إن الاستعاذة في أحدِ معانيها: ضربٌ من ضروب الاعتذار، ومن جانبٍ آخرَ هي: علامةٌ على صدق المحبّة وسلامةِ الولاء، وحسب تعريفٍ آخر هي: تفويضُ المخلوقِ للخالقِ كل أمورِهِ وكلَّ ما يتعرّض له من الارتباك والحيرة، فها هو سيدنا نوح عليه السلام الذي كان من أولي العزم من الرسل، حينما نبَّهَهُ الحقُّ تعالى في ابنه بقوله: ﴿يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ نراه على جناح السرعة يقول: ﴿رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْاَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ﴾ (سورة هُودٍ: 11/46).
من كان ذا معرفة بالله لا يسمى “جاهلًا” مهما قَلَّ نصيبه من العلم، ولكن من لم يَعرِف اللهَ فإنه “جاهلٌ” مهما كان غزيرَ العلم.
وسيدنا يوسف u كذلك جابَهَ طلبَ امرأةِ العزيز وتهديداتِها بقوله: ﴿مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾، فنحن نلاحظ ههنا حالًا يعكس مدى الإخلاص وصدق المحبّة لله تعالى، فسيدنا يوسفُ الذي يصوِّره القرآن رمزًا للعِفَّةِ، كان قد أيقنَ بأنَّه إنما يتخلَّص من هذا الأمر بالالتجاءِ إلى الله، وهذا ما حصل فعلًا، فما خابَ ظنُّه ولا كَذَبَ رجاؤُه.
وسيدنا موسى عليه السلام لمَّا تردد قومه وتساءلوا في ذبح البقرة بقولهم ﴿أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا﴾ (سورة البَقَرَةِ: 2/67) قابلهم بقوله: ﴿أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ (سورة البَقَرَةِ: 2/67).
فمن كان ذا معرفة بالله لا يسمى “جاهلًا” مهما قَلَّ نصيبه من العلم، ولكن من لم يَعرِف اللهَ فإنه “جاهلٌ” مهما كان غزيرَ العلم، فهنا يُسنَد الاستهزاءُ إلى نبيٍّ من الأنبياء وهو يستعيذ بالله من ذلك؛ فإنه ليس من الممكن قطعًا أن يَصدُر الاستهزاء من نبيّ؛ لأن ذلك ديدنُ الذين لا يعرفون الله.
الاستعاذة: تفويضُ المخلوقِ للخالقِ كل أمورِهِ وكلَّ ما يتعرّض له من الارتباك والحيرة.
والحقّ تعالى يُعَلِّم نبيَّه بلسان القرآن أن يقول: ﴿رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ $ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ﴾ (سورة الْمُؤْمِنُونَ: 23/97-98).
ومن جانب آخر يوصيه في سورتَي الفلق والناس بالاستعاذة من جموع الشياطين إلى الله تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ $ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ $ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ $ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ $ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾ (سورة الفلق: 113/1-5)، ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ $ مَلِكِ النَّاسِ $ إِلَهِ النَّاسِ $ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ $ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ $ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾ (سورة النَّاسِ: 114/1-6).
المصدر: فتح الله كولن، خواطر من وحي سورة الفاتحة، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.