يروي معاذ بن جبل وغيرُه من الصحابة الكرام رضي الله عنهم حادثة شاهدوها عند الرسول، في حديث أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم من المحدّثين:
اسْتَبَّ رَجُلَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ عِنْدَهُ جُلُوسٌ، وَأَحَدُهُمَا يَسُبُّ صَاحِبَهُ، مُغْضَبًا قَدِ احْمَرَّ وَجْهُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً، لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَوْ قَالَ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ” فَقَالُوا لِلرَّجُلِ: أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: إِنِّي لَسْتُ بِمَجْنُونٍ.”[1]
وهذا الرجل أساء الأدب مع الرسول، ومن المحتمل أنه كان في قلبه نفاق أو أنه لم يَفهم كنهَ هذا الأمر، مع أن غرض الرسول كان مختلفًا تمامًا، حيث كان يريد أن يبعده عن هذا الجوِّ الخانق الذي يعيشه، بمعنى أنه:
كان يقول له: إنك إذا قلت هذا القول تكونُ قد فوَّضْتَ أمرَك وأمرَ الشيطان إلى الله، وتنبه! إن أنواع الانتقام التي تحيكها في خيالك تجاه هذا الرجل الذي غضبتَ عليه إنما هيَ ستؤثِّر فيك، وفي نهاية المطاف سيَرجع ضررُها إليك لا إليه، وفي المقابل إذا فوَّضْتَ الأمرَ إلى الله فإنه سينتقم لك انتقامًا لن تَقْدِر على مثله ولو عُمِّرتَ ألف عام، فلذلك عليك أن تستعيذ بالله.
إن الرسول بقوله هذا يذكِّره بما يلي: أحيانًا يتخاصم اثنان ويترافعان، ولا يُدْرَى مَن المُحِقُّ منهما ومَن المُبْطِل؟ ففي مثل هذا يكون الأنسبُ تفويضَ الأمر إلى الله تعالى، فقولُ المرء في هذه الحالة “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم” يعني: “أعوذ بالله من شرِّ الشيطان، ومن أن أتَّخِذَ قرارًا خاطئًا، أو أنحازَ إلى أمرٍ بغير حقٍّ…”. فقوله هذا سيَصبُّ الماء على هذا اللهيب الشيطاني الهائل…
والرسول ضمنَ ذلك يشير إلى نقطةٍ مفادُها: إنك بما تملك من القوّة والطَّاقة والجبروتِ تتجاسَرُ وتُـقْدِم على شَجِّ هامة خصمك، والحالُ أنك مهما كنتَ قويًّا فالله أقوى منك، فالتجِئْ إليه واسْتَجِرْ به.
فهذا الرجل -الذي يعاند تجاه هذه الجملة المباركة التي تَصْدُر من الرسول، والتي تحتوي كلَّ هذه المعاني السامية- سيُحْرَم من ذلك كلِّهِ، ويصبحُ مغلوبًا ومقهورًا أمام نفسِهِ وشيطانِهِ.
المصدر: فتح الله كولن، خواطر من وحي سورة الفاتحة، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.