منها نافذة مفتوحة على الظلم، فمَن واربَ بابًا منها ألفى نفسه في مستنقع الظلم؛ فليباعد المرء بينه وبين الظلم وسبله أميالًا؛ فـ”سدُّ الذرائع” المعروف لدى الأصوليين واجب ههنا، فليُغلِق الإنسانُ بل فليُوصِد منافذ الضعف التي تسوقه إلى الظلم كالخوف وحبّ المنصب والشغف بالتهليل والمديح؛ إذًا علينا أن نتجنّب بدايةً الجراثيم الفتّاكة الباعثة على الميل للظلم والظالمين كما نتصدّى للأمراض فنتقي الجراثيم المعدية بالتَّماس، وهذا هو الطريق الأسلم، وكل سبيل سواه قد يفضي بالإنسان إلى الحيف والظلم من حيث لا يدري، وهذا يعرِّضه لمزيد من الحرمان؛ ففي فاصلة الآية الكريمة أنّ من يميلون إلى الظلم ما لهم من دون الله من أولياء ثم لا يُنصرون؛ وذلك لانقطاع صلتهم بربهم سبحانه وتعالى.
نهى القرآن عن الركون إلى الظالمين، وحذر من القعود معهم؛ لأن مَن يركن إلى الظلم ويميل إلى الظالمين قد يتردّى دون وعي في الغيّ.
وأريد أن أذكر في النهاية مسألة أخرى: يقول الله تعالى عقب هذه الآية الكريمة التي تنهى عن الركون إلى الذين ظلموا:
﴿وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾ (سُورَةُ هُودٍ: 11/114).
وللأمر في هذه الآية مغزًى عميق: إن التناسب بين هذه الآيات يُظهر أنه طالما استطاع الإنسان أن يتخلى عن الإسلام الصُّوري وأن يقيم الصلاة بأركانها الظاهرة والباطنة، فقد أمِنَ من الركون إلى الذين ظلموا ومن استحسان أفعالهم.
[1] صحيح البخاري، أحاديث الأنبياء، 41.